الرضيعة

قصة لدونالد بارتلمي*

ترجمة: سامح سمير

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه

دونالد بارتلمي (1931-1989) كاتب قصة أمريكي، عمل بالصحافة وكان أستاذًا للكتابة الإبداعية في عدة جامعات.


دونالد بارتلمي، عن Writers write

أول خطأ ارتكبته الرضيعة كان أن مزقت صفحات من كتبها. ولذا، سننا قاعدة تنص على أنه في كل مرة تمزق فيها صفحة واحدة من أحد الكتب عليها أن تمكث وحيدة في غرفتها لأربع ساعات، خلف الباب المغلق. في البداية، كانت تمزق صفحة واحدة كل يوم، فكانت القاعدة تُطبق بسلاسة تامة، رغم أن البكاء والصراخ وراء الباب المغلق كانا يثيران أعصابنا. لكننا فكرنا أن هذا هو الثمن، أو جزء من الثمن، الذي كان ينبغي أن ندفعه. لكن فيما بعد، مع تزايد قوة قبضتها، بدأت تمزق صفحتين في المرة الواحدة، مما يعني ثماني ساعات وحدها في غرفتها، خلف الباب المغلق، مما ضاعف فحسب من إزعاج الجميع. لكن هذا ما كان ليجعلها تكف عما تفعله. ومع مرور الوقت، بدأت تأتي علينا أيام كانت تمزق فيها ثلاث أو أربع صفحات في اليوم الواحد، أي أنها كان عليها أن تقضي ما يناهز ست عشرة ساعة متصلة وحدها في غرفتها، مما أعاق تناولها وجباتها في أوقاتها الطبيعية وأثار انزعاج زوجتي. لكني كنتُ أعتقد أنك متى وضعت قاعدة عليك أن تلتزم بها، وأن يكون سلوكك متسقًا، وإلا كون عنك الآخرون فكرة خاطئة. في هذا الوقت، كان عمرها نحو أربعة عشر، أو خمسة عشر، شهرًا. لكن من نعمة ربنا علينا، أنها كثيرًا ما كان يغلبها النوم بالطبع، بعد ساعة تقريبًا من الصراخ. كانت غرفتها لطيفة جدًا، بها حصان هزاز من الخشب، ونحو مئة من الدمى والحيوانات المحشوة. أشياء كثيرة تستطيع أن تفعلها في هذه، لو أنك أحسنت استخدام وقتك، ألعاب بازل وما إلى ذلك. لكن لسوء الحظ، أحيانًا كنا نفتح الباب فنجدها قد مزقت مزيدًا من الصفحات من كتب أخرى في أثناء وجودها بالداخل، وكان ينبغي إضافة تلك الصفحات إلى المجموع الكلي، إقرارًا للعدل.

كان اسم الرضيعة «بورن دانسينج»، وكنا نعطيها بعضًا من نبيذنا الأحمر، والأبيض والأزرق، ونتحدث إليها بجدية، لكن دون جدوى.

ينبغي أن أقول إنها غدت ذكية حقًا. ففي تلك الأوقات النادرة التي كانت تقضيها خارج غرفتها، كان يحدث أن نقترب منها وهي تلعب على الأرض، فنجد بجانبها كتابًا مفتوحًا، يبدو عاديًا تمامًا عند فحصه. لكن حين تدقق النظر إليه، ستجد به صفحة تمزق جزء صغير من أحد أطرافها، يمكن أن تعزوه بسهولة إلى بلى طبيعي من كثرة الاستخدام، لكني كنت أعرف ما فعلته، لقد مزقت هذا الجزء الصغير من طرف الصفحة وابتلعته، ومن ثم كان ينبغي إضافته إلى الحساب، وكنا نضيفه بالفعل. فهذه المخلوقات تفعل كل ما في وسعها لكي تُعجزك وتشيع فيك اليأس. وقد قالت زوجتي إننا ربما كنا متزمتين أكثر مما ينبغي، وأن الرضيعة تزداد نحافة. لكنني لفتُ انتباهها إلى أن الرضيعة أمامها حياة طويلة لتعيشها، وأنها ينبغي أن تعيش في عالم يشاركها فيه آخرون، عالم به الكثير والكثير من القواعد، وأنك إن لم تستطع أن تتعلم احترام القواعد، فسوف تقضي حياتك في العراء، بلا حيثية، وتتحول إلى شخص منبوذ يتجنبه الجميع. هذا وقد بلغت أطول فترة متصلة أبقيناها خلالها داخل غرفتها 88 ساعة، وقد أنهتها زوجتي بأن خلعت الباب من مفصلاته بواسطة عتلة، رغم أن الرضيعة كانت لا تزال مدينة لنا باثنتي عشرة ساعة لأنها كانت قد مزقت خمس وعشرين صفحة. فأعدتُ تركيب الباب في مفصلاته، ووضعتُ عليه قفلًا كبيرًا، لا ينفتح إلا بإدخال بطاقة مغناطيسية في فتحة به، واحتفظتُ بالبطاقة معي.

لكن الأمور لم تتحسن. فكان يحدث أن تخرج الطفلة من غرفتها مثل خفاش انبثق من قلب الجحيم، وتهرع  إلى أقرب كتاب، «عمت مساءً أيها القمر»، أو شيء من هذا القبيل، ثم تبدأ تمزق صفحاته بسرعة هائلة، حتى إنك قد تجد أربع وثلاثين صفحة منه على الأرض خلال عشر ثوانٍ فقط. إضافة إلى الغلافين. فبدأ يساورني شيء من الانزعاج. فحين حسبتُ ديونها، بالساعات، وجدتُ أنها لن تغادر الغرفة قبل عام 1992، لو حدث أن غادرتها أصلًا. كما كانت تبدو شاحبة للغاية، فقد مضت أسابيع على آخر مرة ذهبت فيها إلى الحديقة. وهكذا، وجدنا أنفسنا بمواجهة أزمة أخلاقية بشكل أو آخر.

وقد تمكنتُ من حلها بأن أعلنت أنه لا بأس من تمزيق صفحات الكتب، وأن ذلك يسري أيضًا على الصفحات التي مُزقت في الماضي. تلك واحدة من المسرَّات التي تحظى بها حين تكون أبًا، إذ يكون لديك الكثير من المسارات لتسلكها، جميعها آمنة وتقود إلى الهدف. والآن، أجلس أنا والطفلة جنبًا إلى جنب على الأرض، نمزق بسعادة صفحات الكتب. وأحيانًا، بغرض اللهو فحسب، نخرج إلى الشارع ونحطم سويًا الزجاج الأمامي لإحدى السيارات.