الفلسفة تكرارًا خلَّاقًا

مقال لآلان باديو

ترجمة: أيمن الجندي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

آلان باديو (1937) فيلسوف فرنسي

نُشر مقاله المترجم هنا عام 2007


آلان باديو، عن lesoir

سأبدأ بالإشارة لأحد أساتذتي، الفيلسوف الماركسي العظيم لويس ألتوسير. بالنسبة لألتوسير، لم يكن ميلاد الماركسية بسيطًا. تكونت الماركسية من ثورتين، حدثين فكريين كبيرين. الأول علمي: هذا الحدث كان ابتداع ماركس لعلم التاريخ، كان اسم هذا العلم «المادية التاريخية». الحدث الآخر ذا طبيعة فلسفية، وهو ابتداع ماركس وآخرين لنزعة جديدة اسمها «المادية الجدلية». نستطيع إذن أن نقول إن فلسفة جديدة مطلوبة من أجل توضيح ومساعدة ميلاد علم جديد. كانت فلسفة أفلاطون بالمثل ضرورية من أجل بداية الرياضيات, فلسفة كانط من أجل فيزياء نيوتن. لا يوجد صعوبة في كل هذا. في هذا الإطار من الممكن قول شيئين عن تطور الفلسفة.

كان هذا التطور يعتمد على حقائق جديدة في بعض المجالات التي لا تعتبر ذات طبيعة فلسفية بشكل مباشر. تعتمد بشكل خاص على حقائق في مجالات العلم. مثل الرياضيات لأفلاطون أو لديكارت أو لليبنيتز، الفيزياء لكانط أو وايتهيد أو بوبّر، التاريخ لهيجل أو ماركس، علم الأحياء لنيتشه أو برجسون أو دولوز.

وفيما يتعلق بأنني أوافق تمامًا على أن الفلسفة تعتمد على بعض الحقول غير الفلسفية، ولقد دعوت هذه الحقول «شروط الفلسفة»، أود ببساطة أن أقول إنني لا أُقْصِر شروط الفلسفة على تقدم العلم. إنني أقترح مجموعة أكبر بكثير من الشروط، تحت أربعة أنواع ممكنة: العلم، وأيضًا السياسة، والفن، والحب. إذن عملي الخاص يعتمد على سبيل المثال على مفهوم رياضي جديد للانهائية، ولكن أيضًا على أشكال جديدة من السياسة الثورية، على قصائد عظيمة لمالارميه أو بيسوا أو رامبو أو ماندلسون أو والاس ستيفنز، علي نثر صمويل بيكيت، على طرق جديدة من الحب ظهرت في سياق التحليل النفسي والتحول الكامل لجميع الأسئلة المتعلقة بالجنس والجندر.

ولذلك سيكون من الممكن لي أن أقول إن تطور الفلسفة هو التكيُّف التدريجي للفلسفة مع تغيُّر ظروفها. إذن يمكنك القول إن الفلسفة دائمًا في الخلف! الفلسفة تحاول دائمًا اللحاق بالمستجدات غير الفلسفية! وعليَّ أن أقول: هذا صحيح! وكان ذلك في الواقع استنتاج هيجل. الفلسفة هي طير الحكمة، وطير الحكمة هو البومة. لكن البومة تطير فقط عند أفول النهار. الفلسفة هي النظام الذي يأتي في بداية الليل بعد نهار من المعرفة ومن التجارب. ومن الواضح أن مشكلتنا، مشكلة تطوير الفلسفة، قد حُلَّتْ. هناك حالتان، في الحالة الأولى: سيأتي نهار جديد من التجارب الإبداعية في العلوم أو السياسة أو الفن أو الحب. وسنعقد أمسية جديدة للفلسفة. الحالة الأخرى: حضارتنا منهكة، والمستقبل الوحيد الذي يمكن أن نتخيله مستقبل مظلم، مستقبل من الغسق الدائم. لذا فإن مستقبل الفلسفة سيكون موتها البطيء، موتها البطيء في الليل. سوف تُقلَّص الفلسفة إلى ما يمكننا قراءته في بداية نص جميل من قبل صمويل بيكيت يسمي «صحبة»: «صوت يتحدث في الظلام». صوت بلا معنى، وبلا وجهة.

وفي الواقع، من هيجل وأوجست كونت إلى نيتشه، هايدجر أو ديريدا، ناهيك عن فيتجنشتاين وكارناب، يمكننا أن نجد الفكرة الفلسفية لوفاة مُحتَملة للفلسفة، على أي حال في شكلها الكلاسيكي، الميتافيزيقي.

يمكنني إيقاف محاضرتي هنا، وأقول وشعري واقف مثل مغني «بانك» Punk: «لا مستقبل!» بعد ذلك سنشرب جميعًا خمر العدمية.

ولكن لا تزال هناك بعض الصعوبات.

وربما تكون الصعوبة الأولى شديدة الشكلانية، وربما سفسطائية، وهي أن فكرة نهاية الفلسفة كانت فكرة فلسفية نمطية لفترة طويلة. وعلاوة على ذلك، فإنها غالبًا ما كانت فكرة إيجابية. بالنسبة إلى هيجل مثلًا، فالفلسفة في نهايتها لأن الفلسفة يمكنها أخيرًا أن تفهم ماهية المعرفة المطلقة. بالنسبة إلى ماركس، يمكن استبدال الفلسفة باعتبارها تفسيرًا للعالم، بتحول ملموس في نفس العالم. بالنسبة إلى نيتشه، يجب تدمير التجريد السلبي للفلسفة القديمة لتحرير تأكيد حيوي حقيقي، هو «نعم!» كبيرة لكل ما هو موجود. وبالنسبة إلى الجمل الميتافيزيقية والتحليلية الحالية، التي هي هراء محض، يجب تفكيكها لصالح مقترحات وحجج واضحة في إطار نموذج المنطق الحديث Modern Logic.

في كل هذه الحالات نرى أن الإعلانات العظيمة المتعلقة بوفاة الفلسفة بشكل عام والميتافيزيقية على وجه الخصوص، هي على الأرجح وسيلة بلاغية لإدخال طريقة جديدة أو هدف جديد في الفلسفة نفسها. ربما أفضل وسيلة لقول «أنا فيلسوف جديد»، هي أن أقول «الفلسفة انتهت»، و«الفلسفة ماتت». لذلك أقترح أن نبدأ شيئًا جديدًا تمامًا. ليس فلسفة، ولكن تفكير! ليس فلسفة، ولكن قوة حيوية! ليس فلسفة، بل لغة عقلانية جديدة! في الواقع: ليس الفلسفة القديمة، ولكن فلسفتي الجديدة الخاصة.

لذلك هناك احتمال أن تطوير الفلسفة يجب أن يكون دائمًا في شكل قيامة. الفلسفة القديمة، مثل الرجل العجوز، ميتة، ولكن هذا الموت في الواقع ولادة للرجل الجديد، الفيلسوف الجديد.

ولكن كما تعلمون، هناك علاقة وثيقة بين القيامة والخلود، بين أعظم تغيير يمكن أن نتخيله؛ التغيير من الموت إلى الحياة، والغياب الأكثر اكتمالًا للتغيير الذي يمكن أن نفكر فيه، عندما نكون في نشوة الخلاص.

ربما كان تكرار موضوع نهاية الميتافيزيقا والموضوع المتكرر المتعلق ببداية جديدة من التفكير، علامة على الجمود الأساسي للفلسفة كفلسفة. ربما الفلسفة يجب أن تضع استمراريتها وطبيعتها المتكررة في شكل ثنائية دراماتيكيَّة من الموت والولادة.

عند هذه النقطة يمكننا العودة إلى عمل لويس ألتوسير لأنه أكد علي أن الفلسفة تعتمد على العلم، أيضًا أكد علي شيء غريب جدًا؛ أنّ الفلسفة ليس لها تاريخ علي الإطلاق، أنّ الفلسفة هي دائمًا نفس الشيء. في هذه الحالة، فإن مشكلة تطوير الفلسفة مشكلة سهلة: مستقبل الفلسفة هو ماضيها.

يبدو شبيهًا بنكتة أن نرى الفيلسوف الماركسي العظيم ألتوسير بوصفه المدافع الأخير عن المفهوم الأكاديمي القديم للفلسفة الخالدة أو فلسفة الأصل الواحد A Philosophia Perennial; الفلسفة باعتبارها تكرارًا صافيًا لنفس الشيء. الفلسفة في أسلوبها النيتشوي باعتبارها عودةً أبديَّة للشيء نفسه.

لكن ما «نفس الشيء» هذا؟ ما تشابه «نفس الشيء» هذا الذي يعود في مصير الفلسفة التاريخي؟ خلف هذا السؤال نجد مناقشة قديمة حول الطبيعة الحقيقية للفلسفة. هناك تقريبًا اتجاهان رئيسيان: الأول أن الفلسفة بالأساس معرفة انعكاسية؛ معرفة الحقيقة في المجالات النظرية، ومعرفة القيم في المجالات العملية. علينا أن ننظم التعلم ونقل المعرفة. والشكل المناسب للفلسفة هو المدرسة. الفيلسوف هو أستاذ، مثل كانط أو هيجل أو هوسرل أو هايدجر، وغيرهم كثيرين بمن في ذلك «أنا» عندما كنت تخاطبونني باسم «الأستاذ باديو».

الاحتمال الآخر أن الفلسفة ليست في الواقع معرفة، وأنها ليست نظرية ولا عملية، وأنها تكمن في النقل المباشر لموضوع. إنها نوع من التحويل الجذري، تغيير كامل للحياة. وبالتالي فالفلسفة قريبة للغاية من الدين لكن بالوسائل العقلانية حصرًا؛ حب قريب للغاية، ولكن دون دعم عنيف من الرغبة. مشاركة سياسية قريبة للغاية، ولكن دون قيود من منظمة مركزية. قوة إبداع فني قريب للغاية، ولكن دون الوسائل المادية للفن. معرفة علمية قريبة للغاية، ولكن دون شكلانية الرياضيات. دون الوسائل التجريبية والتقنية للفيزياء. لهذا فالاتجاه الآخر أن الفلسفة ليست بالضرورة مسألة مدرسة وتعلُّم ونقل وأساتذة. إنها مخاطبة مجانية من أي شخص للجميع. مثل سقراط الذي يتحدث إلى الشباب في شوارع أثينا، وديكارت وكتابته رسائل للأميرة إليزابيث، وﭼان ﭼاك روسو وكتابته لاعترافاته، أو  نيتشه. أو روايات ومسرحيات سارتر. أو، لو كنت تغفر لي لمسة نرجسية، مثل رواياتي الخاصة ومسرحياتي.

الفرق أن الفلسفة لم تعد معرفة، أو معرفة بالمعرفة؛ إنها فعل. يمكن للمرء أن يقول إن ما يحدد الفلسفة ليس قواعد الخطاب، ولكن تفرُّد الفعل. هذا هو الفعل الذي أسماه أعداء سقراط «إفساد الشباب». وبسبب ذلك، كما تعلمون، حُكِم على سقراط بالإعدام. «إفساد الشباب» بعد كل شيء ليس اسمًا سيئًا للعمل الفلسفي. إذا كنت تفهم بشكل صحيح فعل «الإفساد». «أن يُفسِد» هنا يعني تعليم إمكانية رفض أي خضوع أعمى للآراء الراسخة. والفساد هو إعطاء الشباب بعض الوسائل لتغيير رأيهم بشأن جميع الأعراف الاجتماعية؛ «أن يُفسِد» تعني أن يستبدل التقليد بالنقاش والنقد العقلاني، وحتّى لو كان المسألة متعلقة بالمبادئ، أن يستبدل الطاعة بالثورة، ولكن هذه الثورة ليست عفوية ولا عدوانية بقدر ما هي نتيجة لمبادئ وانتقادات عقلانية. في قصائد الشاعر الكبير آرثر رامبو نجد التعبير الغريب «الثورات المنطقية». هذا على الأرجح تعريف جيد للعمل الفلسفي، «الثورات المنطقية». ليس من المصادفة أن صديقي، الفيلسوف الجيد جدًا ﭼاك رانسيير، خلق مجلة مهمة جدًا في السبعينيات، وكان عنوانها على وجه التحديد «الثورات المنطقية».

لكن لو كان جوهر الفلسفة جوهرًا نشطًا، لاستطعنا أن نفهم بشكل أفضل لماذا لا يوجد لدى ألتوسير تاريخ واقعي للفلسفة. في أعماله، يقترح ألتوسير نفسه أن وظيفة الفلسفة أن تقدِّم تقسيمًا في داخل الآراء. وبشكل أكثر تحديدًا، في داخل الآراء حول المعرفة العلمية، أو، بشكل أعم، في الأنشطة النظرية. أي نوع من التقسيم؟ في نهاية المطاف، الانقسام بين المادية والمثالية. وبما أن ألتوسير ماركسي، فقد أعتقد أن المادية هي الإطار الثوري للأنشطة النظرية، وأن المثالية هي الإطار المحافظ. لذلك كان تعريفه النهائي: الفلسفة تشبه نضالًا سياسيًّا في المجال النظري نفسه.

ولكن بغض النظر عن الاستنتاج الماركسي، يمكننا أن نلاحظ نقطتين:

الأولى: أن العمل الفلسفي يأتي دائمًا في شكل قرار، فصل، تمييز واضح، بين المعرفة والرأي، بين الآراء الصحيحة والآراء الكاذبة، بين الحقيقة والخطأ، بين الخير والشر، بين الحكمة والجنون، وما إلى ذلك.

الأخرى: للعمل الفلسفي دائمًا بعد معياري. والتقسيم أيضًا تقسيم هيراركي. في الحالة الماركسية، فإن «المادية» كلمة جيدة و«المثاليَّة» كلمة سيئة. ولكن بشكل أعم، يبدو دائمًا أن تقسيم المفاهيم أو تقسيم الخبرات في الواقع ربما كان فعلًا فَرَض على الشباب هيراركية جديدة. وبطريقة سلبية، فإن نتيجة الفعل انقلاب لنظام ثابت أو للهيراركية القديمة.

لذلك لدينا بشكل فعال شيء ثابت في الفلسفة، شيء مثل التكرار القهري، أو مثل العود الأبدي لـ«الشيء نفسه». يمكننا تلخيص هذه المصفوفة، التي ليست منبتة الصلة تمامًا بسلسلة أفلام «ماتريكس».

الفلسفة هي إعادة تنظيم جميع التجارب النظرية والعملية، من خلال اقتراح تقسيم معياري كبير جديد يقلب النظام الفكري القائم ويعزز قيم جديدة تتجاوز القيم المشتركة. شكل كل هذا هو مخاطبة مجانية موجهة إلى الجميع، ولكن أولًا وقبل كل شيء، إلى الشباب، لأن الفيلسوف يعرف تمامًا أن الشباب يجب أن يتخذ قرارات بشأن حياته، وأنه غالبًا ما يكون أفضل استعدادًا لقبول مخاطر ثورة منطقية.

كل هذا يفسر لماذا الفلسفة دائمًا نفس الشيء. وبطبيعة الحال، يعتقد كل فيلسوف أن عمله جديد تمامًا. هذه فقط طبيعة الإنسان. وقد أدخل العديد من المؤرخين من الفلسفة تمزُقات مطلقة. على سبيل المثال، بعد كانط قيل إن الميتافيزيقيا الكلاسيكية مستحيلة. وبعد فيتجنشتاين، لم يعد من الممكن أن ننسى أن دراسة اللغة هي جوهر الفلسفة. لذلك لدينا منعطف عقلاني، منعطف حاسم، منعطف لغوي. ولكن في الواقع، لا شيء في الفلسفة لا رجعة فيه. ليس هناك منعطف مطلق. كثير من الفلاسفة يستطيعون اليوم أن يجدوا، عند أفلاطون أو ليبنيـتز، بعض النقاط المثيرة لاهتمامهم أكثر فاعلية من نقاط مماثلة عند هايدجر أو فيتجنشتاين. لأنّ مصفوفتهم الخاصة بشكل كبير متطابقة أفلاطون أو ليبنيز. الحقيقة أن الفلسفة إلى حد كبير تكرار لعملها، يوضح الروابط الداخلية بين الفلاسفة. دولوز مع ليبنيتز وسبينوزا. سارتر مع ديكارت وهيجل. ميرلوبونتي مع برجسون. أنا نفسي مع أفلاطون وهيجل. سلافوي جيجيك مع كانط وشيلينج. وربما لما يقرب من ثلاثة آلاف سنة: الجميع مع الجميع.

ولكن إذا كان الفعل الفلسفي هو نفسه شكليًا، وهو عودة الشيء نفسه، يجب علينا أن نأخذ في الاعتبار تغيُّر السياق التاريخي، لأن الفعل يحدث في ظل بعض الظروف. عندما يقترح فيلسوف تقسيمًا جديدًا وتسلسلًا هيراركيًا جديدًا لتجارب عصره، فإن ذلك يرجع إلى أن خلقًا فكريًا جديدًا، حقيقة جديدة، قد ظهر للتو. في الواقع، لأن علينا من خلال عين هذا الفيلسوف أن نفترض تبعات حدث جديد في الظروف الواقعية للفلسفة.

على سبيل المثال، اقترح أفلاطون التقسيم بين الحس والعقل من منظور الهندسة ومفهوم ما بعد فيثاغورس للرقم والقياس. هيجل قدَّم التاريخ والصيرورة داخل الفكرة المطلقة، بسبب الحداثة الملفتة للثورة الفرنسيّة. طوَّر نيتشه علاقة جدليَّة بين المأساة اليونانيّة والولادة الفلسفة في سياق من الإحساس الصاخب الذي سببه اكتشافه لدراما ريتشارد فاجنر الموسيقية. وأحدث دريدا تحولًا في النهج الكلاسيكي للمعارضة الميتافيزيقية الجامدة ويرجع ذلك جزئيًا إلى الأهمية المتزايدة التي لا يمكن اختزالها للبعد الأنثوي في تجاربنا.

لهذا السبب يمكننا أن نتحدث أخيرًا عن التكرار الإبداعي. هناك شيء لا يتغير في شكل إيماءة، ألا وهو إيماءة الانقسام. بضغط بعض الأحداث وعواقبها تحدث ضرورة لتحويل بعض جوانب الإيماءة الفلسفية. لدينا إذن شكل، ولدينا شكل متغير لشكل فريد من نوعه. ولهذا السبب نعترف بوضوح بالفلسفة والفلاسفة، على الرغم من خلافاتهم الهائلة وعلى الرغم من صراعاتهم العنيفة. قال كانط إن تاريخ الفلسفة هو ساحة المعركة. نعم، إنه كذلك! ولكنه أيضًا تكرار لنفس المعركة، على نفس الأرض. ربما قد تساعدنا صورة موسيقية. تطوير الفلسفة يكمن في الشكل الكلاسيكي للثيمة وتنويعاتها: التكرار والثيمة، والتجديد المستمر، والتنويعات.

ولكن كل من الثيمة والتنويعات تأتي بعد بعض الأحداث في السياسة والفن والعلوم والحب التي توفر ضرورة لتنويعة جديدة لنفس الثيمة. لذلك نحن الفلاسفة، نعمل خلال الليل، بعد نهار من صيرورة واقعية لحقيقة جديدة. أتذكر قصيدة جميلة لـوالاس ستيفنز اسمها «رجل يحمل شيئًا». يكتب ستيفنز: «يجب أن نتحمل أفكارنا طوال الليل». للأسف، هذا مصير الفلاسفة والفلسفة. يُكمل ستيفنز: «حتى يقف الساطع الواضح بلا حراك في البرد». نعم، ونحن نأمل ونعتقد أنه ذات يوم، سيقف ذلك «الساطع الواضح» بلا حراك.

«الساطع الواضح» من الفكرة سيقف مثل نجمة ثابتة في السماء، «بلا حراك في البرد». وستكون هذه هي المرحلة النهائية من الفلسفة، الفكرة المطلقة، الوحي الكامل. ولكن هذا لن يحدث أبدًا. على العكس من ذلك، عندما يحدث شيء في نهار الحقائق الحية، علينا أن نكرر الفعل الفلسفي، وأن نخلق اختلافًا جديدًا.

وبالتالي فإن مستقبل الفلسفة، مثل ماضيها، هو تكرار إبداعي. يجب أن نتحمل أفكارنا طوال الليل إلى الأبد.

الفيلسوف مفيد، لأنه -أو لأنها- على عاتقه مهمة مراقبة صباح الحقيقة، وتفسير تلك الحقيقة الجديدة ضد الآراء القديمة. إذا كان «علينا أن نتحمل أفكارنا طوال الليل»، فذلك لأننا يجب أن نفسد الشباب بشكل صحيح. عندما نستشعر أن حَدَثًا من أحداث الحقيقة يقطع استمرارية الحياة العادية، علينا أن نقول للآخرين: «انتبهوا! إن وقت التفكير الجديد والفعل قد حان!» ولكن من أجل هذا، علينا نحن أنفسنا أن نكون مُنتبهين. نحن، الفلاسفة، لا يُسمَح لنا بالنوم. الفيلسوف حارس ليلي فقير.