الزنجي
مقال لشهاب الخشاب
المقال خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه
إشمعنى الفرَّاش يبقى أسمر؟ في أفلام الزمن الجميل، أفلام الأبيض والأسود اللطيفة، الفرَّاش في البيوت وفي المكاتب كان دايمًا رجل لابس لبس استشراقي ما بيفهمش حاجة في حاجة، بيتكلم بلهجة ركيكة طفولية مضحكة، وبيأدِّي أوامر سيده وكأنه مالوش شخصية ولا وظيفة إلا رضا الأسياد. الفرَّاش النوبي أو السوداني نمط من الأنماط الكلاسيكية في السينما المصرية، والناس السمرا ما كانش لها أدوار كبيرة في الأفلام إلا بوصفهم خدامين أو أعضاء القبائل البدائية في أدغال الكونغو.
ارتباط العِرْق الأسود بالشغلانات الخدمية في الأفلام مش مجرَّد صدفة، لأن وراه تاريخ طويل وعريض من العبودية في العالم العربي. التاريخ ده أنتج أفكار ومؤسسات مختلفة للتعامل مع العبيد حسب البلاد والزمن، ولكن أثر الأفكار والمؤسسات دي موجود لغاية النهارده. إلى الآن، بعض سكان العالم العربي بيتكلموا عن الناس اللي بشرتهم سمرا باستخدام كلمة «العبد» أو «العبيد». إلى الآن، في بيوت الطبقات الراقية المهذبة في مصر وفي الشام وفي الخليج، العمالة الخدمية مكوَّنة بشكل أساسي من ناس سُمر وبيتم احتقارهم على أساس سمارهم. إلى الآن، الناس بتعتبر إن البنت السمرا أوحش من البنت البيضا لمجرد لونها، مهما قال لك محمد منير «آه يا أسمراني اللون». إلى الآن، المهاجرين والسياح اللي جايين من أفريقيا السمرا بيتهانوا وبيتشتموا وساعات بيتضربوا في الشوارع عشان مجرد شكلهم.
لما الواحد ييجي يناقش العنصرية الشائعة ضد السُمر في العالم العربي (وفي مصر تحديدًا)، دايمًا بيقابل ردود فعل جاهزة. الرد الأول إن المصريين لا يمكن يكونوا عنصريين لأنهم نفسهم أفارقة. الرد ده ساذج طبعًا، لأن أولًا الناس اللي بشرتها سمرا مش بس من «الأفارقة»، وثانيًا لأن الانتماء الجغرافي لقارة اسمها «أفريقيا» مالوش علاقة بتاريخ الاستعباد والاستغلال من بعض المناطق جوه أفريقيا لبعضها. التاريخ ده واضح مثلًا في غزوات محمد علي باشا لأفريقيا الشرقية في القرن الـ19، وفي غزوات حسن الثاني ملك المغرب للصحراء الغربية في القرن الـ20. التدخل العسكري للحكام دول وراه تاريخ من العنصرية ضد السُمر، مهما كانوا الحكام بيحكموا بلاد «أفريقية».
رد الفعل التاني إن المصريين مش ممكن يكونوا عنصريين لأنهم عايشين في مجتمع بيمزج بين الأشكال والألوان، والارتقاء في طبقات المجتمع مش مرتبط مباشرةً بالعرق أو بالطائفة زي في بلاد تانية. طبعًا الاختلاط اللوني ده متحقق إلى حد ما. بس رغم وجود مصريين كتير بشرتهم سمراء، ما زال فيه تفرقة سائدة بين «المصري» و«الأفريقي»، باعتبار إن واحد فيهم أفضل وأفتح من التاني. حسب المؤرخ بيتر هيل (Peter Hill) في كتاب «اليوتوبيا والتمدن في النهضة العربية»، بعض مفكرين النهضة العربية كانوا حريصين على إنهم يقارنوا العرق الشامي أو المصري بالأعراق الأدنى (زي الأفارقة السُمر)، وبالتالي يخلقوا لنفسهم وضع متوسط في السلم الحضاري العنصري الأوروبي. التفرقة دي جزء من المعالم المعروفة للعنصرية في بلاد تانية، زي الاحتقار والاستخفاف بالآخر العرقي، وإنما كمان جزء من إبقاء الناس اللي بشرتهم سمراء في شغلانات أدنى وتصعيب تعاملاتهم مع الدولة مثلًا.
رد الفعل الثالث لمناقشة العنصرية في مصر إن المصريين مالهمش علاقة بتاريخ العنصرية في أوروبا وأمريكا، بما إن بيتم التعامل معاهم بشكل عنصري زيهم زي الأفارقة في الغرب. الرد ده قايم على تصور ضمني إن فيه فرق جذري بين العنصرية في مصر وفي الغرب، والتصور ده مش صحيح نظرًا للتفاعلات الفكرية والفنية المستمرة بين المصريين والأوروبيين من ساعة الاستعمار. يعني عشان نكوِّن تصور دقيق عن طبيعة العنصرية ضد السُمر في مصر وفي العالم العربي، لازم يكون عندنا فكرة عن العنصرية ضد السُمر في أوروبا وأمريكا.
في كتاب عنوانه «نقد العقل الزنجي»، المفكر السياسي أشيل ميمبي (Achille Mbembe) ناقش الارتباط الجذري بين مفهوم «العِرْق» (race) وفكرة «الزنجي» (Nègre). الواحد ما يقدرش يفصل المفهومين عن بعض باعتبار إن النظريات العرقية الأوروبية صنَّفت الرجل الأبيض – بجميع تشكيلاته – فوق الزنجي. التصنيفات دي ما كانتش مبنية على أساس خبرة مباشرة بالشعوب الأفريقية ولا أدلة مادية صحيحة عن الاختلافات العرقية، وبالتالي صورة الزنجي في أوروبا كانت دايمًا عبارة عن «بئر من الأوهام» حسب تعبير ميمبي. البئر ده اتوسع وانتشر لما الأوروبيين بدأوا يستعمروا أفريقيا، أولًا مع إنشاء الحصون البرتغالية للتجارة على سواحل أفريقيا الغربية في القرن الـ15، ثم مع انفجار تجارة العبيد في القرن الـ16 والـ17، وأخيرًا مع الاستعمار المباشر للأراضي الأفريقية في القرن الـ19.
عبر كل الفترات دي، الزنجي ظهر كصورة عكسية للبني الآدم الأوروبي الأبيض «العادي». الزنجي بقى مستودع لأوهام كتيرة، كأنه بين الحيوان الوحشي والإنسان، قوي وغبي في نفس الوقت، قادر يشتغل زي الحصان ودايمًا فرحان زي الطفل، بيعبد الطبيعة والأصنام، عنده قدرات جنسية خارقة وميول غرائزية للعنف. الأوهام العرقية دي لها علاقة مباشرة بالاقتصاد السياسي في زمن العبودية وفيما بعد، لأنها بتبرر وبتأيد استغلال الكائن اللي يُسمى بـ «الزنجي» مهما اختلف المضمون الفعلي للفئة، ودي إحدى الملاحظات المهمة اللي المفكر والمناضل فرانز فانون (Frantz Fanon) قدمها في كتاب عنوانه «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء».
زي فانون، ميمبي ما بيكتفيش بتحليل الأوهام العرقية، وإنما بيربطها بتطوُّر الاقتصاد السياسي العالمي وعلاقته بالأجساد المتصنفة باعتبارها «زنجية». ميمبي بيفكَّرنا إن الزنجي بمعناه الأوروبي عبارة عن رجل بيتحول إلى سلعة وعملة ومعدن في إيدين الأوروبيين البيض. الزنجي مش بس عكس الرجل الأبيض نظريًا، وإنما هو كمان عنده دور اقتصادي مهم بصفته جسد عامل، بيتخطف من أفريقيا ويتباع في أسواق العبيد في أمريكا ويشتغل في الحقول والمناجم عشان يخرَّج الموارد اللي هتزود ثروة الأسياد البيض. يعني الزنجي مصدر للقيمة ومالوش قيمة في نفس الوقت، إنسان بينتج الثروات ومالوش حق في الثروة، بني آدم مكسور وخاضع لسلطة السيد رغم إنه دايمًا قادر يثور ضده.
وبالفعل، ثورات العبيد في الكاريبي وفي أمريكا اللاتينية أدت إلى نهاية نظام العبودية الرسمي اللي كان منتشر في العالم الأوروبي الأمريكي، ولكن استمرت الأوهام العرقية والاستغلال الاقتصادي للزنوج طوال القرن الـ20 وإلى اليوم. أطروحة ميمبي إن تحولات الرأسمالية العالمية ما أدتش لتحرر الزنوج تدريجيًا من وضعهم الأدنى، وإنما أدت لأن العالم يندمج في «صيرورة زنجية» (devenir-nègre). يعني وضع الناس اللي بيتم استغلالهم في النظام الاقتصادي الحالي ما بيتحسنش في العموم، وإنما بيتحول أكتر وأكتر إلى وضع الزنوج في الرأسمالية العبودية: جسد بيصنع القيمة ومالوش قيمة.
وصف ميمبي بيورِّينا إن الزنجي مش مفهوم عرقي بحت، وإنما إنه كمان مفهوم سياسي واقتصادي بامتياز. تجربة الزنوج التاريخية مش مجرد تاريخ من التحرر التدريجي من المستعمر الأبيض، وإنما كمان تاريخ تأسيس النظم الاقتصادية والسياسية الرأسمالية الحالية. إذا افترضنا إن ثروات العالم نتيجة عَرَق الناس اللي بتنتج الثروات دي، نقدر نشوف بوضوح إن العَرَق ده مش متقدر بما يكفي، بدليل إن عمال العالم عايشين في أوضاع أسوأ وأسوأ بينما أسياد العالم بيراكموا ثروات أكبر وأكبر. يعني في إطار نظام رأسمالي عِرقي، عمال العالم بيقرَّبوا من وضع «الزنجي» بينما الأسياد البيض لسة بيحوِّشوا الفلوس في جيوبهم.
إيه علاقة التاريخ ده بالعالم العربي؟ إذا رجع مرجوعنا للسينما المصرية، نقدر نشوف إن التصورات النمطية اللي قدمتها السينما عن السُمر تشبه التصورات الشائعة في أوروبا وأمريكا، مثلًا في تصوير الفرَّاش الأسمر كشخص أهبل وأقرب للطفل، أو كأنه دايمًا محبوس في دور الخادم، أو كأن الأفارقة كلهم أشبه بالقبائل البدائية اللي بتصنعها هوليود في أفلام طرزان. الأنماط دي نتيجة خليط من التصورات المحلية والعالمية عن الـ «زنجي»، وما نقدرش ننكر مشاركة المصريين في إعادة إنتاج العنصرية بالشكل ده (والمؤرخة إفضال الساكت حللت المسألة دي في مقال عنوانه «أفلام الأدغال في مصر»). وبرضه زي ما ميمبي بيشرح، العنصرية مش بس مرتبطة بأوهام عرقية عن الزنوج، وإنما كمان مرتبطة باقتصاد سياسي عالمي كلنا بنشارك فيه.
بالتالي ما نقدرش نعتبر إن مصر أو العالم العربي خاليين من العنصرية، إلا إذا كنا عايزين ننكر تاريخ طويل وعريض، مهما كان أثره ضعيف في السرديات الرسمية.
اقرأ المزيد: البياض.. مين هو الإنسان العادي
One Reply to “موسوعة المَلَل | الزنجي”
مادة جميلة وعميقة .. شكراً.
لكن حول الموضوع، أثناء القراءة، تذكرت مثل شعبي في سوريا يقول: بدك تضحك ع الأسمر لبسوا أحمر.
تاريخ من العنصرية المقيتة والمستمرة للأسف، لكن هناك سؤال، مع اتفاقي بأن موضوع العنصرية ليس عرق محض بل اقتصاد.
في سوريا منطلق العنصرية اتجاه البشرة الداكنة نابع من فئوية ثقافية وليست اقتصادية، باعتبار أن زمام الاقتصاد وخاصة في سوريا الخمسينيات كان بايدي الطبقة الريفية التي بدات بالسيطرة على تفاصيل الحياة المدنية والاقتصادية، وسوريا النموذج للبشرة الداكنة هي الريف، بمعنى حالة العنصرية اتجاه هؤلاء الناس كانت لاسباب ذهنية صرفة لا يمكن ارجاعها للاقتصاد بشكل حصري.
عنصرية ناتجة عن احساس بالتفوق المعرفي. بمعنى فليكن هناك شكل من اقتصاد بايدي البشرة الداكنة ومعرفة بايدي البشرة الفاتحة. اقتصاد تدوير للمال دون ثقافة، وثقافة دون مال.
اعلم ان المادة عن مصر وظروفها مختلفة كليا عن سوريا كدولة اسيوية، لكن فقط كطرح راي عابر وشكرا لكم.