الحياة المجرَّدة

مقال لشهاب الخشاب

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


إيه الفرق بين الحبس والحبس الاحتياطي؟ في دولة العدل، الحبس هو العقوبة المستحقة للجاني المجرم الشرير. العقوبة نتيجة عملية قانونية بتبدأ بالقبض على المتهم، ثم التحقيق معاه، ثم المحاكمة وتحديد العقوبة (وإذا ربنا كرمه، البراءة). في إطار العملية القانونية دي، الحبس الاحتياطي عبارة عن مفهوم تقني. المفهوم بيشير إلى فترة حبس بيقضيها المتهم على ذمة القضية، قبل ما ياخد حكم، مع توافر بعض الشروط القانونية، والفترة دي مؤقتة ومحسوبة باليوم والساعة. أما في دولة الظلم، فالفرق بين الحبس والحبس الاحتياطي بيختفي. المنظومة القانونية ما بتتبعش الإجراءات اللازمة بالورقة والقلم، وبالتالي الناس بتتحبس بلا سبب قانوني واضح وبلا توقعات عن فترة حبسها. القبض في حد ذاته بيتحول إلى عقوبة، بما إن المقبوض عليه بيتحبس سواءً كان أخد حكم أو ما أخدش.

زوال الفرق بين الحبس والحبس الاحتياطي مش بس مؤشر عن انهيار المنظومة القانونية، وإنما كمان دليل عن اختلاف جذري في رؤية الدولة للإنسان. في دولة العدل، الإنسان مواطن وعنده حقوق سواءً كان متهم أو محبوس أو مجرم، واتباع الإجراءات القانونية بيضمن الفرق بين عقوبة زي الحبس وإجراء زي الحبس الاحتياطي. أما في دولة الظلم، فالإنسان ما هواش مواطن ولا عنده حقوق، وإنما بيتحول إلى جسد حيّ تحت سطوة الحكم السيادي وبس. في تعبير الفيلسوف جيورجيو أجامبن (Giorgio Agamben)، الإنسان في الحبس الاحتياطي ماعندوش إلا «حياة مجرّدة» (vita nuta).

في كتاب «المنبوذ» (Homo Sacer)، أجامبن حلل الوضع القانوني للإنسان المرفوع خارج القوانين العادية. ترجمة «المنبوذ» هي اختزال للمفهوم اللي استخلصه أجامبن من سياق القانون الروماني القديم. الـhomo sacer مش مجرد شخص منبوذ في السياق ده، وإنما هو شخص بيترفع برة قانون البشر وقانون الآلهة في نفس الوقت. من ناحية، الشخص ده منفي وممكن يتقتل بدون ما القاتل يتعاقب (وبالتالي ما بيتمش التعامل معاه وفقًا لقوانين القتل المعتادة). ومن ناحية تانية، لا يمكن تضحيته حسب الطقوس الدينية الشائعة في وقتها (وبالتالي ما بيتمش التعامل معاه زي الضحية المقدسة في المناسبات الدينية الرومانية). يعني الشخص ده مكرَّس للقتل ولكنه ما ينفعش يتضحى بيه، والوضع ده تحديدًا بيمثل استثناء بالنسبة للقوانين البشرية والإلهية في السياق الروماني. وبالمعنى ده، نقدر نقول بشكل أدق إن الـhomo sacer هو «الرجل المُستثنى».

في رأي أجامبن، الرجل المُستثنى هو النموذج الأصلي للعلاقة بين القانون والحياة، بين السلطة السيادية والناس اللي بتخضع للسلطة دي. في الأدبيات الإغريقية الكلاسيكية، وفي العالم العتيق عمومًا، ما كانش فيه مفهوم واحد للـ«حياة» زي المفهوم الموجود في اللغات الأوروبية الحديثة. قدماء اليونانيين كانوا بيفرّقوا بين «الزوي» (zoé)، بمعنى الحياة اللي بنشارك فيها مع جميع الكائنات الحيّة، و«البيوس» (bios)، بمعنى الحياة البشرية اللي لازم تتعاش حسب قوانين المدينة. في الإطار ده، الحياة السياسية مالهاش علاقة بالحياة بمعناها البسيط. أما مع تطور السياسة الحيوية الحديثة، فالحياة في شكلها الأبسط هي تحديدًا اللي بيتم تسييسها. الحياة اللي مالهاش نقيض إلا الموت بتحل محل حياة المواطن اللي عنده حقوق، وهي دي «الحياة المجرّدة» في تعبير أجامبن. 

تسييس الحياة المجرَّدة بيتم في إطار حالة الطوارئ الدائمة. تحت حالة الطوارئ زي أيام حسني مبارك مثلًا، القانون بيترفع باسم الحفاظ على دولة القانون، وبالتالي الدولة بتفرض قوة القانون في غيابه حسب تعبير أجامبن. السلطة السيادية (وعلى رأسها مبارك) بتستثني نفسها عن القانون، وفي نفس الوقت بتحاول تطبقه بالقوة. لذلك السلطة بتحوِّل جميع البشر تحت سطوتها إلى رجال مُستثنين، يعني ناس بتترفع برة القانون برضه، وبتخسر حقوقها أثناء حالة الطوارئ الدائمة. أجامبن لاحظ إن فيه تماثل تام بين السيادة والحياة المجرَّدة بالمنطق ده. بالنسبة للسلطة السيادية، كل البني آدمين ممكن يكونوا متاحين للقتل ولو إن ما نقدرش نضحي بهم؛ وبالنسبة للناس المُستثنين من جميع القوانين، أي بني آدم فوقيهم يقدر يمارس عليهم سيادة مطلقة.

الفضاء المثالي اللي بيحقق تجريد الحياة أثناء حالة الطوارئ الدائمة حسب أجامبن هو المعسكر، وتحديدًا معسكرات الموت النازية اللي استُخدمت لإبادة اليهود والشيوعيين والمثليين، وعمومًا جميع العناصر اللي كانت بتتشاف على إنها بتضعف العرق الآري. جوه المعسكر، حياة الإنسان اليهودي أو الشيوعي أو المثلي بتفقد كل ملامح الحقوق والمواطنة، وأجسادهم بتتجرَّد من كل شيء ما عدا الحياة بمعناها الأبسط. لذلك ما بيبقاش قدامهم إلا الموت عاجلًا أم آجلًا، وحيواتهم متاحة للقتل. القتل ده مش تضحية في سبيل شيء أكبر، وإنما قتل مبرر بمنطق إن حيواتهم ما تستحقش إنها تتعاش. والقرار السيادي اللي بيسمح بقتل الناس بلا عقوبة في إيد قائد المعسكر (وبالتبعية في إيد الزعيم، باعتباره قائد المعسكرات كلها). 

حسب أجامبن، نموذج المعسكر ما انتهاش مع نهاية الحكم النازي، وإنما انتشر كنموذج للسياسة الحيوية في العالم المعاصر. أحد أشكال المعسكر الحالي هو معسكر اللاجئين، ورغم إنه مش معسكر مكرَّس للإبادة، بيقدم كل معالم الاستثناء عن القوانين وتجريد الحياة تحت رحمة السلطة السيادية. نموذج حياة اللاجئ المجرَّدة بيكشف حدود الدولة القومية الحديثة. عكس المواطن اللي بيرتبط بوطنه عبر علاقات طبيعية بالأرض والرحم، اللاجئ لا هو جاي من نفس الأرض، ولا هو عنده نفس الدم، وبالتالي مالوش نفس حقوق المواطن إطلاقًا. وعكس المهاجر اللي بيتمتع ببعض الحقوق، اللاجئ في صورته الخالصة مُستثنى من جميع القوانين، وعايش في فضاء استثنائي دائم اسمه «المعسكر»، وحياته مستباحة زي ما هو واضح في حالة آلاف اللاجئين اللي بيتسابوا محبوسين على الشواطئ الأوروبية أو في جزيرة ناورو بعيد عن الأراضي الأسترالية. 

أجامبن فرَّق في كتابه بين السجن والمعسكر، باعتبار إن السجن جزء من منظومة قانونية فيها قبض ومحاكمة وعقوبة، بينما المعسكر فضاء استثنائي مرفوع برة القوانين العادية. وأشار أجامبن إلى إن أول معسكرات ما ظهرتش كتطور طبيعي لنظام السجن، وإنما ظهرت كفضاءات استثنائية مع الحروب الكولونيالية في نهاية القرن الـ19. ولكن نقدر نقول إن مع زوال الفرق بين الحبس والحبس الاحتياطي تحت حالة الطوارئ الدائمة، السجن ما بقاش بس فضاء مقنن جوه النظام الجنائي العادي، وإنما بيتحول إلى فضاء أشبه بالمعسكر – فضاء استثنائي بره كل القوانين. الناس المحبوسين في الفضاء ده عندهم حياة مجرَّدة من كل ملامح المواطنة والانتماء لقوانين المدينة، وبالتالي هم معرّضين للموت بلا أي عقوبة قانونية. الوضع ده واضح مثلًا في سجن جوانتانامو (Guantanamo)، اللي أسسته الولايات المتحدة في كوبا عشان «تحارب الإرهاب» بره قيود القوانين الأمريكية.

بعض الناس شايفة إن الفرق بين دولة العدل ودولة الظلم هو غياب القانون. في التصور ده، المشكلة الأساسية في دولة الظلم إن القوانين ما بتتطبَّقش بالورقة والقلم، وبالتالي انهيار المعايير القانونية بينتج عشوائية في المحاكمة والعقاب. وإنما كل الدول الظالمة عندها قوانين، وحتى ممكن تدعي إنها «دولة القانون» نفسها، سواءً كانت ألمانيا النازية أو الولايات المتحدة أو غيرها. يعني ما نقدرش نقول إن القانون في حد ذاته غايب في الدول دي، وإنما حسب تعبير أجامبن، إن القانون في شكله الصافي بيتفرض بلا معنى (vigente senza significato). القانون موجود رغم إنه فارغ من محتواه. إذن زوال الفرق بين الحبس والحبس الاحتياطي، بين القبض والعقاب، ما بيدِلّش بالضبط على اختفاء القانون، وإنما على فرض القانون في غياب معناه. 

وفي إطار حالة الطوارئ الدائمة، الفرض ده بيجرَّد الحياة من كل شيء إلا الموت.