فيروس كورونا (17 مارس 2020)

مقال لراؤول فانيجيم*

ترجمة: أحمد حسان

* راؤول فانيجيم مفكر بلجيكي وعضو سابق باﻷممية المواقفية، أبرز أعماله «ثورة الحياة اليومية» في 1968.

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


إنكار الخطر الذي يطرحه فيروس كورونا عبثيٌ بالتأكيد. لكن، من جهةٍ أخرى، أليس عبثيًا بنفس القدر أن يصبحَ اختلالٌ في المسار المألوف للأمراض موضوعًا لمثل هذا الاستغلال العاطفي المكثَّف ويثيرَ من جديدٍ نفسَ انعدامِ الكفاءة المتغطرس الذي طردَ منذ سنواتٍ سحابةَ تشيرنوبل خارج فرنسا؟(1) بالتأكيد، نعرف السهولةَ التي يخرجُ بها شبحُ الأﭘوكاليبس من صندوقه لينتهز فرصةَ أول كارثةٍ تأتي، ليُلفِّقَ خيالات طوفانٍ كوني ويغرسَ سنَّ محراث الذنبِ في التُربة المُجدبة لسدوم وعمورة.

أفادت اللعنةُ الإلهية في مساعدة السلطة. فعلت هذا على الأقل حتى زلزال لشبونة عام 1755، حين انتهز المركيز دو ﭘومبال Marquis de Pombal، صديق فولتير، فرصة الزلزال ليقوم بمذبحة الجزويت، ويعيد بناء المدينة طبقًا لتصوراته ويُصفِّي خصومَه السياسيين بابتهاجٍ من خلال محاكماتٍ صورية «ستالينية - بدئية». ومهما كان ﭘومبال كريهًا، لا يجب أن نُهينه بمقارنة مَنقَبته الديكتاتورية(2) بالإجراءات البائسة التي تُطبِّقها الشمولية الديموقراطية عالميًا على وباء فيروس كورونا.

يا لها من كلبيةٍ أن نعزو النقصَ المثير للرثاء في الوسائل الطبية المُستخدَمة إلى تفشي الوباء!(3) فعلى مدى عقودٍ جرى تعريضُ الرفاه العام للخطر، بحيث دفع قطاعُ المستشفيات تكاليفَ سياسةٍ تُحبِّذُ المصالحَ المالية على حسابِ صحةِ المواطنين. ثمَّة دائمًا المزيدُ من الأموال من أجل البنوك والأقلُ فالأقلُ من الأسِرَّة ومانحي الرعاية من أجل المستشفيات. أية أفعالِ تهريجٍ يمكنها مواصلةَ إخفاءِ حقيقة أن هذه الإدارة الكارثيةَ للكارثةِ كامنةٌ في قلب الرأسماليةِ المالية السائدة كوكبيًّا، والتي تجري محاربتُها اليوم كوكبيًّا باسم الحياة، والكوكب، والأنواع التي يجب إنقاذها؟

دون السقوط في إعادةِ تكرار العقوبة الإلهية المتمثلة في فكرة أن الطبيعة تُخلِّص نفسَها من الإنسان وكأنه طاعونٌ ضارٌ وغيرُ مرغوبٍ، من المفيد تذكّرُ أن استغلالَ الطبيعةِ الإنسانية والطبيعة الأرضيةِ، طوال آلاف السنين، قد فرض دوجما الأنتيفيزيس(4) l'anti-physis، الطبيعة المضادة. يؤكد كتاب إريك بوستير Eric Postaire، أوبئة القرن الحادي والعشرين Les épidémies du XXIe siècle، المنشور عام 1997، التأثيراتِ الكارثية لنزعِ الطبيعةِ المُتَّصِل، الذي أشجبُه أنا منذ عقود(5). باستحضار دراما «جنون البقر»(6) (الذي استشرفه رودولف شتاينر منذ عام 1920)،(7) يُذكِّر المؤلِّف بأننا، علاوةً على كوننا مُجرَّدين من السلاح ضد أمراضٍ معينة، نكتسب وعيًا بأن التقدم العلمي ذاته يمكنه أيضًا أن يُسبِّبها. وفي مطالبته بمقاربةٍ مسؤولة تجاه الأوبئة ومعالجتها، فإنه يُجرِّم ما دعاه كاتب المقدمة، كلود جودان Claude Gudin «فلسفة سجل الدفع النقدي». يسأل «ألا يتسبَّب إخضاعُ صحةِ السكان لقوانين الربح، إلى حدِّ تحويلِ حيواناتٍ آكلةٍ للعشب إلى حيواناتٍ آكلةٍ للحوم، في أن نُخاطر بإثارة كوارثٍ قاتلةٍ للطبيعة وللبشرية؟». نعلمُ جيدًا أن الحُكَّام قد أجابوا ب (نعم) إجماعية. لكن ما أهميةُ ذلك حين تُواصِل (لا) المصالحِ المالية الانتصارَ بصورةٍ كلبية؟

هل كان فيروس كورونا ضروريًا حقًا ليُظهِر لأكثرِنا ضيقَ أفق أنّ نزع الطبيعةِ في خدمة الربحية له عواقبُ كارثيةٌ على الصحة الكونية، التي يُديرها بلا انقطاع تنظيٌم عالمي تُموِّه إحصائياتُه الثمينة اختفاءَ المستشفيات العامة؟ ثمَّة علاقةٌ متبادلة بديهية بين فيروس كورونا وانهيار الرأسمالية العالمية. وفي نفس الوقت، لا يبدو أقلَّ من ذلك بداهةً أن ما يُغطِّي عليه وباءُ فيروس كورونا ويحجُبه هو بلاءٌ وجداني، خوفٌ هستيري، هلعٌ يُخفي في آنٍ واحد أوجهَ قصورِ العلاج كما يؤبِّدُ الشرَّ بإرعاب المريض. خلال طواعين الماضي الكبرى، كان السكان يمارسون التوبةَ ويُعلنون ذنبَهم بجلدِ أنفُسِهم.(8) أليس لمديري نزع الإنسانيةِ العالمي مصلحةٌ في إقناع الناس بأن لا مهربَ من القدرِ البائس الذي صُنِع لهم؟ بأن كلَّ ما يتبقّى لهم هو جَلْدُ العبودية الطوعية؟ لا تفعل آلة الميديا الهائلة سوى تكرار الكذبة القديمة للمرسوم السماوي، المُصمَت، الحتمي، الذي حلَّت فيه الأموالُ المجنونة محلَّ آلهةِ الماضي الدموية والمتقلبة.

لقد بيَّن إطلاقُ عنان همجية الشرطة على المتظاهرين السلميين بوضوحٍ أن القانونَ العسكري هو الشيءُ الوحيد الذي يعملُ بكفاءةٍ. اليوم يُفرَضُ الحجرَ الصحِّي على النساء، والرجال، والأطفال. في الخارج: التابوت. وفي الداخل: التلفزيون، النافذةُ المفتوحة على عالمٍ مُغلق! هذه ممارسةٌ مسؤولة عن استفحال القلقِ الوجودي لأنها تُراهن على عواطفٍ خَدَشها الكربُ، وتُفاقم عمىَ السخط العاجز.

لكن حتى الكذبة تُفسح الطريقَ للانهيار العام. فنشرُ القماءة الحكومي والشعبوي قد بلغ أقصى حدوده. ولا يمكنه إنكارُ أن ثمَّة خبرةً تجري. يتنامى العصيانُ المدني ويحلم بمجتمعاتٍ جديدةٍ جذريًا لأنها إنسانيةٌ جذريًا. يُحرِّرُ التضامنُ أولئكَ الأفرادَ الذين لم يعودوا يخشون التفكير لأنفسهم، من جلودِ الخراف الفرديةِ النزعة.

كشف فيروسُ كورونا إفلاسَ الدولة. فهناك على الأقل موضوعٌ للتأمل لضحايا العزلة القسرية. في زمن نشر مقالي اقتراحاتٌ متواضعة للمُضربين Modestes propositions aux grévistes ،(9) أوضح لي أصدقاءٌ من جديدٍ صعوبةَ اللجوء إلى الرفضِ الجماعي، الذي اقترحتُه، لسداد الرسومِ، والضرائبِ، والجبايات. إلاّ أن الإفلاسَ المُعلَن للدولة المخاتلة قد شهدَ على تدهورٍ اقتصادي واجتماعي يجعلُ الشركاتِ الصغيرة والمتوسطة، والتجارةِ المحلية، وذوي الدخول المتواضعة، والمزارع المملوكة للعائلات، وحتى ما يسمى بالمهن الحرة، عاجزةً تمامًا عن دفع ديونها. نجح انهيارُ اللوياثان Léviathan في إقناع الناس أسرع مما فعلت قراراتُنا بإسقاطه.

وقد فعل فيروس كورونا ما هو أفضل من ذلك. فقد قلَّلَ توقُّفُ الأضرار الناشئة عن الإنتاج من التلوثِ العالمي؛ نجا ملايينُ الناس من موتٍ مُبرمَج؛ وتمكنت الطبيعةُ من التنفُّس؛ عادت الدرافيلُ لتمرح في سردينيا؛ وعاد الماء في قنوات ﭬينيسيا، وقد تطهَّرت من السياحة الجماعية، نقيًّا من جديد؛ وتنهارُ البورصة. وإسبانيا مُصمِّمةٌ على تأميم المستشفيات الخاصة، كأنها أعادت اكتشاف الضمانِ الاجتماعي، كأن الدولة [الإسبانية] قد تذكَّرت دولةَ الرفاهِ التي دمَّرتها.

لا شيء مؤكدٌ، كلُّ شيءٍ يبدأ.(10) اليوتوبيا ما زالت تحبو على أربعٍ. فلنترُك لقزميتها السماويةِ تلك الملياراتِ من أوراق البنكنوت (11) والأفكارِ الجوفاء التي تُدوِّم فوق رؤوسنا. الشيءُ المهم، هو أن «نهتم بشؤوننا بأنفسنا» بترك الفقاعةِ المالية تنفجرُ وتنطمر. دعونا لا نفتقدُ الجسارةَ والثقةَ بأنفسنا!

حاضرُنا ليس العزلةَ التي يفرضُها علينا البقاءُ؛ إنه الانفتاحُ على كل الإمكانات. بسبب الهلع تُضْطَرُ الدولةُ الأوليجاركية إلى تبنّي إجراءاتٍ كانت بالأمسِ فقط قد قرّرت أنها مستحيلة. ونحن نُريد أن نستجيبَ لنداء الحياةِ والأرض التي يجب استعادتُها. الحجرُ الصحي مُواتٍ للتأمل. العزلة لا تتخلَّى عن حضورِ الشارع؛ بل تُعيدُ اختراعَه. Cum grano salis، دعوني أعتقدُ أن عصيانَ الحياة اليومية له فضائلُ علاجيةٌ غير مُتوقّعة.(12)


(1) في 26 أبريل 1986، انفجر أحد مفاعلات تشيرنوبل في أوكرانيا وسبّب انتشار سحابةٍ مُشعّة فوق كل أوروبا. أوحىَ بعضُ متنبئي الأرصاد الجوية التلفزيونيين في فرنسا أن السحابة ستتوقف عند الحدود الألمانية وتُعفي فرنسا «بصورةٍ إعجازية».
(2) التعبير الفرنسي هنا، coup d'éclat، قد يكون تورية على coup d'etat (انقلاب).
(3) التعبير الفرنسي هنا، fléau، وتعني أيضًا لعنة وطاعون.
(4) في أعمال رابليه، الفيزيس بهيجٌ وطَلْقٌ والأنتيفيزيس بغيضٌ ومُدمِّر.
(5) لم يُتَرجم بعد إلى الإنجليزية.
(6) مرض الالتهاب الدماغي الاسفنجي في البقر هو مرض تدهورِ أعصاب يُصيب الماشية. يتسبب فيه استهلاكُها لوجبةٍ من اللحم والعظام، انفجر «جنون البقر» في الوعي العام خلال تسعينات القرن العشرين.
(7) كان رودولف شتاينر Rudolf Steiner (1861- 1925) فيلسوفًا نمساويًا ومُصلحًا اجتماعيًا. يشير ﭬانيـﭽيم إلى مفهوم شتاينر في الزراعة الدينامية – الحيوية.
(8) راجع: Raoul Vaneigem, «The Flagellants», Resistance to Christianity (1993) www. Notbored.org
(9) نشرته Vericales عام 2004.
(10) صدى لـRien n'est fini, tout commence، وهي مجموعة من الحوارات مع ﭬانيـﭽيم نُشِرتْ بالفرنسية عام 2014، وتُرجِمتْ إلى الإنجليزية بواسطة NOT BORED بعنوان: Self- Portraits and Caricatures of the Situationist International (2015).
(11) باﻹنجليزية في اﻷصل
(12) «بشعرة ملح» (لاتينية في الأصل).