البيَاض.. مين هو الإنسان العادي
مقال لشهاب الخشاب
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
مين الإنسان العادي؟ سنة 2012، الحكومة الكندية كانت بتجدد في شكل الفلوس الورقية وقررت تزود وشوش جديدة على الأشكال الموجودة. تحت دعوة التعددية الثقافية، الناس اللي اترسمت في الورق الجديد كانت من أصول مختلفة، بما في ذلك رسمة عالمة آسيوية بلا ملامح واضحة بتبص في الميكروسكوب على ورقة الـ100 دولار. لما الصورة اتعرضت على «فوكس جروپ» focus group، يعني مجموعة من المواطنين المختارين عشان يمثلوا فصائل مختلفة من المجتمع لإبداء آرائهم في الرسومات المقترحة، الناس المشاركين قالوا إن صورة العالمة الأسيوية كانت «عنصرية» باعتبار إن النمط الشائع عن الآسيويين في كندا وفي أمريكا إنهم كلهم أذكياء وشاطرين في العلوم وبياخدوا أعلى درجات في المدارس والجامعات. لذلك قررت الحكومة الكندية إنها تستبدل ملامح العالمة الأسيوية على ورقة الـ100 دولار بملامح عالمة بيضاء، باعتبار إن الست البيضاء هي اللي شكلها «عادي».
لما الموضوع اتعرف في الإعلام، أثار جدل واسع: إشمعنى الست البيضا هي النموذج «العادي» اللي ينفع يتحط على الفلوس والست الآسيوية مالهاش نفس الوضع؟ مين أصلًا يقدر يقرر الشكل «العادي» للناس؟ المسؤولين في الحادثة دي اتصرفوا بتلقائية شديدة وبدون ما يراجعوا نفسهم في فكرة إن البياض هي الحالة الطبيعية للإنسان، وإن استخدام الجسد الأبيض لتمثيل البني آدم بيعبَّر عن مجتمع بيرفع العرق الأبيض فوق كل الأعراق التانية. في كندا زي في كل المستعمرات الأوروبية الحالية والسابقة، مفهوم «البياض» (whiteness) واحد من المفاهيم الأساسية للتعاطي مع النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي العرقي، سواء كان عنصري علنًا، زي في زمن العبودية في أمريكا والـ«أپرتهاید» في أفريقيا الجنوبية، أو عنصري ضمنيًا زي في حالة كندا الحالية.
البياض مالوش علاقة موضوعية بلون البشرة، بدليل إن مضمون «البياض» نفسه بيتغيَّر مع الوقت. في كندا وفي أمريكا مثلًا، المهاجرين الإيطاليين والأيرلنديين في القرن الـ19 ماكانوش بيُعتبروا بيض لأنهم ما كانوش تابعين لطائفة بروتستانتية، وبالتالي كان بيتم التعامل معاهم باعتبارهم أقل اجتماعيًا (وماديًا) من المهاجرين الفرنساويين والإنجليز السابقين. النهارده أحفاد الإيطاليين والأيرلنديين دخلوا في منظومة «البياض» وبيُعتبروا بيض، بينما بيتم توجيه العنف العنصري ضد المهاجرين العرب والأفارقة والآسيويين، وضد السكان الأصليين طبعًا.
إذن البياض عمره ما كان فقط سمة موضوعية، وإنما هو الجزء الطاغي في سياق عنصري بيعزز «البياض» وبيعادي «السواد» (blackness). السواد هنا برضه مش تعبير عن لون البشرة، وإنما مفهوم عنصري بيربط الأجساد السمرا ببعض السمات الحضارية زي التخلف والوحشية والعجز عن التفكير العقلاني، بينما بيتم استغلال الأجساد دي سواء عبر الاستعباد أو الإبقاء في شغلانات يدوية ومنزلية بسيطة. السواد دايمًا بيقدم تهديد معنوي للمنظومة البيضا، لأنه بيمثل الشيء «الشاذ» اللي بيختلف عن الشيء «العادي» في المجتمعات العنصرية.
ارتباط البياض بمعاداة السواد من الأطروحات الأساسية في التراث الفكري الأفريقي والأفرو أمريكي والكاريبي، زي في كتاب عالم الإنسان الهاييتي أنتينور فيرمان (Anténor Firmin)، «عن المساواة بين الأعراق البشرية» (De l’égalité des races humaines)، وفي كتابات عالم الاجتماع الأفرو أمريكي ويليام إي. بي. دوبويس (W.E.B. Dubois) عن «خط اللون» (color line) في أمريكا بعد نهاية العبودية الرسمية. البياض مش مجرَّد مسألة لون، وإنما مسألة قوة اقتصادية واجتماعية في إيد بعض الناس اللي بتتصرَّف باعتبار إنها «عادية» في سياق عنصري بيعادي أي حد «مش عادي».
المثير إن الناس البيضا اللي عايشة في المجتمعات العنصرية ما تقدرش دايمًا تتصور إنها بيضا، بمعنى إن بعض الناس التانية في المجتمع قادرة تشوف طبيعة النظام العنصري وتفترض إن البياض مش الوضع الطبيعي للكون. في مقال عنوانه «تمثيل البياض في الخيال الأسود» (Representations of Whiteness in the Black Imagination)، المفكرة الأفرو أمريكية بل هوكس (Bell Hooks) بتشرح إزاي الأمريكان البيض ما يقدروش يتصوروا إن الأفرو أمريكان بيشوفوهم وبيدرسوهم كـ«بيض». هوكس بتقول إن الاستغراب ده في حد ذاته عنصري، لأنه بيعيد إنتاج طريقة تفكير موجودة من زمن العبودية. في الرؤية دي، السيد الأبيض هو الوحيد اللي يقدر يبص للآخر، باعتبار إن هو الوحيد اللي عنده ذات مستقلة وهو الوحيد اللي يقدر يتحكم في نظرة الآخر له. إذا الآخر (الأسود) رد النظر للسيد، بيكتسب نوع من المساواة والاستقلال الذاتي، وده طبعًا مش مسموح للعبد.
رغم التصور الشائع عند الأمريكان البيض إنهم ناس «عاديين»، هوكس بتشرح إن البياض له دلالات تانية كتيرة في الخيال الأفرو أمريكي، ومن أهمها الإحساس بالرعب. الإحساس ده يبدو غريب للناس البيض اللي اتربوا على إن «الآخر» الأفرو أمريكي هو المصدر الرئيسي للجريمة والعنف وانتهاك الأجساد «العادية». ولكن في الواقع، تاريخ العنف العرقي الأبيض ضد الأفرو أمريكان في زمن العبودية وبعدها (مثلًا في الاغتيالات الجماعية اللي كانت بتنظمها المجموعات العنصرية في جنوب الولايات المتحدة) بيأسس لإحساس من الرعب الجماعي تجاه «البياض»، حتى لو الإحساس ده مش معترف به في المجتمع الأبيض المهيمن باعتبار إن الذات الأفرو أمريكية مالهاش ملامح واضحة وأحاسيس خاصة.
في السياق المصري، العلاقة بين البياض والسواد مالهاش نفس الدلالات اللي موجودة في أوروبا وأمريكا. فمثلًا المصريين بيعتبروا إن بياض بشرة الستات دليل على الجمال، باعتبار إن الست اللي بشرتها بيضا بتحافظ على شكلها ونفسها وما بتخرجش من البيت، ولكن ما نقدرش نعمم نفس التصور على الرجالة. وكذلك الشخص الأسمر في مصر مش شرط يكون أفقر من الشخص اللي لونه أفتح، ومش شرط يكون عايش في مكان مختلف عن الناس اللي لونها خمري، ومش شرط يكون متعرض للعنف البوليسي أكتر من إخواته التانيين.
الاختلافات دي ما تعنيش إن مفيش معاداة شديدة وجذرية للناس اللي بتتصنف كـ«أفارقة» أو «سود» في مصر. المعاداة دي لها تاريخ خاص في العالم العربي، نقدر نشوفها في تاريخ العبودية الطويل عند العرب وفي اثرها في نظام الكفالة مثلًا. ولكن المضمون الفكري للمعاداة دي بيتأثر برضه من الأفكار العنصرية اللي انتشرت في أوروبا وأمريكا وقت الاستعمار. طبعًا العنصرية العربية ما أدتش لنظام اقتصادي واجتماعي كامل قائم على التفرقة بين البيض والسود، وإنما لا زالت بتأثر في تفكير المصريين عن نفسهم بصفتهم ناس «عاديين». وضع النوبيين في الخيال القومي المصري بيبيِّن الإشكالية دي بحدة، بين احتواء «الجالية النوبية» في إطار هوية وطنية متشكلة بمنطق «من كل بستان وردة»، وبين تهجير النوبيين والمعاداة لحركاتهم السياسية باعتبارهم شعب أدنى ولازم يخضع للسلطة المركزية.
باختصار نظرة المصري «العادي» لذاته مش فارغة من المعاداة الضمنية للناس الـ«مش مصريين»، والتفرقة بين المصري وغير المصري مرتبطة بالتصورات عن الهوية «العادية»، بما في ذلك الهوية العرقية. التصورات دي ممكن تتغيَّر مع الزمن، وإنما بتتأثر بمفهوم البياض باعتباره المعيار الاستعماري الشائع للتفرقة بين الإنسان العادي والإنسان الغريب.