العالم رواية بوليسية

سلسلة يكتبها أمير زكي

نُشرت بموقع مدى

نشر المقال الثاني في 15 يوليو 2019

لقراءة المقال الأول

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


بيكيت عن newstalk

مثل معظم قراء صمويل بيكيت (1906- 1989)، عرفته عن طريق مسرحه، لا رواياته، بدايةً من مسرحيته الأبرز «في انتظار جودو» (1953)، تلك المسرحية التي لا يحدث فيها شيء مرتين على حد تعبير الناقد الأيرلندي فيفيان ميرسير. فكرة انتظار الشيء أو الشخص الذي لا يأتي كانت جذابة جدًا لي وأنا مراهق. وأظن أن الفكرة مصدر جاذبية للعديد من القراء، إذ أنها تتقاطع مع حياتنا اليومية، وهي كذلك فكرة لها أبعادها الدينية، خاصة في الأديان الإبراهيمية، وذلك الانتظار للمُخَلِّص ومجيئه المُرجأ باستمرار.

بداية معرفة بيكيت عن طريق مسرحه لم تكن قَدَري وحدي، بل قَدَر الثقافة العربية كلها، ومن المنطقي أن يتأثر قدري بقدر الثقافة العربية؛ طوال عُقود تعامل العرب مع بيكيت على أنه «الكاتب المسرحي العبثي»، وفي الستينيات تحديدًا كان هناك احتفاء بمسرح العبث، الذي قد نتفق الآن أو نختلف على إضافة اسم بيكيت إلى كُتَّابِه، وربما يعود هذا الاحتفاء جزئيًا إلى أنه كان مهربًا من القمع السياسي والرقابة الأدبية.

ولكن حَصْر بيكيت في دور الكاتب المسرحي ظَلَم سرده كثيرًا، إذ لم ينتبه القراء العرب لرواياته التي كتبها قبل «جودو»، وفي ظني أن هذا ظَلَم تَلَقِّي «جودو» نفسها، فبالإضافة لكونها مسرحية صعبة الفهم، وعصية على التفسير، فليس من السهل الإحاطة بالكثير من أبعادها بدون العودة إلى ثلاثية بيكيت الروائية (مولوي، مالون يموت، اللا مسمى)، التي تتناثر فيها عبارات مسرحيته الأشهر وأحداثها.

مع بعض التعسف، يمكن أن نصف مسرح بيكيت بأنه صارم الشكل، سيمتري، كل جملة في موضعها، تنتشر فيه مساحات الصمت، يعتمد على الصورة والأداء الحركي قدر اعتماده على الحوار، ولكن في المقابل، فنثر بيكيت فضفاض، يسرده صوت يصف كل شيء ويحلل كل شيء ويفككه، وذلك بشكل لا إرادي، صوت غير قادر على التوقف، يشبه كثيرًا المونولوجات الداخلية التي لا تتوقف والتي تسيطر علينا جميعًا، والتي يصعب على معظمنا السيطرة عليها. ربما لهذا السبب ذكر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984)، في مقاله الشهير «ما المؤلف؟»، صمويل بيكيت وهو يتساءل في موضع آخر، «نصوص من أجل لا شيء»، عن جدوى معرفة مَن يتحدث، إنها جميعها أصوات تسيطر علينا أكثر منها ذاتيتنا بالفعل.

«أنا في غرفة أمي. أنا من يعيش فيها الآن. لا أعرف كيف جئت إلى هنا».

هكذا تبدأ رواية «مولوي» (1951)، واحدة من أجمل روايات القرن العشرين وأصعبها. من موضع مبكر يشير مولوي إلى أنه لا يعرف كيف جاء إلى هنا، إنه شخص مُلقى به في العالم كما يقول الوجوديون، ولكن الغموض الذي يحيط بوضع مولوي هنا لا يتكشف مع تقدم السرد، وإنما يزداد تأزمًا.

«هناك شخص يأتي كل أسبوع. ربما أنا موجود هنا بفضله. يعطيني الأموال ويأخذ الصفحات. صفحات كثيرة تساوي أموالًا كثيرة. نعم أنا أعمل الآن، مثلما اعتدت قليلًا أن أعمل. باستثناء أنني لم أعد أعرف كيف أعمل».

لا نعرف كيف وصل لغرفة أمه، ولا نعرف ما عمله، يتساءل إذا كان لديه ابن، ثم يستبعد هذه الفكرة. يتحدث عن شخصيتين «أ» و«ج»، لا نعرف إذا كانا شخصيتين حقيقيتين أم يحاول تأليف قصة ما. يخرج من الغرفة ساعيًا، والمدهش أننا نعرف بشكل متناثر أنه يسعى بحثًا عن أمه، التي كان في غرفتها. يتطابق أكثر فأكثر مع صورة المتشرد، أشبه بصعلوك تشارلي تشابلن، وهو أحد مصادر الصورة المسرحية في «جودو». يصطدم بالشرطة، التي تحاول التحقق من هويته، يبدو هذا طريفًا لشخص هويته مضببة منذ بداية الرواية، هكذا لا تستطيع الشرطة فهمه، يقول الراوي: «ليس هناك قانونان، كان هذا الشيء التالي الذي ظننت أنني استوعبته، لا يوجد قانونان، قانون لسليم البدن وآخر للمعتل، ولكن يوجد قانون واحد فقط لا بد أن يخضع له الجميع، الغني والفقير والشاب والمسن، والسعيد والتعيس». رغم تعدد الهويات للشخص الواحد، ورغم أنه ربما ليس شخصية بقدر ما هو صوت، فالقانون واحد ولا يتجزأ في تعامله مع الناس.

كيف يمكن فض كل هذه الاشتباكات؟ الاشتباكات التي تمتد لشكل العمل نفسه، فالفصل الأول من الرواية الذي يبلغ 90 صفحة عبارة عن فقرتين فقط. يفاجئنا بيكيت وسط كل هذا التجريب باستخدام عنصر بوليسي، يستعين بشخصية المحقق «جاك موران»، بطل الفصل الثاني من الرواية.

في مقدمته لترجمة حديثة للرواية يقول المترجم محمد فطومي، إن موران أراحه من مولوي، يبدو هذا منطقيًا، إذ يبدو فصل موران أوضح من مولوي وتنقسم فيه الفقرات بشكل أقرب للاعتيادي.

موران محقق محنك، أو يعتبر نفسه كذلك، وهو كاثوليكي متدين ومخلص، شخصية متماسكة ورب أسرة ويمكن أن تستشف أبعادها الاجتماعية، يزوره جابر بأمر من يودي، ويطلب منه السعي وراء مولوي وكتابة تقرير عنه. لا نعرف بالضبط سبب ذلك، موران نفسه –رغم ثقته- لا يعرف ما الذي يفعله إن عثر على مولوي.

تنفتح هنا تأويلات دينية، قد يكون يودي رمزًا للإله، وقد يكون جابر رمزًا لجابرييل (غبريال) ملاك البشارة في العهد الجديد من الكتاب المقدس. يتحدث موران طوال فقرة عن الفارق بين العميل/المحقق، المهنة التي يعمل بها، والرسول، وهي المهنة التي التحق بها جابر. يطلب منه جابر أن يصطحب معه ابنه، وتتوالى الفقرات عن العلاقة المتوترة بين موران وهذا الابن.

يعد بيكيت كل الأفخاخ التي توهم القارئ بأن هذا الفصل سيشرح الفصل السابق، ها هو المحقق الذي سيكشف كل شيء عن مولوي، ويفك شفرة الرواية. ولكن مع تقدم السرد نجد رحلة البحث تتحول إلى رحلة انمساخ، تحول لموران، الشخص البرجوازي الذي يعتد بمهنته ينحط تدريجيًا، يهجره ابنه وتتدهور قدراته وصحته، يصير أشبه بمولوي المبحوث عنه. ربما كان الابن الذي يتخيله مولوي هو الابن الذي هجر موران في الفصل الثاني، ربما الأوراق التي يكتبها مولوي ويتلقى عليها الأموال هي التقارير التي يكتبها موران المحقق.

مستعينًا بمهاراته السابقة في التحقيق، وإيمانه الكاثوليكي، المهتز الآن، يطرح أسئلة لاهوتية، «هل كانت الحية تزحف أم تسير منتصبة كما أكد كومستور؟»، «هل حملت مريم من أذنها، كما أكد أوغسطين وأدوبارد؟»، «كم من الوقت علينا أن ننتظر مجيء المسيخ الدجال؟»، «ما الذي كان الله يفعله مع نفسه قبل الخلق؟» يسخر بيكيت من قارئه الذي ينتظر كشفًا أو إجابات، أو يسخر معه من وضع الفكر الإنساني ومساره.

مصير موران ونهاية الرواية يلوِّحان بالعديد من التأويلات؛ هل موران تحول إلى مولوي؟ أليس من الأفضل أن نقرأ الرواية من الفصل الثاني ثم نعود للفصل الأول؟ هل بيكيت نفسه متورط كذات في السرد؟ موران يتحدث أنه سعى من قبل وراء شخصيات ميرفي ووات ومرسير، وهي أسماء لشخصيات في روايات بيكيت السابقة.

عناصر وثيمات عديدة يستخدمها بيكيت في روايته، السعي على طريقة دون كيخوته، والرحلة إلى الوطن على طريقة أوديسيوس، عدم استيعاب موقف الذات من العالم على طريقة الوجوديين، ثم التساؤل إذا كانت هناك ذات أصلًا، وإلى جانب كل ذلك يستخدم بيكيت عنصر المحقق، العنصر العزيز في نوع الروايات البوليسية، ولكنه يستخدمه لصالحه، يجلبه إلى عالمه، ويدمره. المحقق هنا لا يكشف وإنما يتورط، غير قادر على الحفاظ على هدوئه ورباطة جأشه لتنفيذ المهمة، وإنما ينمسخ شيئًا فشيئًا إلى المتشرد الذي يسعى وراءه.


الاقتباسات من ترجمة أمير زكي.

** صدرت للرواية ترجمتان عربيتان عام 2018، ترجمة عبده الريس، الصادرة عن سلسلة الجوائز بالهيئة العامة للكتاب، وترجمة محمد فطومي، عن دار المدى.


اقرأ المزيد: رونان مكدونالد: ثلاثية بيكيت