العالم رواية بوليسية
سلسلة يكتبها أمير زكي
نُشرت بموقع مدى
نُشر المقال الرابع في 29 يوليو 2019
لقراءة المقال الأول
لقراءة المقال الثاني
لقراءة المقال الثالث
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
شاهدت فيلم «اسم الوردة» (1986) في أحد نوادي السينما، أثناء دراستي بالجامعة، بالطبع استمتعت بالأداء التمثيلي واللغز المثير، ما حفزَّني لقراءة الرواية. بعد عرض الفيلم دار النقاش في نادي السينما حول العديد من الأشياء، ومن ضمنها اختيار الممثل شون كونري ليقوم بدور البطولة. شون كونري قادم تاريخيًا من وضعه الراسخ كأول جيمس بوند. فكر الحاضرون في أن اختيار كونري كان الغرض منه إضفاء بُعد تجاري، إذ يتحول الراهب واسع الاطلاع في الفيلم إلى الممثل الجذاب، مما يزيد من قاعدة جمهور الفيلم. هذه خلطة معروفة تفعلها السينما، وكثيرًا ما نقول إن الأدب بريء منها. ولكن بعد الاطلاع على الرواية تجد أن مضمونها، وبحس أدبي، استخدم تأثيرًا مشابهًا.
وسط أجواء الرواية المقبضة والحوارات اللاهوتية والصراعات العقائدية تجد أن الخط الرئيسي فيها يستعين بالعناصر الأساسية الموجودة في أشهر السلاسل البوليسية العالمية، شرلوك هولمز، بحيث سارت الرواية، التي تدور في العصر الوسيط، على خطوط رئيسية مستمدة من روايات أرثر كونان دويل عن المحقق الشهير، التي نشرت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. هكذا مثلما استعان الفيلم بالجاسوس الأشهر، استعانت الرواية من قبله بالمحقق الأشهر.
يحكي القصة الراهب أدسو، الذي كان صبيًا خلال أحداث الرواية، وهو تابع للراهب المحقق جوليالمو، تمامًا مثلما يحكي واطسن عن هولمز في السلسلة البوليسية (وإن كانت هذه الثنائية ترتد في الأدب الغربي إلى دون كيخوته وسنشو بانثا).
يندهش أدسو من إمكانيات جوليالمو الخاصة وقدراته على الملاحظة والاستنتاج التي تبهر من حوله، ومن قدرة جوليالمو على معرفة أن الرهبان الذين لاقوهم يبحثون عن حصان هارب، بالضبط مثل اندهاش واطسن من معرفة هولمز أنه قادم من حرب أفغانستان.
يدمن الراهب تعاطي نباتات خاصة ليست مناسبة لوضعه الديني، وكذلك يدمن هولمز الأفيون. يكون التقابل أوضح حين نعرف أن اسم الراهب هو «جوليالمو دا باسكرفيل»، إذ أن باسكرفيل اسم عائلة ومكان ذَكَره كونان دويل في سلسلة هولمز. يمكن أن نضع أيضًا عدم استساغة جوليالمو لكوميديا دانتي الإلهية، مقابل تعليق واطسن على أن شرلوك ليس على دراية بالأدب، ولكن يمكن أن نكون متعسفين في التقابل الأخير، لأن جوليالمو اهتم اهتمامًا جمًا بكتاب «فن الشعر» لأرسطو.
يقول مايكل كارول، في مقال نُشر عن الرواية بمجلة «الأنثروبولوجي الأمريكي» وتُرجمت في كتاب «تأملات في اسم الوردة»: «من المناسب تمامًا أن نص إيكو هو إلى حد كبير تحويل لنص سابق، ألا وهو مجموعة شرلوك هولمز التي كتبها كونان دويل». ويضيف كارول أن هذا التحويل استعان بخلفية إيكو السيميائية.
يصف إيكو، في الكتاب نفسه، روايته بأنها «ميتافيزيقا بوليسية»، إذ أن القارئ سيعتقد أن القصة بوليسية قبل أن يكتشف الفخ لأن المحقق سينهزم في النهاية، وكذلك لن ينكشف الكثير من اللغز.
بخلاف الاستعانة بسلسلة شرلوك هولمز؛ تمتد سلسلة إحالات إيكو، فمثلًا يقسم الفصول وفقًا للصلوات المسيحية، وفي حالة كشف اللغز يستعين بقصة من «ألف ليلة وليلة» وهي قصة «الملك يونان والحكيم دوبان».
يشير إيكو إلى أن اختياره راويًا مراهقًا يرجع لرغبته في التعبير من خلاله عن مخاوفه الشخصية حين كان مراهقًا، واستكشافه لغرائزه وللعالم كله. نرى وقوع أدسو في خطيئة الزنا، وهو ما يقرب ثنائية جوليالمو وأدسو أكثر من دون كيخوته وسنشو، إذ يمثل الأخير الجسد والواقعية ويمثل الأول الروح والتفكير المجرد.
تتطرق الرواية إلى الصراعات اللاهوتية والحياتية، وما كان يُعتبر هرطقات تستوجب القتل والحرق في ذلك العصر. يبدأ جوليالمو في التحقيق في سلسلة من جرائم القتل التي حدثت بالدير، والتي بدأت إحداها قبل وصوله، ثم تتالت بوجوده. يتخلل المسار الرئيسي العديد من الخطوط، منها الحوارات اللاهوتية عن موقع «الضحك» في العقيدة المسيحية، والسؤال هل كان المسيح يضحك أم لا؟ هذا التساؤل الذي كان قائمًا في طفولتنا، فقد كنا نرى المسيح وديعًا وطيبًا، وأحيانًا صارمًا كما الحال حين طرد الباعة من الهيكل، ولكن صورته وهو يضحك لم تكن موجودة. أظن أن هذا التساؤل يمتد أيضًا إلى الأديان الأخرى.
نكتشف في النهاية أن الحوار حول «الضحك» كان السبب الرئيسي للجرائم، إذ وضع الراهب يورج سُمًا في الكتاب الثاني من «فن الشعر» لأرسطو الخاص بالكوميديا، فيتسمم كل من يقرأه لأن الكتاب ملتصق ببعضه ويحتاج القارئ أن يبلل إصبعه بريقه حتى يفك الالتصاق، هكذا كلما كان القارئ شغوفًا بالعمل كلما تورط أكثر.
ظل كتاب أرسطو «فن الشعر» مسيطرًا على الفكر النقدي المسرحي الغربي حتى بداية القرن العشرين تقريبًا، ورغم أن الكتاب لا يتحدث عن ميتافيزيقا أرسطو التي تسببت في جدالات لاهوتية مسيحية وإسلامية في العصر الوسيط، إلا أنه يظل مع ذلك موضع إشكال، إذ يتوجس المؤمنون المتعصبون من أرسطو لأنه ممثل الحكمة/الفلسفة، التي تنازع الدين.
اختار إيكو عصرًا غامضًا، ممتلئًا بالتعصب وسوء الفهم والمعارف الناقصة، وهذا ما كان متحققًا في الواقع والتاريخ، إذ أن كتاب «فن الشعر» نفسه وصل إلى أوروبا في العصر الوسيط عن طريق الترجمة العربية، وبسبب بعض أخطاء هذه الترجمة، استقبلت أوروبا الكتاب بشكل غير دقيق من الأصل.
كانت الترجمة العربية ساعتها لمصطلح التراجيديا هي «المديح»، والكوميديا هي «الهجاء»، معتمدين على فكرتهم عن الشعر العربي لا أفكار المسرح الأرسطي. هكذا شَرَح ابن رشد الكتاب وفقًا للمصطلحات المغلوطة وهكذا وصل إلى أوروبا في القرن الثالث عشر. احتاج الأمر مرور قرنين آخرين ليرتد كتاب أرسطو إلى أفكاره الأساسية، حين يترجم إلى اللغات الأوروبية عن اليونانية مباشرة.
وكذلك من أمثلة المعارف الناقصة أن كتاب «الكوميديا» الذي ذكر أرسطو أنه بصدد كتابته، والذي تقوم عليه الرواية، كان مفقودًا حتى لدى العرب، وبلا شك أتاح هذا فرصة لإطلاق خيال أومبرتو إيكو لكتابة الرواية.
في رواية إيكو توجد حمولة سيميائية وفلسفية وسياسية كبيرة، حمولة ممتدة منذ العصر الوسيط وحتى عصرنا الحالي، إذ تتردد في الرواية صدى خلافات دينية وجدالات فلسفية معاصرة. كيف يمكن أن يحمل كتابًا هذا الثقل ويظل رواية ممتعة؟ الحل الذي اتجه إليه إيكو هو شرلوك هولمز، استعان بعناصر الروايات البوليسية الرائدة الحديثة، وطبقها على العصر الوسيط، رغم أن ذلك العصر يخلو من الهياكل القانونية التي تلهم الرواية البوليسية التي تدور في أزمنة حديثة ومعاصرة، وذلك حتى يتاح للقارئ أن يمر بتجربة قراءة شاملة وملهمة.
اقرأ المزيد: أومبرتو إيكو: أنا كاتب ولست قارئا