اختبار الدولة

مقال لشهاب الخشاب 

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه. 


عن الحرة

هل الدولة قدها؟ مع بدايات انتشار فيروس الكورونا في العالم، وخاصةً في البلاد الأوروبية المتحضرة المتنورة، الناس في مصر قعدت تتابع الحال وتتساءل: هل الدولة عندنا قدها؟ إذا كانت إيطاليا وأسبانيا وفرنسا بتعاني وبتعافر، ونظام الصحة الفخم الضخم اللي عندهم بيركع قدام الجرثومة اللعينة، الدولة اللي حيلتنا هتعمل إيه في مواجهة الوحش؟ هل هتنقذنا ولا هتسيبنا نموت؟ والحمد لله، صحينا في يوم ولقينا رئيس الوزراء صحصح وشدّ الحكومة، وقرر يقفل المطار، ويخفَّض عدد الناس في المصالح الحكومية، ويقول للناس التانية تقعد في بيوتها وتغسل إيدها. ثم بدأ حظر التجوال، وتعليق الدراسة، وضخ مليارات المليارات في الاقتصاد (عشان إحنا بلد فقيرة خلِّي بالك)، وتعقيم الشوارع والمباني والمجاري بالديتول.

الشهر اللي فات، الدولة ما كانش لها أثر في الوجود، وكأن الكورونا عمّال ينتشر في كوكب آخر. وفجأة من 3 أسابيع، الدولة ظهرت وفردت عضلاتها، وأخدت إجراءات تسد عين الشمس. السؤال هنا هو إيه اللي بيخلِّي الدولة تختفي وتظهر بالشكل ده؟ إشمعنى الدولة، اللي ممكن نحس بوجودها في جميع عناصر الحياة اليومية، بتبان ساعات باهتة وضعيفة، وساعات بارزة وقوية؟ الإجابة حسب عالم الاجتماع دومينيك لينهارت (Dominique Linhardt) إن الدولة مش فكرة ثابتة ولا كيان ثابت، وإنما إنها نتيجة الاختبارات اللي بتمر بيها عشان تثبت وجودها. بالمعنى ده، أزمة الكورونا الحالية عبارة عن اختبار للدولة (épreuve d’État).

 في تحليل لينهارت، الاختبار مش امتحان جاهز عشان الدولة تحله في وقت محدد وتاخد فيه نِمَر كويسة. الاختبار هنا عبارة عن تسلسل أحداث يشبه الاختبارات العلمية في المعامل، مع فرق إن المعمل في حالة الدولة هو الواقع التاريخي. في النقطة دي، لينهارت كان متأثر بالمجال الفكري المعروف باسم «دراسات العلم والتكنولوجيا» (Science and Technology Studies)، وتحديدًا بمنهج الدراسة الميدانية للاختبارات العلمية وتداعياتها الاجتماعية اللي أنشأه عالم الاجتماع برونو لاتور (Bruno Latour). 

في كتاب عنوانه «الميكروبات» (Les Microbes)، لاتور اقترح رؤية جديدة عن التطور التاريخي اللي أدى إلى اكتشاف الميكروبات ككائنات حية عايشة معانا حتى لو ما كنّاش شايفينها. عبر دراسة لأبحاث لوي پاستور تحديدًا (Louis Pasteur)، العالِم اللي اشتهر بالتقنيات اللي بتسمح بتعقيم اللبن الطازة عشان يتحفظ، لاتور شرح إزاي العلماء ما أجمعوش على نظريات پاستور بخصوص الميكروبات أول ما اقترحها، وإزاي الاعتراف ده جه في الغالب لأسباب سياسية مالهاش علاقة بالدقة العلمية البحتة. لاتور بيورِّي إن العلوم الدقيقة بتتطور دايمًا في إطار اجتماعي محدد، وحتى لو تم إثبات النظريات المقترحة علميًا، الاعتراف بها بيصطدم دايمًا بالمصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة. 

بما إن فيه ترابط شديد بين العلم والمجتمع، لاتور أدرك إن الواقع مالوش تعريف موضوعي واضح في الظروف دي، ولازم يتم إثباته عبر الاختبار. لذلك لاتور قال إن الواقع هو الحاجة اللي بتقاوم أثناء الاختبار، الحاجة اللي بتظهر كشيء مستقل جوه الاختبار، بسبب مقاومتها للأشياء اللي العالِم عامل حسابها مسبقًا. فپاستور عمره ما قدر يشوف الميكروبات بعينه مثلًا، بس عرف إن الميكروبات موجودة وإنها جزء من الواقع لأنها سابت أثر مستقل أثناء اختباراته، وبناءً على الآثار دي اقترح نظريات جديدة عن وجود كائنات حيّة أصغر من اللي بتشوفها العين وبتأثر بوضوح في الواقع.

 بنفس المنطق، لينهارت قال إن واقع الدولة هو الحاجة اللي بتقاوم أثناء الاختبار، هو الحاجة اللي بتسيب أثر لما الدولة تقع تحت امتحان الظرف التاريخي العصيب. بالتالي نتيجة الاختبار مش إن الدولة تاخد نمرة عالية أو واطية بناءً على معرفة وثيقة بالوضع اللي بيتمحنها، وإنما النتيجة هي إثبات وجود «الدولة» ككيان واحد وموحَّد في مواجهة الظرف التاريخي، زي ما پاستور حاول يثبت وجود الميكروبات للناس اللي ما كانتش شايفاها. فمثلًا وجود الدولة ككيان واحد وموحَّد ماكانش باين أول ما بدأ ينتشر فيروس الكورونا، ثم بدأت تظهر عبر الإجراءات الوقائية المتخذة بالفعل. وكذلك الدولة غابت بعد اختبار يوم 28 يناير 2011، وإنما بدأت تدريجيًا تظهر تاني عن طريق الكماين في كل الميادين، وقفل محطة السادات كل شوية، وعربية النجدة اللي بتقعد تلف في الزمالك بالليل عشان تطمِّن سكانها إن الدولة لسه موجودة.

 هنا بيبان التناقض الجذري في الكلام المعتاد عن الدولة. في رؤية المسؤولين والخبراء الإستراتيجيين والمواطنين الصالحين، الدولة عبارة عن كيان ضخم وقوي ومستقل يقدر يعمل كل حاجة عشان نفسه وعشان سكانه. ولكن لما نيجي ننكش التصور ده، هنكتشف إن الدولة متشتتة بين الوزارات والمصالح الحكومية، ومنافذ التموين والمكتبات العامة، والجيش والشرطة وحرس الحدود، والسفارات والقنصليات والمكاتب التجارية، والبطاقات الشخصية وشهادات الميلاد والجواز، والمطابع الأميرية وأبيار البترول، والجمارك والشهر العقاري، إلخ إلخ. يعني يبدو وكأن الدولة موجودة في كل حاجة، وبالتالي بتبان وكأنها مجرد فكرة في دماغ الناس المتمسكة بها، وفي نفس الوقت إنها كيان فعّال، وبالتالي ممكن نفترض إن كل المؤسسات بتنسّق بين بعضها عشان تحقق أغراض الكيان المركزي. 

مفهوم اختبار الدولة بيتجاوز التناقض الجذري ده. واقع الأمر حسب لينهارت إن الدولة ممكن تتواجد بكذا شكل حسب الأحوال. ساعات بتبدو مجرد فكرة رمزية بتربط بين مؤسسات شغّالة وكأن مفيش أي تنسيق بينها، وساعات بتبدو ككيان فعّال وكأنه إنسان عاقل بيحقق إرادته الشخصية. المعيار الحاسم للتفرقة بين الدولة واللي براها في الحالتين هو الاختبار، يعني الظرف التاريخي اللي بيختبر واقع الدولة ككل، وبيخلّي الواقع ده يظهر بشكل كامل. لذلك الدولة كما هي في اللحظة الحالية بتسجّل ذاكرة كل الاختبارات اللي مرّت بها في تاريخها. 

إذا اعتبرنا إن وباء الكورونا عبارة عن اختبار للدولة، نقدر نشوف إن الاختبار بيبدأ دايمًا من حالة انعدام اليقين بخصوص كيفية تعامل الدولة ومؤسساتها مع الوضع القائم. هل الدولة هتكون قدها؟ إيه الإجراءات اللي هتاخدها؟ مين اللي هينفذ الإجراءات وإزاي؟ وبعد كل التساؤلات دي، بعض المسؤولين والخبراء ممكن ياخدوا إجراءات، زي ما حصل بالفعل في حالة رئيس الوزراء ووزيرة الصحة في الأيام اللي فاتت. ولكن الإجراءات دي لسة جزئية، وما بتعبَّرش عن توجه جميع المؤسسات اللي ممكن تتحط تحت إطار «الدولة»، ومع ذلك اتخاذ الإجراءات الجزئية دي بيدعم تصور عن الدولة ككل. والمهم أثناء ما الأوضاع لسه سخنة في الاختبار إن المسؤولين يثبتوا وجود الدولة بأي شكل وبأي تَمَن.

 من الملاحظ إن إثبات وجود الدولة بالإجراءات دي مالوش علاقة مباشرة بكفاءة أجهزة الدولة في التعامل مع الوباء. الدولة اللي ظهرت أثناء اختبار الكورونا بتاخذ إجراءات كثيرة بناءً على ذاكرة الاختبارات السابقة. فمثلًا قرار فرض حظر التجوال مرتبط بإن الدولة الحالية واجهت اختبار الثورة والاعتصامات بفرض نفس نوع الحظر، بعيداً عن إن الحظر الجزئي ده مالوش أثر فعّال على معدّل الانتشار المحتمل للوباء (بما إن الجراثيم ما بتنامش بالنهار ولا بتصحى بالليل). وكذلك تعقيم الشوارع بالديتول ومرور العربيات بالسرينة في الأحياء الراقية مرتبط بإثبات وجود الأمن والأمان أكتر مما هو مرتبط بالإجراءات الكفء لمواجهة الجراثيم. ولما الدنيا تهدا والوضع يستقر إن شاء الله، الناس هتقول إن الدولة عملت اللي عليها، وفرضت حظر التجوال، وبعتت عربيات في الشوارع، وعقّمت القلعة والأهرامات، وكأن الأفعال دي تمت بلا شك على إيدين كيان واحد وموّحد اسمه «الدولة». 

ولكن مفهوم اختبار الدولة ما بيفترضش إن الدولة لها شكل معيّن قبل ما تخش الاختبار، لأنها بتتشكّل أثناء الاختبار التاريخي نفسه. وتاريخ الاختبارات اللي بتمر بها الدولة بيشرح إشمعنى بعض الدول اللي بتمر بتجارب مختلفة بتاخد أشكال وألوان مختلفة، لدرجة إن الواحد يحس إن الفرق بين الدول دي زي الفرق بين الأرض والمريخ. واقع الأمر إننا ما نقدرش نحدد الفرق بين الدولة والمجتمع مسبقًا، زي ما شرح العالم السياسي تيموثي ميتشل (Timothy Mitchell) في كتاباته عن تأثير الدولة. بالعكس، تعريف الدولة ككيان فعّال ومستقل بيظهر كنتيجة لتطور تاريخي محدد، وإذا تبعنا تفكير لينهارت، نقدر نحلل التطور ده وكأننا بنحلل اختبار في المعمل.

 وإذا الدولة ما كانتش قدها، ما تقدرش تثبت وجودها كدولة.