القارئة

قصة لروبرت كوفر*

ترجمة: محمد الشعراوي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

* يعد روبرت كوفر (4 فبراير 1932) من أبرز رواد أدب ما بعد الحداثة، ارتبط اسمه في الستينيات والسبعينيات بكُتَّاب مثل: توماس بينشون ووليم جاس وجون بارث ودونالد بارتلمي. ينزع كوفر في مشروعه إلى اكتشاف مساحات جديدة على مستوى الشكل وخلخلة البنى التقليدية للقصة وإعادة تجسيد الأساطير والحكايات الشعبية بعد أن يَسِمها بروح المجتمع الحديث وتعقيداته وتناقضاته. كما اختبرت أعماله طبيعة الأدب القصصي والتوتر في علاقته بالواقع من خلال السرد الواعي بذاته (الميتافكشن). لاحقًا، أصبح كوفر رائدًا للأدب الإلكتروني بتأسيسه عام 1990 أول قسم لتدريس السرد الرقمي والنصوص التشعبية (Hypertext) في جامعة براون. (المترجم)


في غياب من يقرأ له، يصنع لنفسه قارئًا في قصة يسميها «القارئة». يقرر أن يجعلها رقيقة الحس، متقدة الذهن، نافذة البصيرة، واسعة الاطلاع - باختصار، قارئه المثالي - كما أنها جميلة جمالًا متقنًا ولها بسمة فاتنة وطبع لين عطوف. تصرح بعشقها لكتابته - المكتوبة لها بالتحديد - ما يجعله يعتقد أنها تعشقه هو أيضًا. حسنًا، بالطبع هي تحبه، إنها قصته، فكيف لها ألا تفعل؟ هي تحبه إذن، تعشقه، ولكن، كفكرة مجردة، كما تقتضي الضرورة - مثلما يحب القارئ كاتبه الغائب، حيًا أو ميتًا - دون أن تواتيها الظروف فتعبر عن حبها بشكل مباشر، وتلك كانت محنته كذلك. يكتب ملهمًا بها قصيدة بارعة في فكرتها، محكمة في نظمها، تقرؤها فتولع بها وتضمها إلى صدرها، صدرها الذي يعرف عنه كل شيء، فهو من صاغه وأبدعه. حين تضغط القصيدة إليه، فكأنما يداه وشفتاه هناك أيضًا. لكنهم ليسوا هناك. لا يستطيع لمس صدرها، مع أنه يعلم أنها إلى ذلك تشتاق. لأنه يحبها ويريد لها السعادة، يجعل لها شابًا وسيمًا يرافقها، مليح ومثقف هو الآخر، وذو طبع ودود وكريم. يحدث هذا التطور في قصته خلال زيارة لمتجر الكتب في منطقته. بينما يجلس هناك، على كرسي رثَّ جلده، حيث يجلس دائمًا، يشرب فنجان قهوة ثانيًا، يتصفح جرائد اليوم السابق ويدون ملاحظات في دفتره الأزرق الصغير، يقرر أن هذا هو المكان الذي سيتقابلان فيه، ويتقابلان. تقرأ هي أحد كتبه. الشاب أيضًا قرأ نفس الكتاب. ما يجمعهما هو أن كليهما متيم بالكاتب. يلتقط الشاب من على الرف كتابًا آخر للمؤلف ويعلق على حذاقة سرده وغنائيته الأخاذة ونبل مقصده. إنها مشدوهة أمام معرفته الحميمة بكتاب عزيز إليها. بعد قليل هما عاريان. يتبرعم الحب بينهما. تشعر بالسعادة. لكن من أوجد كل هذا ليس سعيدًا. بل إنه، بينما يكتب عنهما، يفور بالغيرة الرهيبة، تحديدًا حين يقبِّل الشاب صدرها. لم يأبه بأن هذا الشاب أيضًا يحب كتابته، لقد انتهى. صدمته شاحنة. مأساة. تشعر بأسى جارف، كونها شخصًا حساسًا، لكن الحقيقة أنه لم يكن شخصًا مناسبًا لها. تعرف ذلك الآن. لذلك يدخل القصة بنفسه. أو يدخل شخص يحمل اسمه وأوصافه. يتقابلان في متجر الكتب نفسه. يجلس إلى طاولة، يقرأ على جمهور مكتظ من المعجبين، حين تراه لأول مرة، تنسى فاجعتها وتغرق في حبه. استسلام تام. يمكنه أن يفعل معها ما بدا له. أولًا، عليه أن يقدم نفسه بالطبع. توفر عليه العناء حين تعطيه كتابًا ليوقعه، وتقول إنه كتابها المفضل من بين كل ما كتب، والأعظم بين كل ما قرأت. يبتسم لها بينما يلمح وهج الحب في عينيها، ولعل عينيه نفسيهما تعكسانه. يقول إنه لا شيء مقارنة بالكتاب الذي يعمل عليه الآن. تشهق حين تدرك لحظة التكشف تلك واضعة يدها على صدرها، حيث ستكون يده قريبًا. ربما تحدس أن الكتاب الجديد سيكون لها، لها وحدها. يسألها بأسلوب مغر بينما يعيد إليها الكتاب المُوَقَّع: ما رأيك بفنجان قهوة، أو ربما كأس نبيذ؟ تقول المرأة الجالسة قبالته على كرسي الجلد البالي وفي حجرها كتاب: لا، شكرًا لك. بينما تحدق فيه بشيء بين الفضول والقلق والحذر، يعتذر، موضحًا أنه ممثل وأنه يتمرن على دوره في مسرحية سيشارك بتجارب الأداء لها. يقول حين تسأله: اسمها «القارئة»، فيما يغادر متجر الكتب وفي نيته ألا يعود أبدًا. القارئة أيضًا تغادر متجر الكتب. هي في شقة الكاتب الشهير الذي قابلته للتو، بالأحرى، شقته هو، أو شقة تشبهها إلى حد بعيد، إلا أنها أنظف وأثاثها أكثر أناقة، على حوائطها نقوش ورسوم شهيرة لا صفحات ممزقة من المجلات. تعجبها مكتبته الضخمة (في الواقع لا توجد مساحة كافية للرسوم). تسأل: هل قرأت كل هذه الكتب؟ كل ما في هذه الغرفة، نعم. تلك التي لم أقرأها في غرفة النوم. هل يمكنني أن أراها؟ بالتأكيد. تلتقط واحدًا من الكتب المرصوصة فوق الكومودينو. الآن هي عارية مرة أخرى. تفعل ذلك بسهولة كبيرة. الكاتب داخل القصة يخلع ملابسه هو الآخر. كما لو كان هو نفسه، ولو بطريقة أقل جاذبية من الاثنين الآخرين. لكن ماذا بعد ذلك؟ لقد جعل بطله وبطلته عاريين معًا في غرفة نوم، يشعران بالإثارة، يشعر هو بالإثارة، لكن القصة لا تذهب في أي اتجاه. جمالها الوهَّاج، الذي ازداد ألقًا على ألق حين تعرت، أنساه من تكون. هل ينبغي أن تقرأ شيئًا؟ يرى الكتاب الذي التقطته، رواية خيال علمي عن مخلوقات من الفضاء الخارجي، لا يبدو ذلك مبشرًا. يقرر أن يرتدي ملابسه مرة أخرى ويرجع إلى متجر الكتب. لحسن الحظ لا أحد يجلس على كرسيه المفضل وعلى الكرسي المقابل تجلس نفس المرأة. الأمور مواتية للغاية، وللحظة يتساءل إن كان في قصة يكتبها شخص آخر. تسأله المرأة إذا كان قد حصل على الدور الذي شارك في تجارب أدائه فيعتذر موضحًا لها أنه، في الحقيقة، كاتب لا ممثل. أراد أن يغزو أفكار ومشاعر شخصياته فنسي نفسه من شدة اندماجه وتورطه معهم وجعل يردد جملهم بصوت عال، لكنه خجل من التصريح بذلك. تجد في ذلك تسلية كبيرة وتقول إنها تعرف كيف يحدث شيء كهذا. يسألها إن كانت هي أيضًا كاتبة وتقول إنها قارئة فقط، لكنها كثيرًا ما سمعت كُتَّابًا يتحدثون عن ارتباكهم إزاء ما هو حقيقي وما هو متخيل في حيواتهم، وأحيانًا شيء كهذا يحدث لها كقارئة. يسألها إن كانت قد شعرت من قبل بأنها تعيش داخل قصة شخص آخر. تقول: طوال الوقت. تضيف مع ابتسامة حزينة: لكنني، دائمًا، لا أكون الشخصية الرئيسية. تذكر الجملة التي كان قد قالها عن الذهاب لشرب كأس من نبيذ، وتسأله إن كان العرض قائمًا. بعد قليل هما عاريان، يستلقيان على مرتبة في شقتها، يضع كل منهما كأس النبيذ بجانبه على الأرضية. يبدو له أن ذلك حدث بنفس السهولة مثلما في القصة التي يكتبها. هي ليست جميلة والكتاب الذي كانت تقرؤه ليس سوى رومانسية رخيصة، لكنه ممتن لها. لقد اكتمل الحب الذي نشأ بين الكاتب، الشخص الذي يشبهه ويحمل اسمه، وبين القارئة الجميلة، والآن صار للقصة أن تتخطاه. بالطبع ما زالت تحبه بوله شديد، لكن ماذا عنه؟ من ناحية، يعرف أنه مدين لجمهوره بأن يظل مخلصًا للكتابة، لا ينشغل عنها إلى زوجة أو عشيقة. ومن ناحية أخرى، هي جمهوره. تلتفت إليه القارئة الجميلة وعلى وجهها ابتسامة حالمة. تهمس له: هذا شرف كبير لي. يذوب قلبه. يهمهم: ولي أيضًا، ولو مدركًا أن شيئًا قد انكسر بينهما. يضيف: أنت جميلة لكنك - يتوجع قلبه إذ يقولها - أفسدت قصتي. لا تتبدل ابتسامتها. تبدو كما لو أنها لم تسمعه. حسنًا، بالطبع، إنه ليس الكاتب في قصته من قال ذلك، بل هو نفسه. نهضت المرأة المستلقية بجانبه، ربما تشعر بالإهانة. بدأت ترتدي ملابسها بالفعل. تقول: هل معك أي نقود؟ سأشتري لنا بيتزا. يفك بنطلونه المهلهل ويفتش في جيوبه، مدركًا أنه جائع للغاية. لقد نسي الأكل في حمى إبداعه. بينما هو على يديه وركبتيه يقوم بذلك، تصفع مؤخرته. تقول بابتسامة عريضة انظر ما الذي يمكنني تخريبه أيضًا. وتصفعها ثانية. مشروم، ببروني، سوسيس، جبنة إضافية، ثوم؟ عظيم. يناولها ورقة نقدية وفي غمضة عين يلتصق بالفراش مجددًا. سيترك كاتبه وقارئته لشكوكهما. هكذا ينبغي لقصة أن تنتهي.