أمرٌ واحدٌ آخر
قصة لريموند كارفر
ترجمة: محمد عبد النبي
اقرأ المزيد من قصص ريموند كارفر على هذا الرابط
يحتفظ المسؤول عن الملف بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بالترجمات دون إذن منه.
قالت ماكسين لزوجها إل. دي. أن يرحل، ليلةَ عادت إلى البيت مِن عملها فوجدته قد سَكرَ مرة أخرى، ويتحدث بسَفَالة مع ري، ابنتهما ذات الخمسة عشرة عامًا. كان الزوج والابنة جالسَين إلى منضدة المطبخ يتجادلان، و لم تكن ماكسين حتَّى قد وضعت محفظة نقودها أو خلعت معطفها.
قالت ري: «أخبريه يا ماما، أخبريه بما تحدثنا عنه».
أدار إل. دي. الكأس في يده دون أن يشربَ منها. رمته ماكسين بنظرة ضاريةٍ ومُنذِرة.
قال هو لري: «لا تدسي أنفكِ في أمور تجهلينها تمامًا. لا يمكنني أن أتعامل بجدية مع شخصٍ يقضي يومه في قراءة مجلات التنجيم و الأبراج».
قالت ري: «ليس لهذا أي علاقة بالتنجيم ولا ينبغي أن تُهينني».
بخصوص ري، فقد كانت منقطعة عن المدرسة منذ أسابيع. قالت إن أحدًا لن يستطيع إجبارها على الذهاب. وقالت ما كسين إنَّ هذه مأساةٌ جديدة في طابور طويل مِن المآسي الرخيصة.
قالت ماكسين: «لمَ لا تخرسان أنتما الاثنان! يا ربي، رأسي مُصدَّع أصلًا».
قالت ري: «أخبريه يا ماما، أخبريه بأنَّ هذا كله من صُنع عقله. أي إنسان عنده فكرة بسيطة عن هذا سيقول لك نفس الشيء!»
قال إل. دي.: «طَيّب وماذا عن مَرض السُكر؟ و الصَرَع! ماذا عن الصَرَع؟ هل يتحكم العقل في ذلك أيضًا؟»
رفع كأسه تحت عينيَّ ماكسين وأنهى شرابه.
قالت ري: «والسُكَّر أيضًا. والصَرع. أي شيء! ولمعلوماتك، عقل الإنسان أقوى عضو في جسمه».
التقطتْ سجائره وأشعلت لها سيجارة.
قال إل دي: «والسَرطان؟ ماذا عن السَرطان؟»
ظنَّ أنه قد يُفحمها بذلك. نظرَ إلى ماكسين.
قال إل. دي. لماكسين: «لا أدري كيف بدأنا في هذا».
قالت ري: «والسرطان». ثم وهي تهز رأسها مِن فَرط سذاجته: «السرطان أيضًا. السرطان يبدأ من العقل».
«هذا جنون!» قالها إل. دي. خَبطَ المائدة براحة يده. قفزت منفضة السجائر. انقلبَت كأسُه على جانبها وأخذت تتدحرج على سطح المائدة. «أنتِ مجنونة يا ري، أتعلمين ذلك؟»
قالت ماكسين: «اخرس!»
حَلَّتْ أزرار معطفها، ووضعت المحفظة على المائدة. نظرت إلى إل. دي. وقالت: «إل. دي.، أنا نفد صبري معك. وكذلك ري. وكذلك كل شخص يعرفك. لقد فكرت في هذا جيدًا. أريدك أن ترحل مِن هنا. الليلة. في هذه الدقيقة. الآن. غُر في ستين داهية حالًا».
لم يكن في مخططات إل. دي. أن يذهب إلى أي مكان. نقلَ بصره من ماكسين إلى برطمان المخلل الذي ظلَّ على المائدة منذ الغداء. التقط البرطمان وطَوَّح به عبرَ نافذة المطبخ.
انتفضت ري بعيدًا عن مقعدها: «يا خَبَر! لقد جُنَّ!»
ذهبت لتقف إلى جانب أمها. أخذت تتنفس أنفاسًا قصيرة عبرَ فمها.
قالت ماكسين: «اطلبي الشرطة، إنه يتصرف بعنف. اخرجي من المطبخ قبل أن يؤذيكِ. واطلبي له الشرطة».
أخذتا في التراجع للخروج من المطبخ.
«أنا ذاهب» قال إل. دي. «فَليَكُن، سأذهب في الحال». قال: «هذا أنسب شيء لي. أنتما هنا مجنونتان، على أي حال. وهذا البيت مستشفى للمجانين. هناك حياة أخرى بالخارج. صدقاني، هذا البيت ليس النعيم، بل مستشفى مجانين».
كان يمكنه أن يشعر بهواءٍ ينبعث من ثقب النافذة على وجهه.
قال: «سأذهب إلى هناك». وأضافَ مُشيرًا: «هناك بالخارج».
قالت ماكسين: «جيد».
قال إل. دي.: «عظيم، أنا ذاهب».
قرعَ بيده على المائدة. رفسَ مقعده للخلف ونهض واقفًا.
قال إل. دي.: «لن ترينى مرة أخرى أبدًا».
قالت ماكسين: «لقد تركتَ لي الكثير لأتذكرك به».
قال إل. دي.: «طيّب».
قالت ماكسين: «هيَّا، اخرج. أنا مَن يدفع الإيجار هنا، وأقول لك اذهب. حالًا».
قال إل. دي.: «أنا ذاهب، لا تستعجليني، فأنا ذاهب».
قالت ماكسين: «اذهب وكفى».
قال إل. دي.: «سأغادر مستشفى المجانين هذا».
اتجه نحو غرفة النوم وتناول إحدى حقائبها من الخزانة. كانت حقيبة جلدية من نوع «نوجهايد» بيضاء قديمة ومكسورة الإبزيم. كانت تملأها بأطقم كنزاتها وتحملها معها أيام الكلية، هو أيضا كان قد ذهب إلى الكلية. رمى الحقيبة فوق الفراش وراح يضع فيها ملابسه الداخلية، وسراويله، وقمصانه، وستراته، حزامه الجلدي القديم بإبزيم من النحاس الأصفر، جواربه، وكل ما يملكه غير ذلك. تناول من على الكومود مجلات كموادٍ للقراءة وأخذ منفضة السجائر. حشا الحقيبة بكل ما اتسعت له، ثم شد وثاق جانبها السليم. وعند ذاك تذكر أدوات الحمام. على أحد أرفف دولاب الحائط عثر على شنطة أدوات الحلاقة وراء قبعاتها، فوضع فيها الأمواس وكريم الحلاقة، بودرة التلك، مزيل العرق، وفرشاة الأسنان. أخذ معجون الأسنان أيضًا، ثم خيوط تنظيف الأسنان.
كان بوسعه أن يسمعهما يتهامسان في غرفة المعيشة.
غسل وجهه. وضع الصابونة و المنشفة في شنطة الحلاقة. ثم أخذ الصبّانة الصغيرة وكوبة الحوض، تناولَ قصَّافة الأظافر، ومَسكرة رموشها.
لم يتمكن من إغلاق شنطة أدوات الحلاقة، ولم يجد بأسًا في ذلك. ارتدى معطفه والتقط الحقيبة الجلدية. دخلَ غرفة المعيشة.
عندما رأته ماكسين وضعت ذراعها حول كتفيَّ ري.
قال: «انتهى الأمر». قال: «هو الوداع إذن. لا أدري ماذا أقول أيضًا غير أنني على ما أظن لن أراكِ مرةً أخرى أبدًا». و قال لري: «وأنتِ أيضًا. أنت وأفكاركِ المعتوهة».
قالت ماكسين: «امشِ»، وتناولت يد ري. قالت: «ألم يكفكَ ما سببته لهذا المنزل مِن أذى؟ هيَّا يا إل. دي. امشِ من هنا واتركنا في سلام».
قالت ري : «تذكَّر فقط أن الأمر كله يعتمد على عقلك».
قال إل. دي.: «أنا ذاهب، و هذا كل ما يمكنني قوله. أي مكان. بعيدًا عن مستشفى المجانين هذا». قال: «ذلك أهم شيء».
ألقى نظرة أخيرة في جوانب غرفة المعيشة ثم نقل الحقيبة من يدٍ إلى أخرى، ووضع شَنطة أدوات الحلاقة تحت إبطه. «سأكون على اتصال بكِ يا ري. و يحسن بكِ أنتِ أيضا يا ماكسين ألا تسجني نفسك في مستشفى المجانين هذا».
قالت ماكسين: «أنتَ من جعله هكذا. إذا كان هذا البيت مستشفى مجانين فأنت السبب».
وضعَ الحقيبة على الأرضية ومِن فوقها شنطة الحلاقة. فردَ قامته وواجههما.
تحرَّكتا للوراء.
قالت ري: «انتبهي يا ماما».
قالت ماكسين: «أنا لستُ خائفة منه».
وضع إل دي شنطة الحلاقة تحت إبطه والتقط الحقيبة.
قال: «أريد فقط أن أقول أمرًا واحدًا آخَر».
لكن عندئذٍ لم يستطع أن يعرف ما عسى أن يكون ذلك الأمر.