الجوهر والمظهر

قصة لفرناندو سورنتينو*

ترجمة : باسم عبد الحليم

خاص بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

فرناندو سورنتينو: كاتب أرﭼـنتيني، من مواليد بوينس أيرس في نوفمبر 1942، تتمتع قصصه بمزيج من الغرائبية والكوميديا التي تتخذ أحيانًا منحى غرائبيًا وإن يظل معقولًا مع ذلك. صدر له 6 مجموعات قصصية ورواية قصيرة وأخرى طويلة على مدار 32 عامًا، ولذا فهو يصف نفسه بـ «قليل الإنتاج»، قياسًا إلى قراءاته التي تتميَّز بالكثافة، من مجموعاته القصصية: «انحدار الحيوان 1969»، «أفضل العوالم الممكنة للجميع 1976»، «علاج الملك الأعمى 1984»، و«صرامة المصائب 1984».

المترجم

***

سورنتينو عن scoopnest

في يوم 25 يوليو، بينما كنت أحاول كتابة حرف A، لاحظت ظهور دمِّل صغير على خنصر يدي اليسرى.. وفي يوم 27، بدا أكبر قليلًا.. في الثالث من أغسطس، وبمساعدة عدسة مُكبرة لجواهرجي، صار بإمكاني تمييز شكله. كان على شكل فيل صغير للغاية، أصغر فيل في العالم، نعم. لكنه فيل مكتمل حتى أدق التفاصيل. وكان مشدودًا إلى إصبعي لنهاية ذيله القصير. بحيث إنه –رغم كونه سجين إصبعي الخنصر- كان يتمتع بحرية حركة كاملة، غير أن تنقُّله كان يعتمد بالكامل على إرادتي وحدها.

بفخرٍ ورهبة، عرضته مُتردِّدًا على أصدقائي. ارتعبوا قليلًا، وقالوا إنه ليس من الجيد أن يظهر للمرء فيلًا فوق خنصره، ونصحوني باستشارة طبيب أمراض جلدية، بيد أنني سخرتُ من نصائحهم، لن أستشير أحدًا بالطبع، وليس لديَّ أي شيء لأفعله معهم، لذا فقد انصب تركيزي بالكامل على دراسة مراحل تطوُّر الفيل.

بحلول نهاية أغسطس، كان قد أصبح بالفعل فيلًا رماديًا وسيمًا يمتد بطول الخنصر وإن كان سميكًا بعض الشيء. كنت ألعب معه طوال اليوم. في بعض الأحيان كنت أستمتع بمشاكسته، أدغدغه، وأدربه على القيام ببعض الحركات البهلوانية، وعلى الشقلبة فوق عددٍ من الحواجز الصغيرة: علبة كبريت، مبراة قلم رصاص، ممحاة.

في ذلك الوقت، بدا من المناسب أن أطلق عليه اسمًا. فكرت في عدة أسماء سخيفة –وربما تقليدية- تصلح لفيل : دامبو، جامبو، يامبو،… وأخيرًا، قررت أن أُسمِّيه ببساطة: «فيل».

كنت أحب أن أطعم «فيل»، أُلقي بفتاتٍ من الخبز على الطاولة، أوراق خس، وقطع من العشب الأخضر. وهناك، بالقرب من الحافة، قطعة من الشيكولاته. ثم كان على «فيل» أن يناضل للحصول على جائزته، لكني كنتُ أُثبِّت يدي بقوة، ولذا لم يستطيع «فيل» الوصول إليها. بهذه الطريقة، استطعتُ التأكُد من حقيقة أن «فيل» ليس سوى جزء -الجزء الأضعف- من نفسي.

بعد فترة قصيرة، عندما أصبح «فيل» في حجم فأر تقريبًا، لم أعد أستطيع السيطرة عليه بسهولة. كان خنصري مرهقًا جدًا، لدرجة لا تمكنني من تحمُّل تهوره.

في هذا الوقت، كنت ما أزال واقعًا تحت وهم أن الظاهرة تتعلَّق فقط بمعدل نمو «فيل». وقد تحرَّرتُ من هذه الفكرة عندما وصل «فيل» إلى حجم حَمَل. في هذا اليوم كنت قد وصلتُ أنا أيضًا إلى حجم حَمَل.

هذه الليلة –وفي ليالٍ أخرى أيضًا- صرت أنام على بطني، ويدي اليسري تتدلَّى من السرير على الأرض، وبجواري ينام «فيل». بعد ذلك كنتُ أضطر إلى النوم متجهًا إلى أسفل، رأسي فوق رقبته، وقدميَّ على ظهره، فوق «فيل» تمامًا. وعلى الفور اكتشفت أن جزءًا فقط من مؤخرته يمكن أن يتسع لي، بعدها ذيله، وبعد ذلك طرف ذيله، حيث أصبحتُ أُمثِّل مجرد دمِّل صغير، غير محسوس بالمرة.

في هذا الوقت صرتُ أخاف من أن أتلاشى تمامًا، أن أتوقف عن أن أكون أنا، وأصبح مجرد ملليمتر في ذيل «فيل»، بعدها لم أعد أشعر بهذا الخوف، استعدتُ شهيتي، وتعلَّمتُ أن أُطعِم نفسي من بقايا الفتات، بحبَّات طعام الطيور الأليفة، أو بقطع من العشب والحشرات الطفيلية الضئيلة.

بالطبع كان هذا في السابق. الآن أنا أحتل جزءًا أكبر من المساحة الخالية على ذيل «فيل»، صحيح أنني ما زلت محكومًا بجزئي، ولكن صار بإمكاني الآن أن أتحصَّل على بسكويتةٍ كاملة، وأن أتسلَّى -بشكلٍ سري وخفي- بالفُرجة على الزوار العابرين في حديقة الحيوان.

في هذه المرحلة من اللعبة، أنا متفائل جدًا. أعلم أن حجم «فيل» قد بدأ في التقلُّص، ولذلك فأنا ممتلئ بشعور بالتفوُّق المتوقع تجاه المارة غير المبالين، ممن يلقون لنا بالبسكويت، مُعتقدين فقط بوجود «فيل» الواضح للعيان، دون أن يَشُكّوا للحظة في إنه ليس أكثر من مجرد مظهر، يُخفي وراءه جوهرًا ما زال يكمن في الانتظار.