القيادة

مقال لشهاب الخشاب

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه. 


عيدي أمين، عن Biography

ليه الناس بتختفي؟ تخيَّل إنك نازل مع واحد صاحبك تجيب سجاير من الكشك، وبما إنك ما بتدخّنش رحت تجيب شوية حاجات من البقال عشان تتسلوا فيها سوا. مسافة ما روحت من البقال على الكشك، تلاقي صاحبك اختفى. تستغرب وترجع للشقة تاني، عشان تشوف إذا كان لحق يرجع. بس استحالة يكون رجع، وتلاقي الشقة فاضية فعلًا. فتكلمه على الموبايل وما يردش. وتكلمه تاني، ويرد التسجيل: «...الرقم المطلوب مغلق أو غير متاح». ترجع تاني الكشك تسأل عن صاحبك، وصاحب الكشك يقول لك إنه ما شافوش. فتبتدي تقلق وتكلم أصحابه وأهله، وكمان شوية تبدأ تسأل عنه في الشارع، ويفضل في ذهنك إنكم نزلتوا تشتروا سجاير من كام ساعة بس. والسؤال عمّال يلف في ذهنك: هو صاحبي اختفى إزاي؟

بحكم تربيتي في أسرة من الطبقة الوسطى، خيالي عن الاختفاء المفاجئ وأنا صغير كان دايمًا مرتبط بالإجرام والخطف. كنت بتخيّل إن فيه شوية ناس أشرار عايزين يخطفوا ناس كويسين عشان ياخدوا فلوس أهاليهم، بالضبط زي ما العصابة بتخطف سوسو ولولو وتوتو عشان يخلّوا عم دهب يدفع تَمَن الفدية. مع الوقت، اكتشفت إن فيه نوع تاني من الاختفاء، نوع منتشر في بلاد زي الأرجنتين في السبعينات والتَمانينات، وهو الاختفاء القسري. واحد نزل يجيب سجاير، واثنين ببدل يظهروا من تحت الأرض وياخدوه معاهم، وفجأة يختفي جوة دهاليز الدهاليز.

في صالونات العائلات المحترمة، الناس بتعتبر إن الخطف والاختفاء القسري حاجتين عكس بعض. تسمع ناس بتقول إننا لازم نحاسب المجرم اللي بيخطف الشباب، وفي نفس الوقت، إننا لازم نحاسب الشخص اللي بيختفي قسريًا عشان أكيد كان عامل حاجة غلط. وكأن الخاطف عبارة عن شخص شرير بيسرق عائلة المخطوف، بينما الشخص اللي بيختفي غصب عنه هو اللي خاطف نفسه بأفعاله. المفارقة دي بتطرح سؤال عن الفرق بين جريمة الخطف والاختفاء القسري، وكذلك سؤال عن نوع السلطة اللي بتعتبر إن الاختفاء القسري مجرّد إجراء روتيني في مجرى الحياة اليومية.

في كتاب «ما بعد المستعمرة» (On the Postcolony)، المفكر السياسي أشيل ميمبي (Achille Mbembe) عرّف السلطة اللي بتمارس نوع العنف العشوائي ده باسم «القيادة» (commandement). كتاب ميمبي بيقدم بعض الأطروحات عن واقع الدول الأفريقية في جنوب الصحراء الكبرى بعد نهاية الاستعمار الأوروبي في وسط القرن الـ20. أولًا لاحظ إن القارة الأفريقية مالهاش وجود قوي في العلوم السياسية والتاريخية والإنسانية الأوروبية، وكأنها بقعة سوداء من التقاليد والقبائل والسحر واللاعقلانية، وبالتالي أفعال الناس اللي عايشين في أفريقيا بتتفسر بناءً على مفاهيم وتصورات مختزلة. ميمبي بيطرح إن تاريخ القارة الأفريقية جزء لا يتجزأ من تاريخ العالم، وبيحاول يمزج بين التحليل الفلسفي والتاريخي والاجتماعي عشان يفهم إزاي التواريخ الأفريقية بتشتبك مع تواريخ أخرى بعد نهاية الاستعمار الرسمي.

في فصل عنوانه «عن القيادة»، ميمبي عرّف طبيعة السلطة اللي اتكوّنت في الدول الأفريقية في جنوب الصحراء الكبرى عبر تاريخ ما قبل الاستعمار والحكم الاستعماري والحكم الحديث. ميمبي اهتم إنه يدرس نمط ممارسة السلطة والخضوع لها جوة التركيبة التاريخية دي. النمط ده بيجمع بين حكم البشر بالقوة والعنف من ناحية، وتوفير بعض الموارد الأساسية لبعض الفئات الاجتماعية من ناحية تانية. العنف والرعاية الاجتماعية دول مش موجودين بشكل مادي وخلاص، وإنما همَّا كمان مرتبطين بخيال معيّن عن طبيعة السلطة، والتركيبة دي بين المادة والخيال هي اللي اسمها «القيادة».

القيادة بتستدعي مفهوم خاص عن حقوق البشر والعنف المباح تجاههم. في زمن الاستعمار، حقوق الناس اللي عايشة تحت سطوة المُستَعمِر كانت ضعيفة ومالهاش أسس قانونية واضحة، عكس الحقوق المكفولة رسميًا للمواطن الأوروبي الأبيض الصالح. المُستَعمَرين ماكانوش مواطنين بمعنى الكلمة، ولكنهم كانوا خاضعين لسلطة الدولة بدون ما توفّر لهم حقوق واضحة وصريحة، والوضع القانوني ده استمر بعد نهاية الاستعمار الرسمي. كذلك عنف الغزو الاستعماري وتبرير الاستعمار بصفته رسالة ضرورية وكونية للارتقاء بمستوى الحضارة الأفريقية استمر بشكل أو بآخر في الأنظمة الحاكمة المستنيرة بعد الاستعمار، اللي كانت بتتعامل مع الناس اللي بتحكمها وكأنهم حيوانات أليفة ومش عاقلة حسب ميمبي، وبالتالي لازم يسيطروا عليها ويرفعوا مستواها بالعافية.

عنف القيادة مرتبط كمان بتوزيع الموارد على عائلات الشلل الحاكمة والجهاز الإداري. ميمبي بيلاحظ مثلًا إن من ساعة التحرير القومي، المرتبات الحكومية مالهاش علاقة مباشرة بحجم الإنتاج أو العمل، ولكنها بتعكس صراعات جوة الجهاز الإداري حوالين أنهي شلة تقدر تستغل الأموال العامة – بغض النظر طبعًا عن «حقوق» المواطنين في الأموال دي. إعادة توزيع الأموال اللي المفروض تكون عامة بتتحول إلى وسيلة للسيطرة السياسية على الجهاز الإداري، بمعنى إن الجهاز لازم يكون خاضع للقيادة عشان يقدر يعيش. لذلك ما نقدرش نفصل بين العنف المباشر وتوفير الموارد اللازمة للجهاز الحكومي والناس اللي عايشة على حِسه، لأن الحاجتين مرتبطين بتثبيت القيادة في الحكم.

باختصار، القيادة هي ممارسة وخيال بيفترض إن السلطة مش محتاجة للعدالة ولا الشرعية بطبعها، وإنما إنها محتاجة لإصدار الأوامر وطاعتها. القائد بيقود عشان هو القائد وبس، والناس لازم تخضع للقيادة في سبيل الطاعة وبس. في الإطار ده، الحاكم أو المؤسسات الحكومية بتستخدم العنف بصورة عشوائية وعبثية، في أكبر الأشياء وأبسطها، تحديدًا في سبيل الحفاظ على صورة الحاكم والقيادة اللي بيمارسها، وغالبًا في إطار حالة الطوارئ الدائمة. لذلك أي تريقة تجاه الحاكم المستبد، والفخامة والضخامة اللي بيظهرها للجماهير، بتبقى إشكالية بالنسبة للقيادة في بلاد أفريقيا، لأن القيادة عايزة تحافظ على صورتها وجبروتها بأي تَمَن وقبل أي شيء.

الدول الأفريقية الحديثة ما أعادتش إنتاج الحكم الاستعماري بالضبط حسب ميمبي، وإنما بتعيد إنتاج المنطق السائد لواقع وخيال السلطة بوصفها «قيادة». الظرف التاريخي اتغير تمامًا بعد الاستعمار، خاصةً مع تحولات الاقتصاد العالمي، اللي كان بيأثر في قدرة الحكام الأفارقة على حشد الموارد اللازمة للحكم عبر القرن الـ20. ميمبي لاحظ إن من بدايات الاستعمار الأوروبي، النخب الحاكمة في أفريقيا كانت بتسيطر على شعوبها عبر موقعها المميز بين التجارة العالمية واستخراج المواد الخام المحلية – سواء كانت المعادن أو القهوة أو الزيوت أو حتى العبيد. نفس الوضع الوسيط للنخب دي استمر بعد التحرير، ولكنهم وقعوا في أزمات اقتصادية كتيرة سببت ضعف الدول الحالية وخصخصتها التدريجية، وتحديدًا مع فرض برامج التكيف الهيكلي تحت ضغط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.

رغم التحولات العالمية دي، الأنظمة الأفريقية في جنوب الصحراء الكبرى احتفظت بممارسة وخيال القيادة في الحكم. ومع ضعف قدرتهم على توفير المزايا للجهاز الإداري والحاشية الحاكمة وعائلاتهم، الحكام والحكومات بقوا يمارسوا العنف أكتر وأكتر. في الإطار ده، الحدود بين العنف الإجرامي والعنف الرسمي بتختفي حسب ميمبي. القيادة ما بتحترمش القوانين اللي هي حطّاها، بما إنها شايفة إن القوانين عبارة عن أوامر مباشرة، ولو الناس ما بتطيعش الأوامر، لازم تتعاقب بشكل عشوائي. ومع ترهل رعاية الدولة للجهاز الحكومي، الجهاز ده نفسه (وتحديدًا الأجزاء القمعية منه) ممكن يتحول إلى العنف العشوائي تجاه الشعب عشان ياخد حقه بالقوة – وهنا ميمبي بيستشهد بتاريخ الحروب الأهلية والانتفاضات العنيفة المستمرة في تاريخ القارة الأفريقية في القرن الأخير.

القيادة مش شرط يكون قدامها مقاومة شعبية، سواء كانت مباشرة أو ضمنية، بما إن الخيال المرتبط بالأمر والطاعة منتشر برة دايرة الحكم. رغم الإحساس الشائع بالظلم والقهر، الناس مش شرط تحاول تنظَّم نفسها ضد الحكام قد ما هي بتتكيف مع طبيعة السلطة، وبتبني إحساس بـ«حميمية الطغيان» حسب تعبير ميمبي، وكأن القيادة بقت النموذج الوحيد للسلطة وخلاص. وطالما الحميمية دي موجودة في بلاد القارة الأفريقية، الناس هتختفي ومحدش هيحاسب اللي خطفهم.