توني تاكيتاني

قصة لهاروكي موراكامي

نُشرَت في نيويورك ماجازين

15 أبريل 2002

ترجمها عن الإنجليزية: محمد نجيب

عن ترجمة جاي روبن للإنجليزية

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

هاروكي موراكامي
هاروكي موراكامي، عن Medium

اسم توني تاكيتاني الحقيقي كان هكذا فعلًا: توني تاكيتاني.

بسبب اسمه وشعره المجعد وملامحه المنحوتة بعمق، كان الناس يظنون عادةً أنه طفل هجينُ الدم. كان ذلك بعد الحرب مباشرةً، حين كان الكثيرُ من الأطفال المولودين لآباء ينتمون إلى الجيش الأمريكي. لكن والدي توني تاكيناتي كانا يابانيين حقًا. كان والده «شوزابورو» عازفَ چاز على آلة الترومبون ذائعَ الصيت، لكن حينما اندلعت الحرب العالمية الثانية، أُجبِرَ على مغادرة اليابان بسبب مشكلةٍ ما مع امرأة. فكر أنه إذا كان لا مفرَ من مغادرة بلدته، فالأحرى به مغادرة اليابان بأكملها، لذا عَبَرَ الحدود إلى الصين دون أن يحمل معه شيئًا سوى آلة الترومبون.

في تلك الأيام كان يمكن بلوغ شنجهاي من ناجازاكي من خلال رحلة على متن قارب تستغرق يومًا واحدًا فقط. لم يكن شوزابورو يمتلك أي شيء في طوكيو -أو في أي مكان آخر في اليابان- يخشى أن يفقده. غادر دون أي ندم. على العكس، توقع أن تناسبه شنجهاي بعوامل الجذب التي تتمتع بها، أكثر من طوكيو.

كان يقف على ظهر قارب يشق طريقه عبر نهر يانجتسي عندما رأى لأول مرة ضواحي شنجهاي تلمع في ضوء النهار. طمأنه هذا المنظر. بدا كأن الضوء يَعِده بمستقبل مشرق. كان في الحادية والعشرين من عمره.

هكذا قضى السنوات بعيدًا عن ويلات الحرب – بداية من الغزو الياباني للصين إلى الهجوم على ميناء بيرل هاربر حتى إسقاط القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجازاكي. كان يعزف على الترومبون في ملاهي شنجهاي الليلية بينما يشتد الصراع في مكان آخر من العالم. كان شوزابورو تاكيتاني إنسانًا لا يولي أدنى اهتمام بالتاريخ. لم يرغب في أي شيء أكثر من أن يستطيع العزف على الترومبون، وأن يأكل ثلاث وجبات في اليوم، وأن يحظى ببعض النساء.

كان شديد الخجل لدرجة قد يبدو معها متغطرسًا. كان متوحدًا مع ذاته جدًا لكنه كان يعامل من حوله بطيبة شديدة لهذا أحبه معظم الناس. كان موسيقيًا شابًا وسيمًا وموهوبًا. مكَّنه كل هذا من خطف الأنظار أينما ذهب مثل غراب أسود في نهار ثلجي. ضاجع عددًا من النساء لا يمكنه حصره. يابانيات، صينيات، وروسيات بيض، عاهرات، ومتزوجات. شابات جميلات وأخريات لم يكنَّ جميلات جدًا. كان ينام مع أي امرأة تتاح له الفرصة للنوم معها. بعد فترة وجيزة، أكسبه عزفه العذب على الترومبون وعضوه الضخم الذي لا يعرف التعب شعبية في شنجهاي.

كان شوزابورو يمتلك –رغم عدم وعيه بذلك- موهبة خلق صداقات «مفيدة». كانت تربطه علاقات جيدة بضباط جيش رفيعي المرتبة ومليونيرات وأصحاب نفوذ قوية جنوا ثروات ضخمة أثناء الحرب من خلال إدارة أنفاق سرية. يحمل الكثير منهم مسدسات تحت ستراتهم، ولا يغادرون أي مبنى من دون تفقُّد الشارع يمينًا ويسارًا. لسبب ما، نَمَت العلاقة بين شوزابورو وبينهم بتلقائية. كانوا يَهبُّون لمساعدته كلما واجهته مشكلة.

لكن أحيانًا يمكن للموهبة أن تكون نقمة. عندما انتهت الحرب، أثارت علاقات شوزابورو حفيظة الجيش الصيني فرموه في السجن لفترة طويلة. كان شوزابورو يشاهد الآخرين الذين اعتُقِلوا لأسباب مشابهة يُأخَذون من زنازينهم بالقوة حيث يُعدَمون دون محاكمة. كان الحرس يظهرون فجأة ويَجرُّون المعتقلين إلى ساحة السجن حيث يفجرون أدمغتهم برصاص مسدساتهم الآلية. آمن شوزابورو أنه سيموت داخل السجن لكن فكرة الموت لم تُرعبه كثيرًا. ستخترق رصاصة مخه، وينتهي كل شيء. لن يشعر بالألم سوى لجزء من الثانية فقط. قال لنفسه: «لقد عشت بالطريقة التي رغبت فيها كل هذه السنوات. ضاجعت عشرات النساء. أكلت الكثير من الطعام اللذيذ. قضيت أوقاتًا سعيدة كثيرة. لا يوجد العديد من الأشياء في الحياة لأتحسَّر على عدم فعلها. بالإضافة إلى أن لا فائدة من التذمُّر من الطريقة التي سأُقتَل بها. تجري الأمور هكذا في زمن الحرب. مئات الآلاف من اليابانيين قد ماتوا في هذه الحرب، والكثير منهم ماتوا بطرق أشنع بكثير».

بينما ينتظر مصيره، راح شوزابورو يراقب السُحُب ترتحل في السماء عبر قضبان نافذة زنزانته الضيقة، ويرسم صورًا ذهنية على جدران الزنزانة القذرة لوجوه وأجساد النساء اللاتي نام معهن.

لكن في النهاية كان أحد سجينيْن يابانييْن يغادران السجن على قيد الحياة، حيث رُحِّلا إلى اليابان مباشرة. بحلول ذلك الوقت كان السجين الآخر - ضابط عالي الرتبة، قد فقد عقله. بينما يقف شوزابورو على ظهر القارب الذي حمله إلى وطنه، يشاهد ضواحي شنجهاي تنكمش مبتعدة، فكر: «الحياة؛ لن أفهمها أبدًا».

وهكذا عاد شوزابورو إلى اليابان في ربيع عام 1946 بعد تسعة شهور من انتهاء الحرب، هزيلًا مُعدمًا لا يمتلك أي شيء. اكتشف أن بيت والديه قد احترق في الغارة الجوية الأمريكية الموسعة على طوكيو في مارس 1945. مات والداه مع البيت. اختفى أخوه الوحيد من دون أي أثر في جبهة بورما. بكلمات أخرى، بات شوزابورو وحيدًا في هذا العالم. لم تصدمه تلك الحقيقة على الإطلاق، أو تجعله حزينًا بشكل خاص. بالطبع، انتابه إحساسٌ بالفقد، لكنه كان مقتنعًا تمامًا أنَّ جميع البشر سيصبحون وحيدين عاجلًا أم آجلًا. كان في الثلاثينيات وقد تجاوز السن الذي يُسمَح فيه بالتذمُّر من الوحدة. شعر كأنه قد كبر عدة سنوات بين ليلة وضحاها. كان هذا كل شيء. لم يشعر بأي مشاعر أخرى تتنامى بداخله. تمكن شوزابورو من النجاة بطريقة أو بأخرى، وكان عليه الآن التفكير في كيفية المضي قدمًا في حياته.

لأنه لا يجيد سوى عمل واحد: العزف على الترومبون، بحث عن رفاقه القدامى وأسس فرقة چاز صغيرة. عزفت الفرقة في القواعد العسكرية الأمريكية. موهبته الفطرية في خلق العلاقات مكنته من مصادقة رائد في الجيش الأمريكي مُغرم بالچاز. كان أمريكيًا من ولاية نيوچيرسي وذا أصول إيطالية. كان بدوره يعزف على آلة الكلارينت. كان الاثنان يلتقيان في وقت فراغهما للاستماع إلى موسيقى الچاز. نظرًا إلى مسؤوليته المباشرة عن التوريدات، كان بوسع الرائد الحصول على كل الأسطوانات التي يريدها من أمريكا مباشرة. كان شوزابورو يذهب إلى مسكن الرائد ويستمع إلى أغاني الچاز السعيد Happy Jazz لبوبي هاكيت وچاك تيجاردن وبيني جودمان. كان الرائد يقدم له كل أصناف الطعام والمشروبات التي يصعب الحصول عليها في تلك الأيام. فكر شوازبورو: «ليس وقتًا سيئًا للحياة».

في عام 1947، تزوَّج شوازبورو إحدى معارفه من جهة أمه. التقيا بالصدفة وجلسا على مقهى لاحتساء الشاي. تشاركا الأخبار العائلية وتحدثا عن الأيام الخالية. لم يمض وقت طويل قبل أن ينتقل الاثنان للعيش معًا - ربما السبب في هذا أنها أصبحت حاملًا. على الأقل هذا هو السبب الذي سمعه توني تاكيتاني من والده. كانت أمه شابة جميلة وهادئة لكنها لم تكن موفورة الصحة. أنجبت توني بعد عام من زواجهما، ثم ماتت بعد ثلاثة أيام.. بهذه البساطة. دُفِنَت في سرعة وهدوء. لم تعانِ من أي مضاعفات كبيرة أو آلام تُذكر. غادرت إلى العالم الآخر بسرعة، كما لو أن شخصًا قد تسلل إلى كواليس المسرح وأسدل الستار على مسرحية حياتها فجأة وإلى الأبد.

لم يعرف شوزابورو تاكيتاني كيف ينبغي له أن يشعر إزاء رحيل زوجته المفاجئ. كان غير معتاد على مثل تلك المشاعر. بدا أنه عاجزٌ على إدراك معنى الموت أو الوصول إلى أي استنتاج بشأن مغزى ذلك الموت بالتحديد بالنسبة إليه. كل ما أمكنه فعله هو تقبُل الأمر الواقع. شعر كأنّ شيئًا ماديًا أسطواني الشكل قد انغرز داخل صدره. ما طبيعة هذا الشيء؟ ولماذا كان هناك؟ لم يمكنه معرفة ذلك. ببساطة ظل هذا الشيء في مكانه بداخله، وأعاق تفكيره فيما حدث. لم يفكر في أي شيء على الإطلاق لأسبوع كامل بعد وفاة والدته. نسي حتى أمر الطفل الذي تركه في حضانة المستشفى.

أحاط الرائد الأمريكي شوزابورو برعايته وفعل كل شيء بمقدوره كي يواسيه. كانا يشربان معًا في القاعدة العسكرية كل يوم تقريبًا. كان الرائد يقول لشوازبورو: «عليك أن تلملم شتات نفسك». قبل أن يتابع: «لا يجب أن تفكر في أي شيء سوى تربية ذلك الصبي كما ينبغي». لم تعنِ هذه الكلمات أي شيء لشوزابورو الذي كان يكتفي بإيماءة صامتة. قال الرائد فجأة في أحد الأيام، «تعرف، لماذا لا تُنصِّبني أبًا روحيًّا للصبي؟ يمكنني أن أمنحه اسمًا». صُدم شوزابورو من هذا الاقتراح؛ لقد نسي تسمية الصبي.

اقترح الرائد اسمه الأول «توني» اسمًا للصبي. لم يكن توني اسمًا يابانيًا بطبيعة الحال. بدا أن الرائد لم يفكر مليًا في هذه النقطة.

عندما عاد شوزابورو إلى البيت، كتب اسم توني على ورقة، وعلَّقها على الحائط. حدق فيها من وقت لآخر خلال الأيام التالية. كان يقول لنفسه مفكرًا: «توني تاكيتاني، ليس سيئًا.. ليس سيئًا. الاحتلال الأمريكي لليابان سيدوم لفترة ليست بالقصيرة. اسم يبدو أمريكيًا قد يكون عونًا للصبي في وقت ما من حياته».

لكن بالنسبة إلى الصبي نفسه، لم تكن الحياة بصحبة هذا الاسم ممتعة. نعته أقرانه في المدرسة بـ«الهجين»، وحين يخبر الناس باسمه، كانت تعلو وجوههم نظرة تعجب أو ازدراء. أعتقد البعض أنه يمزح، بينما ثار غضب البعض الآخر. بالنسبة إلى بعض اليابانيين، مقابلة طفل ياباني اسمه توني تاكيتاني كانت كل ما يلزم لإعادة فتح جرح قديم لم يلتئم بعد.

دفعت مثل هذه المواقف الصبي إلى الانعزال بنفسه عن العالم. لم يكن لديه أصدقاء مقربون، لكن لم يؤلمه ذلك. كان يجد الأمر طبيعيًا أن يكون بمفرده، كما لو أن الوحدة هي قانون الحياة الأساسي.

كان والد توني يسافر دائمًا مع الفرقة. عندما كان توني طفلًا ، كانت تأتي مربية للاعتناء به. لكن في سنواته الأخيرة في المدرسة الابتدائية، أصبح بإمكانه الاعتناء بنفسه. كان يطبخ بنفسه، ويغلق البيت ليلًا وينام بمفرده. كان يفضل ذلك على وجود شخص يراقبه طوال الوقت.

لم يتزوج شوزابورو مرة أخرى. كان لديه عشيقة من وقت لآخر لكن لم يجلب أي منهن معه إلى البيت قط. مثل ابنه، كان يحب تدبر شؤونه بنفسه. لم يكن الأب والابن مختلفين كما قد يتخيَّل المرء. لكن نظرًا إلى شخصيتهما الميَّالة إلى العزلة، لم يبادر أي منهما إلى فتح قلبه إلى الآخر، ولم يشعر أي منهما بالحاجة لذلك. ببساطة، لم يكن شوزابورو تاكيتاني مؤهلًا لأن يكون أبًا، ولم يكن توني تاكيتاني مؤهلًا لأن يكون ابنًا.

أحب توني تاكيتاني الرسم، وقضى عدة ساعات كل يوم في حجرته المغلقة لا يفعل أي شيء سوى الرسم. أحب رسم الآلات بالتحديد. كان يُبقي سن قلمه الرصاص حادًا، بينما يرسم صورًا واضحة ودقيقة ومفصَّلة للدراجات وأجهزة الراديو والمحركات وغيرها. إذا رسم نباتًا، كان لا ينسى رسم كل عِرق في كل ورقة. كانت تلك هي الطريقة الوحيدة التي يعرفها للرسم. كانت درجاته في مادة الرسم على عكس بقية المواد ممتازة دائمًا، وكان يفوز بالمركز الأول عادةً في مسابقات الرسم المدرسية.

لذا كان من الطبيعي أن يلتحق توني تاكيتاني بكلية الفنون بعد الثانوية، وأن يصبح مُصممَ رسوم بعد التخرج. لم يكن في حاجة للتفكير في أي احتمالات أخرى. بينما احتار أقرانه في انتقاء الطريق الذي عليهم أن يسلكوه في الحياة، كان توني قد مضى في عالم الرسوم الميكانيكية (تصميمات الآلات والمنشآت) دون التفكير في أي شيء آخر. ولأنه كان في حقبة يثور فيها معظم الشباب على سياسات الحكومة، لم يرَ أقرانه أي قيمة في رسومه التقليدية الجافة. كان أساتذة كلية الفنون يُقيِّمون عمله بابتسامة مصطنعة، بينما ينتقده زملاؤه لافتقار أعماله لأي محتوى إيديولوجي أو رسالة رمزية. في المقابل لم يستطع توني أن يرى ما هو الشيء الرائع الذي يكمن في رسومهم بمحتواها الأيديولوجي الذي لا يهتم به. بالنسبة إليه، بدت غير ناضجة وقبيحة وتنقصها الدقة.

لكن بمجرد تخرُّجه، تغيَّر كل شيء. بسبب الطبيعة العملية الشديدة لأسلوبه الواقعي، لم يجد توني تاكيتاني صعوبة في الحصول على وظيفة. لم يكن هنالك أي أحد يضاهي الدقة المتناهية التي يرسم بها تصماميم الآلات والمباني المعقدة. كان الجميع يقول: «تبدو حقيقية جدًا». كانت رسومه أكثر تفصيلًا من الصور الفوتوغرافية. كانت شديدة الوضوح لدرجة تنعدم معها الحاجة إلى الشرح. بين يوم وليلة، صار توني مصمم الرسوم الذي يلهث الجميع وراءه للحصول على خدماته. كان يقبل كل العروض التي تقدم له – بداية من أغلفة مجلات السيارات إلى تصميم الإعلانات الدعائية. أحب العمل، وجني منه مالًا جيدًا. دون أي هوايات تستنزف مدخراته، تمكن توني تاكيتاني من جمع ثروة صغيرة في سنِّ الخامسة والثلاثين. اشترى بيتًا كبيرًا في سيتاجايا، إحدى ضواحي طوكيو الراقية، إلى جانب عدد من الشقق كان يقوم بتأجيرها. ترك لمحاسبه الخاص مسألة الاهتمام بكل الأمور المادية.

عند هذه النقطة من حياته، كان توني قد واعد عدة نساء. حتى أنه أقام مع إحداهنَّ لفترة قصيرة. لكنه لم يفكر في الزواج قط. لم يؤمن قط بأهميته. كان يجيد أعمال الطهي والتنظيف والغسيل. وعندما تعارض عمله مع القيام بهذه المهام، قام بتعيين خادمة لإدارة شؤون المنزل. لم يشعر حتى بالرغبة في الإنجاب.

لم يكن يتمتع بجاذبية أبيه، ولم يكن لديه أصدقاء حقيقيون يطلب منهم النصيحة أو يبوح لهم بأسراره، ولا حتى صديق يمكنه أن يثمل معه. مع هذا كان لديه علاقة طبيعية جدًا مع الأشخاص الذين يقابلهم بشكل يومي. لم يكن متعجرفًا أو متبجحًا. لم يكن يختلق الأعذار لنفسه أو يتحدث عن الآخرين باحتقار. كان أغلب من يعرفه يحبه. لم يكن يقابل أباه سوى مرة كل سنتين أو ثلاثة من أجل أشياء تتعلق بالعمل. بمجرد الانتهاء من مناقشتها، لم يكن لدى أي منهما شيء آخر ليقوله. هكذا مضت حياة توني تاكيتاني بسلام.

ثم في أحد الأيام، ودون سابق إنذار، وقع توني تاكيتاني في الحب. كانت امرأة تعمل بدوام جزئي في دار نشر. أتت إلى مكتبه كي تستلم تصميمًا رسمه توني. كانت في الثانية والعشرين ربيعًا. رزينة الطبع وتمتلك ابتسامة رقيقة. كانت ملامحها بشوشة لكن لم تكن بالغة الجمال من الناحية الموضوعية. رغم هذا كان ثمة شيء فيها جعل قلب توني تاكيتاني ينبض بقوة. عندما رآها أول مرة، ضاق صدره وبالكاد استطاع التنفس. حتى هو لم يستطع أن يحدد ما الذي جذبه إليها بتلك القوة. الشيء الآخر الذي شدَّه إليها هو ثيابها. لم يكن يهتم بما يرتديه الآخرون بشكل عام لكن طريقة ارتداء تلك الشابة لثيابها ترك انطباعًا عميقًا بداخله. يمكن للمرء أن يقول إنها قد حركت شيئًا ما بداخله. كان هناك الكثير من النساء حوله ممن يلبسنَّ بأناقة، لكن هذه الفتاة مختلفة. مختلفة جدًا. كانت ترتدي ثيابها بتلقائية وفخامة كأنها طائر غلَّف جسمه برياح خاصة استعدادًا للطيران إلى عالم آخر. لم ير امرأة من قبل ترتدي ثيابها بمثل هذه البهجة العفوية.

بعد أن غادرت، جلس على مكتبه وقد ألجمه الذهول حتى حلَّ المساء وأظلمت الحجرة تمامًا. في اليوم التالي هاتف الناشر واختلق ذريعة كي يرسل الناشر تلك المرأة إلى مكتبه مرة أخرى.

بعد أن أنهيا العمل، دعاها لتناول الغداء. تبادلا حديثًا قصيرًا أثناء الطعام. رغم أنه يكبرها بخمسة عشرة سنة، اكتشفا أن بينهما أمورًا مشتركة كثيرة بشكل غريب. كانا يمتلكان الرأي نفسه في كل موضوع تقريبًا. لم يمر أي منهما بتجربة مشابهة من قبل. كانت متوترة قليلًا في البداية لكنها استرخت مع مرور الوقت حتى بدأت في الضحك والحديث بحرية.

قال توني لها عندما أوشكا على الفراق : «تعرفين حقًا كيف تلبسينَ».

أجابت بابتسامة خجولة: «أحب الثياب.. يضيع معظم راتبي على شراء الثياب».

خرجا في عدة مواعدات بعد ذلك. لم يذهبا إلى مكان معين. كانا يعثران على أي مكان هادئ حيث يجلسان ويتحدثان لساعات عن ماضيهما وعملهما والطريقة التي يفكران أو يشعران بها تجاه أمور شتى. بدا أنهما لا يملَّان من الحديث. كأنَّ كل منهما يملأ الفراغ بداخل الآخر.

في لقائهما الخامس، عرض توني عليها الزواج. اعترفت له أن لديها علاقة معقدة مع عشيق كانت تواعده منذ أيام المدرسة الثانوية. مع مرور الوقت لم تعد علاقتهما مثالية كما كانت. والآن باتا يتشاجران على أسخف الأشياء كلما التقيا. في الحقيقة لم تكن رؤيتها له تمنحها الشعور بالحرية والمرح كما تفعل رؤيتها لتوني تاكيتاني، مع هذا لم يكن من السهل عليها الانفصال عنه. بالإضافة إلى هذا كان هنالك ذلك الفارق العمري الكبير بينها وبين توني. كانت لا تزال صغيرة وتنقصها الخبرة في مثل تلك العلاقات. تساءلت ماذا قد يعني هذا الفارق العمري لهما في المستقبل. أخبرته أنها تحتاج وقتًا للتفكير.

كل يوم استغرقته في التفكير كان جحيمًا بالنسبة إلى تاكيتاني. عجز عن العمل. قضى الوقت في الشرب. فجأة بدت عزلته التي كان يفضلها طوال حياته، ثقلًا ساحقًا، ومصدرًا للألم؛ سجنًا. فكَّر قائلًا: «لم ألحظ ذلك من قبل قط». حدَّق بيأس في الجدران السميكة الباردة التي تحيط به وفكر: «إذا رفضت الزواج بي، فربما عليَّ أن أقتل نفسي».

ذهب لرؤيتها وأخبرها بما يشعر به بالضبط. كيف أنه كان وحيدًا حتى التقاها. أخبرها بكل ما فقده عبر السنين. كيف أنها من جعلته يدرك كل ذلك. كانت شابة ذكية. مع مضي الوقت، أحبت توني تاكيتاني. كانت تعتقد أنه إنسان مناسب لها من البداية، وكل لقاء بينهما جعلها تعجب به أكثر. هل تطلق على شعورها هذا «حبًا»؟ لم تكن تعرف. لكنها شعرت أن ثمة شيئًا رائعًا في شخصية توني وأنها ستكون سعيدة إذا تشاركا الحياة معًا. في النهاية تزوجا.

زواجه وضع نهاية لمرحلة الوحدة الطويلة في حياته. عندما يستيقظ في الصباح، كان أول شيء يفعله هو النظر إليها. عندما يجدها نائمة بجواره، يتنفس الصعداء. إذا لم يجدها، ينتابه توترٌ شديد يدفعه إلى البحث عنها في البيت كله. كان ثمة شيء غريب في ذلك الشعور الجديد بـ «أنه ليس وحيدًا». حقيقة أنه لم يعد وحيدًا، جعلته يخاف بشدة من احتمال أن يعود وحيدًا مرة أخرى. طارد توني هذا السؤال: ماذا يفعل كي يمنع حدوث ذلك؟ أحيانًا كان يتصبب عرقًا غزيرًا باردًا بسبب هذا الخوف. لكن مع اعتياده على الحياة الجديدة، تضاءل تفكيره في خسارة زوجته، ومعه تلاشت مخاوفه. في النهاية وجد الاستقرار، ولفَّ نفسه بسعادته الجديدة الوديعة.

في أحد الأيام، قالت له إنها تود سماع الموسيقى التي يعزفها حماها – شوزابورو تاكيتاني. طلبت هذا منه قائلة: «هل تمانع إذا ذهبنا للاستماع إليه؟»

أجابها بتردد: «لا».

ذهبا إلى ملهى ليلي في ضاحية جينزا حيث يعزف شوزابورو تاكيتاني. كانت أول مرة يذهب فيها توني تاكيتاني للاستماع إلى والده منذ أيام الطفولة. كان شوزابورو يعزف نوعية الموسيقى نفسها التي كان يعزفها في أيامه الخالية، نفس الأغاني التي كان يُسمِعها لتوني وهو صبي. كان أسلوب شوزابورو سلسًا وراقيًا وعذبًا. لم تكن موسيقى تقليدية بل موسيقى تعزفها يد عازف متمرسة وتمتلك القدرة على وضع الجمهور دائما في مزاج جيد. لكن سرعان ما بدأ توني تاكيتاني يشعر بالاختناق كما لو كان أنبوبًا ضيقًا يسري فيه الماء بهدوء لكن شيئًا فشيئًا يتراكم فيه الوحل ليسده في النهاية. شعر أن من الصعب عليه البقاء جالسًا في مكانه. لم يستطع سوى الشعور أن الموسيقى التي يسمعها مختلفة قليلًا عن تلك التي كان يعزفها والده من قبل. بالطبع كانت آخر مرة استمع فيها إلى والده يعزف منذ سنوات طويلة وكان وقتها لا يزال طفلًا، مع هذا كان الاختلاف الذي أحسه مهمًا جدًا. كان طفيفًا جدًا لكن جوهريًا. كان يرغب في الصعود على المسرح وأن ينتحي بأبيه جانبًا ويسأله بحرقة: «ما هذا الذي تعزفه، يا أبي؟ ما الذي تغيَّر؟» لكن لم يفعل ذلك. لن يتمكن أبدًا من شرح ما برأسه بدقة. بدلًا من ذلك، ظل جالسًا في مكانه حتى انتهت فقرة والده، وهو يشرب أكثر بكثير من المعتاد. عندما انتهى عزف والده، صفق هو وزوجته ثم عادا إلى البيت.

لم يعكر أي شيء حياة الزوجين. لم يتشاجرا قط. كانا يقضيان الكثير من الساعات السعيدة معًا، يتمشيان أو يذهبان إلى السينما أو يسافران. واصل توني تاكيتاني النجاح في عمله وبالنسبة إلى امرأة شابة، أثبتت زوجته قدرتها على إدارة شؤون البيت. لم يعكر صفو علاقتهما سوى شيء واحد: هوسها الشديد بشراء ثياب جديدة. كلما وقعت عيناها على ثوب، بدا أنها عاجزة عن مقاومة شرائه. تعلو وجهها نظرة غريبة، وتتغيَّر نبرة صوتها. أول مرة لاحظ توني تاكيتاني ذلك، أعتقد أنها قد مرضت فجأة. لاحظ ذلك التغيُّر قبل زواجهما لكن في شهر العسل أدرك أن ذلك الهوس جديٌّ. كانت تشتري عددًا مهولًا من الثياب خلال رحلاتهما إلى أوروبا. في ميلان وباريس كانت تخرج من متجر ثياب إلى آخر، ليل نهار، كما لو كانت ممسوسة. لم تهتم على الإطلاق بمشاهدة معالم تلك المدن الشهيرة. بدلًا من زيارة كاتدرائية ميلانو أو متحف اللوڤر، ذهبا إلى متاجر ڤالانتينو وسانت لورين وچيفينشي وسالفاتوري فيراجامو وأرميني وشيروتي وميسوني وچيانفرانكو فيري. التقطت كل شيء في متناول يدها كالمسحورة بينما سار توني تاكيتاني خلفها يدفع الفواتير. لم يختفْ هوسها هذا بعد عودتهما إلى اليابان. واصلت شراء ثياب جديدة كل يوم تقريبًا. ارتفع عدد ثيابها بشكل خيالي.

لاستيعابها، طلب توني تاكيتاني من النجار تصميم عدة دواليب كبيرة بالإضافة إلى خزانة خاصة من أجل الأحذية. رغم هذا لم تستوعب الدواليب كل شيء. في النهاية اضطر لإعادة تصميم حجرة بأكملها وتحويلها إلى خزانة ثياب كبيرة. توجد حجرات إضافية غير مستخدمة في البيت ولم يكن المال مشكلة قط. كما أنها كانت بارعة في ارتداء ما تشتريه، وتبدو سعيدة جدًا كلما ارتدت ثيابًا جديدة. لهذا كله، قرر توني ألا يتذمر. قال لنفسه: «لا أحد مثالي ولكل منا هوسٌ ما».

عندما باتت ثيابها كثيرة جدًا كي تستوعبها الحجرة الخاصة، بدأت الهواجس تستولي على توني تاكيتاني من جديد. في إحدى المرات استغل فرصة خروجها وقام بعدِّ فساتينها. اكتشف أن بإمكانها ارتداء طقمين مختلفين من الثياب كل يوم دون أن تلبس نفس الطقم لمدة عامين تقريبًا. أصبحت مشغولة بشراء الثياب لدرجة أنها لم تعد تمتلك الوقت لارتدائها. تساءل عما إذا كانت تعاني من مشكلة نفسية ما. قال لنفسه: «لو أن الأمر كذلك فعليَّ أن أضع حدًا لعادتها الغريبة تلك عاجلًا أم آجلًا».

في إحدى الليالي أخذ المبادرة بعد العشاء. قال: «أتمنى لو أعدت النظر قليلًا في الطريقة التي تشترين بها الثياب، المسألة لا تتعلق بالمال، لا أتحدث عن ذلك. لا أعترض على شرائك ما تحتاجينه ويسعدني رؤيتك جميلة دائمًا لكن هل تحتاجين حقًا إلى كل هذه الثياب الباهظة؟»

نكست زوجته رأسها وفكرت في الأمر لبرهة ثم نظرت إليه وقالت: «معك حق بكل تأكيد. لا أحتاج كل هذه الفساتين. أعرف. لكن رغم معرفتي بذلك، لا يمكنني المقاومة. عندما أرى فستانًا جديدًا، يجب عليَّ شرائه. لا يهم إذا كنت أحتاجه أم لا. لا يمكنني إيقاف نفسي». وعدته بأن تحاول كبح جماح هذه الرغبة. «أعلم أنني لو واصلت ذلك، فلن يمضي وقتٌ طويلٌ قبل أن يمتلئ البيت بالثياب».

وهكذا أرغمت نفسها على ملازمة البيت أسبوعًا كاملًا واستطاعت البقاء بعيدًا عن متاجر الملابس. عانت كثيرًا لتفعل ذلك. شعرت كأنها تسير على سطح كوكب محدود الهواء. قضت كل يوم في حجرتها المكدسة بالثياب. كانت تلتقط ثوبًا تلو الآخر تتأمله وتتحسس نسيجه وتستنشق رائحته ثم ترتديه وتنظر إلى نفسها في المرآة. لكن كلما نظرت أكثر، كلما أرادت شيئًا جديدًا. باتت الرغبة في ثيابٍ جديدة لا تُحتمل. لم تستطع مقاومة الأمر. لكنها تحب زوجها بشدة وتحترمه وتعلم أنه محق. اتصلت بمتجر الثياب المفضل لديها وسألت مالكة المتجر إذا كان بإمكانها إرجاع معطف وفستان اشترتها منذ عشرة أيام ولم تلبسها قط. «بالتأكيد، سيدتي». كانت أحد أهم زبائن المتجر لذا كانت صاحبة المتجر مستعدة لفعل ذلك من أجلها. وضعت المعطف والفستان في حقيبة زرقاء وقادت سيارتها إلى حي أومايا الفاخر حيث أعادت الثياب واستردت ثمنها. هرولت عائدة إلى سيارتها متحاشيةً النظر إلى أي ثياب أخرى ثم قادت مباشرة إلى البيت، انتابها شعور غريب بالخفة لنجاحها في إعادة الثياب. أجل -قالت لنفسها- صحيح، لا أحتاج إلى تلك الملابس، لدي ما يكفيني من المعاطف والفساتين لبقية حياتي. لكنها بينما تنتظر في إشارة مرور، استولى المعطف والفستان على كل تفكيرها، الألوان، التصميم، الملمس. تذكرت كل شيء بتفصيل حيوي. يمكنها تخيُّلهما كأنهما أمامها، تشكّل على جبهتها شريطٌ من العرق. أخذت نفسًا طويلًا وعميقًا قبل أن تغمض عينيها بينما ساعداها يضغطان على المقود. في اللحظة التي فتحت عينيها فيها، رأت ضوء إشارة المرور يتحول إلى الأخضر، فداست غريزيًا على دواسة البنزين.

في نفس تلك اللحظة كانت شاحنة ضخمة تحاول اجتياز التقاطع بينما لا تزال الإشارة صفراء، حدث كل شيء بسرعة. اصطدمت الشاحنة بجانب السيارة بسرعتها القصوى. لم تشعر بأي شيء.

خلفت الزوجة لتوني تاكيتاني حجرة مليئة بالفساتين ومائة واثني عشر زوجًا من الأحذية. لم يعرف ماذا يفعل بها. ليس من المنطق أن يحتفظ بكل ثياب زوجته لبقية حياته لذا اتصل بتاجر ووافق على أول سعر عرضه الرجل لشراء قبعات وإكسسوارات زوجته. جمع الجوارب والثياب التحتية معًا وأحرقها في محرقة الحديقة. كان عدد الفساتين والأحذية مهولًا لذا اكتفى بتركها في مكانها في الوقت الراهن. بعد الجنازة، حبس نفسه داخل حجرة ثياب زوجته وقضى اليوم بأكمله محدقًا في صفوف الملابس.

بعد عشرة أيام، وضع توني تاكيتاني إعلانًا في الجريدة يطلب فيه مُساعِدةً شابة مقاس فستانها اثنان، طولها خمسة أقدام وثلاثة إنشات تقريبًا، براتب مجزٍ، وظروف عمل مُيسَّرة.

لأن الراتب الذي حدده في الإعلان مرتفعٌ جدًا، حضرت من أجل المقابلة الشخصية ثلاثة عشرة امرأة في الاستديو الخاص به في ضاحية أومايا. كان من الواضح أنّ خمسة منهن يكذبنَّ بخصوص مقاسهنَّ الحقيقي. اختار من بين الثمانية المتبقيات المرأة الأقرب في صفاتها الجسدية لزوجته، امرأة في منتصف العشرينيات بوجه ملامحه عادية، كانت ترتدي بلوزة بيضاء وتنورة زرقاء ضيقة، كانت ثيابها وحذاؤها مُهندمة ونظيفة لكن قديمة. أخبر توني تاكيتاني المرأة: «العمل نفسه ليس صعبًا، عليك فقط القدوم إلى المكتب كل يوم من التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساءً، عليك الإجابة على الهاتف وتوصيل التصاميم وإحضار المواد الخام لي ونسخ بعض الأوراق. لكن ثمة شرط واحد. لقد فقدت زوجتي مؤخرًا ولديَّ كمية ضخمة من ثيابها في البيت، معظمها ثياب جديدة أو تكاد تكون كذلك، أودُ منكِ ارتداء ثيابها بينما تعملين هنا. أعلم أن الأمر يبدو غريبًا بالنسبة إليكِ لكن صدقيني، لا أملك أي دافع خفي. هدفي الوحيد أن يمنحني ذلك بعض الوقت كي أعتاد على فكرة رحيلها. إذا ارتديتِ ثيابها حولي، أنا متأكد أنّ ذلك سيساعدني على تقبُل حقيقة موتها». عضت الشابة على شفتها بينما تفكر في عرضه. كان عرضًا غريبًا كما قال –غريبًا جدًا- لدرجة أنها لم تستطع استيعاب الأمر بشكل كامل. فهمت الجزء الخاص بموت زوجته وأنها قد تركت الكثير من الثياب ورائها لكن لم تفهم لماذا عليها العمل وهي ترتدي ثياب زوجته. لكنها فكرت أن هذا الرجل لا يبدو شخصًا سيئًا، يمكنها أن تعرف ذلك من مجرد الإنصات إلى طريقته في الكلام. ربما أثَّر فقدانه لزوجته على قواه العقلية لكنه لا يبدو من نوعية الرجال الذين قد يدعوا ذلك الأمر يستولي عليهم ويدفعهم إلى إيذاء الآخرين. في نهاية الأمر كانت في حاجة للعمل، كانت تبحث عن وظيفة منذ وقت طويل جدًا وتأمين البطالة على وشك الانتهاء وغالبًا لن تجد وظيفة براتب جيد مثل هذه الوظيفة.

قالت: «أعتقد أنني أتفهم ذلك، أعتقد أن بإمكاني فعل ما تطلبه مني. لكن أولًا، هل يمكنني أن أرى الثياب التي عليَّ ارتدائها فعليَّ التأكد من أن مقاسها نفس مقاسي».

قال توني تاكيتاني: «بالطبع».

أصطحب المرأة إلى بيته حيث أراها الحجرة. لم ترَ من قبل هذا العدد الهائل من الفساتين في مكان واحد باستثناء المتجر. كان من الواضح أنّ كل فستان يساوي ثروة وأنه من طرازٍ رفيعٍ وأن ذوق من انتقى الثياب مثالي أيضًا. كان منظرًا يخطف الأبصار. بالكاد استطاعت المرأة التقاط أنفاسها من الذهول، كان شعورًا أشبه بالإثارة الجنسية. ترك توني تاكيتاني المرأة بمفردها في الحجرة. استجمعت رباطة جأشها قبل أن تجرِّب بعض الفساتين. جرَّبت بعض الأحذية أيضًا. ناسبها كل شيء كأنه مصنوعٌ من أجلها. تأملت فستانًا تلو الآخر. مررت أصابعها فوق قماشه واستنشقت رائحته. مئات من الفساتين الرائعة مُعلَّقة في صفوف. لم يمض وقت طويل قبل أن تتجمع الدموع في عينيها وتبدأ في الانهمار. لم تستطع تمالك نفسها، يكسو جسدها فستان امرأة ميتة. تسمرت في مكانها، تنتحب مُحاوِلةً ألا يصدر عنها أي صوت. بعد قليل، أتى توني تاكيتاني ليتفقدها.

«لماذا تبكين؟»

أجابت وهي تهز رأسها: «لا أعرف، لم أر فساتين كثيرة بتلك الروعة من قبل. لا بد أن الأمر قد هزَّني قليلًا. آسفة».

جففت دموعها بمنديل.

قال توني بلهجة عملية: «حسنًا، لو كان الأمر يناسبك، أود أن تشرعي في العمل في المكتب بدءًا من الغد. لذا خذي معكِ إلى البيت ما يكفيك من الفساتين والأحذية لمدة أسبوع».

استغرقت المرأة الكثير من الوقت لتختار فساتين لأيام العمل الستة. ثم انتقلت لانتقاء الأحذية. وضعت كل شيء في حقيبة.

قال توني تاكيتاني: «خذي معطفًا أيضًا، لا ترغبين في الإصابة بالبرد».

اختارت معطفًا رماديًّا من الكشمير. كان خفيفًا جدًا كما لو كان مصنوعًا من الريش. لم تمسك بين يديها معطفًا خفيف الوزن كهذا في حياتها كلها.

عندما رحلت المرأة، عاد توني تاكيتاني إلى حجرة زوجته وأغلق الباب وترك عينيه تطوفان بين الفساتين. لم يفهم لماذا بكت المرأة عندما رأتها. بالنسبة إليه بدت مثل ظلال خلَّفتها زوجته وراءها. ظلال من مقاس رقم «اثنين» لزوجته مُعلَّقة في صفوف طويلة طبقة فوق الأخرى، كما لو كانت نماذج من الاحتمالات اللانهائية لوجود إنسان ما.

كانت تلك الفساتين ملتصقة يومًا بجسد زوجته المفعم بالحياة وتحركت مع حركته. لكنها الآن باتت مجرد ظلال تافهة قُطِع اتصالها بجذور الحياة وراحت تذبل بسرعة، خاليةً من أي معنى. تراقصت ألوانها المتنوعة في الفراغ مثل حبوب لقاح تتطاير من الزهور وتتغلغل داخل عينيه وأذنيه ومنخاره. شعر كأن الزخارف والأزرار والأحزمة والأشرطة والجيوب تمتص هواء الغرفة بشراهة حتى شعر أنه بالكاد يستطيع التنفس. فاحت رائحة قوية من العدد السخي لكرات النفتالين المتناثرة بين الثياب. كان يكره تلك الفساتين؛ أدرك ذلك فجأة. استند على الحائط. ضم ذراعيه وأغمض عينيه. تسربت الوحدة إلى داخله من جديد مثل حساءٍ فاتر. لقد انتهى كل شيء الآن.

اتصل بالمرأة وأخبرها أن تنسى أمر الوظيفة. قال معتذرًا: «لم يعد هنالك عمل تؤديه».

قالت باندهاش: «لماذا؟ ماذا حدث؟»

قال: «آسف. الموقف تغيَّر، يمكنكِ الاحتفاظ بالملابس والأحذية التي أخذتِها، والحقيبة أيضًا. أريد منك أن تنسي كل ما حدث. رجاءً لا تخبري أحدًا بأي شيء».

لم تفهم المرأة أي شيء. وكلما حاولت الحصول على أجوبة، بدا الأمر عديم الفائدة.

قالت أخيرًا باستلام: «أرى ذلك»، ثم أغلقت الخط.

لعدة دقائق شعرت بغضب شديد نحو توني تاكيتاني. لكنها سرعان ما أحست بارتياح، كان العمل برمته غريبًا من البداية. كانت آسفة لفقدان الوظيفة لكنها أدركت أنها ستتمكن من تدبير أمور حياتها بطريقة أو بأخرى. أخرجت الفساتين التي جلبتها من بيت توني تاكيتاني وفردتها وعلقتها في خزانتها، ثم وضعت الأحذية في خزانة الأحذية بجوار الباب الأمامي. مقارنة بالوافدين الجدد، بدت ثيابها وأحذيتها القديمة رديئة بشكل مريع. شعرت كأنها أشياء مختلفة تمامًا، مصنوعة من مواد قادمة من عالم آخر. خلعت البلوزة والتنورة التي ارتدتها من أجل المقابلة الشخصية ثم لبست بنطال چينز وكنزة. جلست على الأرضية وراحت تشرب من زجاجة بيرة مثلجة. استعادت صورة الحجرة المليئة بالثياب التي رأتها في بيت توني تاكيتاني قبل أن تطلق تنهيدة عميقة. فكرت: «الكثير من الفساتين الرائعة! وتلك الحجرة؛ مساحتها تفوق مساحة شقتي كلها. تخيَّلي كل الوقت والمال اللذين أنفقا في شراء كل هذه الثياب! والآن المرأة التي قامت بذلك ميتة. أتساءل ما شعور أن يموت المرء تاركًا ورائه كل هذه الفساتين الجميلة».

كانت صديقات المرأة يعرفن أنها فقيرة لذا فوجئنَّ من رؤيتها ترتدي فستانًا جديدًا في كل لقاء يجمعهنَّ – فساتين من ماركات مشهورة وغالية.

سألنَّها: «من أين اشتريتِ هذا الفستان؟»

أجابت وهي تهز رأسها: «لقد قطعتُ وعدًا بألا أفصح عن ذلك»، قبل أن تستطرد: «بالإضافة إلى أنكنَّ لن تصدقنني إذا أخبرتُكنَّ بالحقيقة».

في نهاية المطاف استعان توني تاكيتاني بتاجر ثياب مستعملة آخر ليأخذ كل شيء تركته زوجته. عرض التاجر أقل من عشرين بالمئة من ثمن الثياب الأصلي، لكن توني لم يكترث. كان ليقبل بالتخلِّي عنها دون مقابل طالما لن يراها مرة أخرى أبدًا.

من حين إلى آخر، كان توني يذهب إلى الحجرة الفارغة ويمكث بداخلها لساعة أو ساعتين دون أن يفعل أي شيء بالتحديد. يكتفي بترك عقله يخلو تمامًا من أي أفكار. كان يجلس على الأرضية ويحدق نحو الجدران العارية، نحو ظلال زوجته الميتة. لكنه مع مرور الشهور فقد قدرته على تذكر الأشياء التي كانت في الحجرة. بهتت ذكرى ألوانها ورائحتها إلى أن تلاشت تمامًا قبل أن يدرك ذلك. حتى الذكريات المفعمة بالحياة التي كان متعلِّقًا بها قد اختفت كما لو أنها قد تقهقرت خارج حدود عقله. مثل ضباب في الهواء، تحورت ذكرياته، ومع كل تغيُّرٍ، أصبحت أقل وضوحًا. باتت كل ذكرى الآن باهتة مثل الظل الذي يخلفه ظل جسم ما. الشيء الوحيد الذي بقي محسوسًا بالنسبة إليه هو شعور مُقبضٌ بالغياب.

أحيانًا يعجز عن تذكُر وجه زوجته. الشيء الذي يتذكره بقوة هو وجه تلك المرأة، إنسان غريب عنه تمامًا، تذرف الدموع في الحجرة لمرأى الفساتين التي تركتها زوجته ورائها. يتذكر وجهها غير المميز وحذائها الجلدي القديم الرث. بعد فترة طويلة من نسيانه كل شيء بما في ذلك اسم المرأة، ظلت صورتها تلك عالقة في ذهنه بغرابة شديدة.

بعد عامين من وفاة زوجته، مات والد توني تاكيتاني بسبب سرطان الكبد. لم يعانِ شوزابورو تاكيتاني إلا قليلًا وكانت فترة إقامته في المستشفى قصيرة. كان موته هادئًا كما لو كان قد غلبه النوم. من هذا المنظور عاش شوزابورو تاكيتاني حياة ساحرة حتى النهاية.

باستثناء بعض النقود السائلة وبعض السندات، لم يترك شوزابورو لابنه شيئًا يُذكر. فقط آلة الترومبون الخاصة به ومجموعة ضخمة من أسطوانات الچاز. ترك توني تاكيتاني صناديق التسجيلات التي نقلتها شركة شحن إلى بيته، في أرضية الحجرة الفارغة حيث كانت ثياب زوجته يومًا ما. كانت تفوح من الصناديق رائحة عفن، لذا كان عليه أن يفتح النوافذ في الحجرة من وقت إلى آخر من أجل تهويتها. عدا ذلك لم يكن يضع قدمًا في الحجرة.

مرت سنة على هذه الشاكلة قبل أن يبدأ وجود صناديق التسجيلات في البيت يزعجه أكثر فأكثر. مجرد التفكير في وجودها هناك داخل الحجرة يجعله يشعر بالاختناق. أحيانًا كان يستيقظ في قلب الليل ويعجز عن النوم مرة أخرى. رغم أنَّ ذكرياته باتت ضبابية، إلا أنها لا تزال هناك في مكان ما داخل رأسه حيث كانت دائمًا، بكل الثقل الذي يمكن للذكريات امتلاكه.

وهكذا اتصل توني تاكيتاني بتاجر تسجيلات موسيقية وعرض عليه شراء المجموعة. لأنها كانت تحتوي على أسطوانات نادرة وقيِّمة لم تعد تُطبَع الآن، تلقى توني تاكيتاني مقابلًا عاليًا جدًا – يكفي لشراء سيارة صغيرة. لكن بالنسبة إليه، لم يعنِ المال أي شيء.

بمجرد أن اختفت التسجيلات من بيته، بات توني تاكيتاني وحيدًا حقًا.


اقرأ المزيد: هاروكي موراكامي: نافذة