سياسة الموت

مقال لشهاب الخشاب

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


فلسطينيون عند نقطة تفتيش إسرائيلية، عن Middle east monitor

إيه هي «القضية الفلسطينية»؟ الناس اتعودت تسمع الكلمة وما بتركزش في معناها. فيه اللي يقول لك إن القضية هي إقامة دولة فلسطينية مستقلة وتحرر الأراضي الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي. وفيه اللي يقول لك إن القضية هي تحرر القدس من العدو الصهيوني واسترجاع الحكم الإسلامي ضد حكم اليهود. وفيه اللي يقول لك إن القضية هي إيجاد حل محايد بين فلسطين وإسرائيل عبر معاهدات السلام الدولية برئاسة الشقيقة الكبرى. وفيه اللي يقول لك إن الفلسطينيين نفسهم باعوا القضية وباعوا أرضهم.

الآراء دي نتيجة تاريخ المتابعة للأحوال الفلسطينية في مصر والعالم العربي، ونتيجة التطور الفعلي للاحتلال الإسرائيلي من سنة 1948. تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية وحركات التحرر الفلسطينية ومعاهدات السلام وتغطية التطورات دي في الإعلام المصري والعربي حدد بعض المفاهيم الشائعة عن طبيعة القضية الفلسطينية، وبينها المفاهيم القومية والإسلامية والدولية وحتى المتعاطفة ضمنيًا مع الرؤية الإسرائيلية، باعتبار إن إسرائيل حققت «تقدم» بالمقارنة بالدول العربية المجاورة. أما في مقال عنوانه «سياسة الموت» (necropolitics)، المفكر السياسي آشيل ميمبي تبنى رؤية تانية للقضية الفلسطينية من واقع تاريخ الاستعمار الأوروبي بشكل عام.

ميبمي بيشرح إن مفهوم «سياسة الموت» عبارة عن امتداد لمفهوم «السياسة الحيوية» (biopolitics) عند ميشيل فوكو. السياسة الحيوية هي سياسة الدولة تجاه السكان ككل مش كأفراد. هي السياسة اللي بتسمح للدولة بإنها تعيِّش بعض الناس وتسيب البعض الآخر يموت، زي في ردود فعل الدولة ضد زيادة التعداد السكاني والأوبئة الشائعة. السياسة الحيوية هي النقيض النظري للسلطة السيادية (pouvoir souverain)، اللي هي قدرة الحاكم على إنه يموِّت بعض الناس ويسيب البعض الآخر تعيش. ولكن فوكو نفسه أشار إلى إن السياسة الحيوية والسلطة السيادية موجودين بالتوازي في الواقع التاريخي، والدولة الحديثة بتمارس العنف السيادي بشكل عنصري (زي في حالة الدولة النازية مثلًا).

 كذلك ميمبي كان شايف إن التركيز في السياسة الحيوية مش كافي في حد ذاته، لأن الدول الحديثة مش بس عايزة تعيِّش سكانها وتنمِّي شعوبها وتحسِّن معدَّل إنتاجها، وإنما كمان بتفرض قوتها بشكل مباشر وعنيف زي الملوك والسلاطين القدام. فمثلًا بلاد أوروبا الغربية زي ألمانيا وفرنسا وإنجلترا بتهتم بتوفير نظام صحي حكومي للمواطنين الأوروبيين من ناحية، ومن ناحية تانية بتحارب كل المهاجرين واللاجئين الوافدين من بره أوروبا، إلى درجة إنها تسمح بغرقهم في البحر وبضرب النار عليهم (زي ما حصل في اليونان الأسبوع اللي فات). قدام السياسة الحيوية اللي بتعيِّش المواطنين، فيه سياسة للموت بتستهدف غير المواطنين بأشرس وأعنف الوسائل.

ميمبي ما قدِّمش تعريف محدد لسياسة الموت إلا باعتبارها الجانب المظلم للسياسة الحيوية، ولكن نقدر نحصر ملامح المفهوم عن طريق الأمثلة اللي بيناقشها في مقاله. ميمبي بيعتبر إن سياسة الموت الحديثة ظهرت مع نظام العبودية والاستعمار الأوروبي، اللي بينتزع الأفارقة من بلادهم وبيجبرهم على الشغل في الحقول الأمريكية. النظام العنصري ده بيجرَّد العبيد من إنسانيتهم، وبيفقدهم لغاتهم وثقافاتهم، وبيحط حياتهم تحت سطوة أسيادهم تمامًا. العبد الأفرو أمريكي كان من أوائل النماذج الحية للـ«زنجي» في تعبير ميمبي، باعتباره جسد منتج بلا حقوق. الجسد ده تحت حكم سياسة الموت في إطار العبودية، لأن السيد يقدر يعتدي على العبيد بأي شكل من الأشكال باعتبارهم من مقتنياته، ويقدر يشوِّههم أو يغتصبهم أو يموّتهم بلا عقاب.

العبودية هي نموذج لاستمرار نمط السلطة السيادية في زمن السياسة الحيوية، والتزامن ده واضح في المستعمرات الأوروبية اللي نشأت في القرن الـ19 والـ20 في أفريقيا، زي في الجزائر تحت الحكم الفرنسي وأفريقيا الجنوبية تحت نظام الـ«آپارتهايد» (apartheid). زي ما شرح فرانز فانون في كتاب «معذبو الأرض»، الدولة الاستعمارية بتفرَّق بين مناطق المُستَعمِرين ومناطق المُستَعمَرين، وكأنهم كوكبين مختلفين: كوكب للبني آدمين والتاني للحيوانات، كوكب تحت حكم القانون والتاني مالوش قانون إلا العنف، كوكب بيعزز حياة المواطن الأبيض وكوكب بيستهتر بحياة الكائنات السمراء. 

في أفريقيا الجنوبية مثلًا، الحكام البيض حطوا مجموعة قوانين سنة 1948 عشان يفصلوا عرقيًا بين الأقلية البيضاء الحاكمة والأغلبية السمراء المطحونة، منها قوانين بتمنع الجواز بين البيض والسُمر، وقوانين بتمنع امتلاك الأراضي للسُمر في المناطق البيضاء، وقوانين بتمنع تواجد السُمر إلا في أماكن محصورة مسموح لهم بالتواجد فيها. القوانين دي جزء من سياسة الموت في تعبير ميمبي، لأنها بتمنح سلطة مطلقة للجهاز القمعي الأبيض على الأجساد السمراء، وبالتالي الأجساد دي بتقضِّي حياتها وكأنها عايشة حالة دائمة بين الحياة والموت على إيد المُستَعمِر، وكأنها ممكن تموت في أي وقت وبلا مبالاة.

في الزمن الحالي، فلسطين هي النموذج المثالي لتطبيق نفس نوع سياسات الموت حسب ميمبي. استنادًا إلى كتابات المعماري إيال وايزمان (Eyal Weizman)، ميمبي بيشرح إزاي الاحتلال الإسرائيلي بيقسِّم أرض فلسطين بشكل أفقي ورأسي في نفس الوقت. الاحتلال ما بيكتفيش بوضع الحدود بين كيان اسمه «إسرائيل» وكيان اسمه «فلسطين»، ولا بيكتفي ببناء الأسوار عشان يأكد الفرق الأفقي بين الأرضين، وإنما كمان بيبني أنفاق وطرق سريعة ومعابر جوية بتربط بين المستوطنات الإسرائيلية وبعضها رأسيًا. بالتالي الاحتلال بيتحكم في البنية الأساسية والحدود البرية والبحرية والجوية للأراضي الفلسطينية، ومفيش أي فرصة للبني آدم اللي عايش في فلسطين إنه يتنفس بره سطوة إسرائيل. تحكم الدولة الإسرائيلية في جميع عناصر البناء والبنية الأساسية مرتبط بتصور عنصري عن الفرق بين المستوطنين الإسرائيليين المتحضرين والعرب الفلسطينيين المتوحشين، اللي لازم يفضلوا محبوسين في مكانهم وخايفين من العنف الدائم تجاههم عشان ما يفترسوش المستوطن الإسرائيلي الغلبان.

حسب ميمبي، سياسات الاحتلال هي نوع من سياسات الموت، اللي بتفرض على البني آدم الفلسطيني حياة من الألم، ولازم يعافر عشان يفضل على قيد الحياة أو ينتحر اعتراضًا على الوضع القائم. في الحالتين، سياسة الموت ما بتديش أي نوع من الاعتراف أو الكرامة للبني آدم المُحتل، لأنه عايش وكأنه من الأحياء الأموات، وكأنه جسد بلا هوية إلا الاعتداء والتشويه والقتل اللي ممكن يتعرَّض إليه، وكأن لا هو مواطن ولا هو عدو من وجهة نظر الاحتلال، لأنه مجرَّد كائن متوحش لازم يتحط في قفص وما ينطقش تحت تهديد العنف والقتل.   

في التحليل ده، القضية الفلسطينية مش قضية حزبية هتتحسم لصالح فتح أو حماس، أو قضية اقتصادية هتتحسم لصالح الدولة أو رجال الأعمال، أو قضية دبلوماسية هتتحسم لصالح معاهدات وهمية للسلام تحت رعاية العرب وأمريكا، وإنما هي قضية استعمارية مرتبطة بممارسة سياسة الموت على الأجساد الفلسطينية. إسرائيل مش مجرَّد دولة بتحاول تحسِّن أحوال مواطنيها، وإنما هي دولة بتحمي حقها في انتهاك حياة الفلسطينيين بكل معاني الكلمة: استلاب الأراضي بالقوة ومنع الحركة عن طريق الكماين اللامتناهية ومنع تداول بعض السلع الأساسية وتدمير المزارع والمنشآت بالبلدوزر والقبضات العشوائية الروتينية على الشباب والشابات والغارات الجوية أثناء مواسم الانتخابات الإسرائيلية إلخ.

باختصار، سياسة الموت بتفرض على بعض الناس إنها تعيش بين الحياة والموت، بمعنى إن موتهم دايمًا جايز تحت حكم السلطة السيادية المحلية (مهما كانت السلطة دي بتدعم سياسة حيوية لمواطنيها). نماذج العبيد الأفارقة أو المُستَعمَرين في وقت الآپارتهايد أو الفلسطينيين النهارده بتكشف التطور التاريخي لسياسة الموت، وبتكشف إزاي النوع ده من التفكير بقى منتشر كمبدأ للحكم عبر العالم. فالحكام والنخب العربية اللي بتدِّعي إن اسرائيل بقت نموذج للـ«تقدم» ولازم نتقبلها عشان نواكب الواقع السياسي هم نفسهم متسامحين مع فكرة إن التقدم يكون مبني (حرفيًا ومعنويًا) على جثث البشر. الأجساد الفلسطينية هي اللي بتتعرض للعنف المباشر في ظل الاحتلال الإسرائيلي، ولكن ده ما يمنعش إن نفس نوع السياسات ممكن تتطبق في سياقات أخرى.

بالتالي القضية الفلسطينية مش بس قضية قومية وإنسانية، وإنما هي قضية تخص المستقبل السياسي للبشرية بحالها.