الفاعل وجهاز التفتيش

مقال لشهاب الخشاب

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

***

الصورة عن zkm

إيه لازمة جهاز التفتيش؟ لما الواحد ييجي داخل مترو أو مطار أو مول أو هوتيل، لازم يعدي من تحت جهاز رمادي تعبان المفروض يكشف المعادن اللي معاه. ساعات لازم يحط حاجته في جهاز الأشعة عشان يكشف على اللي جوه شنطته. ولكن ياما الواحد بيعدِّي عادي والجهاز بيصفَّر ومفيش أي مشاكل. في الواقع، الجهاز ما بيأثَرش في قرار الحارس بإنه يسيب الشخص يدخل براحته، لأن القرارات دي في الغالب مبنية على نظرة طبقية لنوع الشخص اللي داخل وإحساس الموظف اللي واقف على الباب بذاته وكرامته.

الناس بتعدي من أجهزة التفتيش وكأنها بتمارس طقس جماعي أكثر منها بتمر بإجراء أمني. ومع ذلك، الأجهزة دي بتتكاثر في مصر، وبقى مستحيل الواحد يعيش حياته من غير ما يمر بيها ولو مرة في الأسبوع. في رأيي، التكاثر ده مرتبط بإن جهاز التفتيش عبارة عن فاعل (actant) حسب تعبير الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي برونو لاتور (Bruno Latour).

لاتور كان من رواد الدراسة الاجتماعية للعلوم الطبيعية، وكان من أوائل علماء الاجتماع اللي يروح يدرس الشغل اليومي في المعامل العلمية عشان يفهم طرق إنتاج العلم على أرض الواقع. مع زملاء تانيين من ضمنهم ميشيل كالون (Michel Callon) ومادلين أكريش (Madeleine Akrich)، لاتور طوّر نظرية جديدة عشان يوصف ويشرح شغل العلماء وسماها «علم اجتماع الترجمة» (sociologie de la traduction)، والنظرية دي اتطورت واتعممت وبقى اسمها «نظرية الفاعل والشبكة» (théorie de l’acteur-réseau).

فكرة علم اجتماع الترجمة بسيطة: إن العالِم اللي عايز يفهم شغل المعامل لازم يتابع كل العمليات اللي بتتم جوه المعمل، من أول تحضير العينات الحية زي الفيران، لغاية تطعيمهم بالدواء الاختباري مثلًا، وتسجيل نتائج الاختبار وتجميع النتائج في جداول مطبوعة وتجميع الجداول في منشورات علمية. بين كل مرحلة ومرحلة فيه «ترجمة» بتحصل، مش بس بمعنى الترجمة الأدبية اللي بتحوِّل بين معاني ومعاني، بس كمان بترجمة مادية اجتماعية للأشياء اللي بتتحول من مرحلة للثانية، من أول الفيران لغاية الجداول.

نظرية الفاعل والشبكة بتطوَّر الفكرة دي في اتجاهين. أولًا بتفترض إن كل واحد من الإنسان والحيوان والجماد عبارة عن «فاعل» عنده تأثير مادي في العالم ولا يمكن الاستغناء عن التأثير ده من غير ما العالَم بحاله يتغيّر. ثانيًا، بتفترض إن العالَم عبارة عن شبكات مكوَّنة من الفاعلين دول، والشبكات دي موجودة قبل الفاعلين نفسهم. يعني أي حاجة في العالم عبارة عن «فاعل»، والفاعل ده مالوش وجود مستقل إلا في علاقة بالشبكات اللي بتربطه بفاعلين تانيين. الشبكات دي مالهاش شكل محدد زي شبكة الصياد أو شبكة التليفون، وإنما هي دايمًا معرضة للتغيير حسب تفاعل الفاعلين في العالم.

إذا طبقنا النظرية دي على جهاز التفتيش، نقدر نقول إن الجهاز مش مجرد شيء مادي مالوش لازمة ولا له معنى بالنسبة للأمن والأمان الفعلي، وإنما إنه «فاعل» جوه شبكة ضخمة بتكوِّن وجدان الأمن والأمان في مصر المعاصرة. الحراس ممكن يعَدوا الناس عادي وكأنها سبهللة، ولكن المهم إن الجهاز بيصفَّر وأشعته بتمر جوه الناس اللي داخلين المترو والمطار والمول والهوتيل، وانشالله الناس كلها تعدي بس الجهاز هيفضل شغَّال وكأن وجوده نفسه بيمَشِّي منظومة الأمن والأمان. الجهاز مجرد فاعل واحد جوه المنظومة، من ضمنها الحراس والبوليس وكاميرات الأمن واللاسلكي والكلب الضخم اللي مش قادر يشِم من كُتر الحر. ولكن الشبكة بحالها بتنتج شيء أكبر من تصور عن الأمن والأمان: دي بتجسَد الأمن والأمان في أفعالها وتفاعلاتها.

نقطة الضعف الرئيسية في نظريات لاتور إنها ما بتاخدش الصراعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اللي بتشكل العالم في الاعتبار، أو بشكل أدق، بتعتبر إن الشبكات كلها تساوي بعض والتفاعل بين الفاعلين اللي بتنتجهم زي بعضه، سواء كان بين الفار والجدول أو بين ممول المعمل والناس اللي شغالة فيه. مع ذلك، أفكار لاتور لسة مهمة لأنها من أوائل المحاولات لدراسة العالم المادي بشكل جاد ودقيق في العلوم الإنسانية، باعتبار إن الناس والحيوانات والأشياء لهم دور مهم ولا يمكن استبداله في الحياة الاجتماعية. لذلك السؤال الأول مش مفروض يكون إيه لازمة جهاز التفتيش، وإنما إشمعنى جهاز التفتيش بينتج إحساس الأمن والأمان دونًا عن أي فاعل ثاني؟


اقرأ المزيد لشهاب الخشاب: إيه هو الهابيتوس؟