الطقس الاجتماعي
مقال لشهاب الخشاب
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
***
ليه الناس بتصلِّي؟ الإجابة المعتادة على السؤال ده إجابة أخلاقية، مرتبطة بإن المسلم أو المسيحي أو البوذي النقي الطاهر لازم يصلِّي عشان يرضي ربنا، واللي ما بيصلِّيش بيغضب ربنا، وبالتالي لازم ربنا يعاقبه أو يئذيه في الحياة دي أو في اللي بعدها. فيه كمان إجابة عملية بتعبَّر عن تديُّن التجار والمحاسبين، اللي بيشوفوا إن ثمن العقاب أو الأذى الإلهي أكبر من ممارسة دينية بسيطة زي الصلاة، وبالتالي الواحد بيصلِّي بس عشان يتقِّي الله بعيدًا عن تفاصيل العقيدة. وطبعًا فيه الإجابة الروحية، المرتبطة بإن الصلاة بتطهَّر وبتحسِّن روح الفرد المتديِّن، والصلاة واجب على كل إنسان نفسه يكون سوي وقلبه أبيض.
الإجابات دي بتفترض إن الصلاة فعل فردي ولها محفزات فردية، سواء كان الجزاء اللي الواحد هياخده لو ما صلَّاش، أو حسابات حصالة حسناته في الآخرة، أو النقاء الفردي اللي هيحققه دونًا عن الناس اللي ما بتصلِّيش. الرؤية الفردانية دي جزئية، لأن عادات الصلاة عبارة عن طقوس جماعية في أساسها، وده مش بس واضح في تجمعات المؤمنين في الجامع أو الكنيسة أو المعبد، وإنما كمان في الطرق اللي الأطفال بيتعلموا بها الصلاة، وهي طرق مالهاش علاقة بالعقاب والحسابات والروحيات، وإنما بالتفاعل الاجتماعي مع الأجيال الحالية والسابقة، وده جزء أساسي من أي طقس اجتماعي (ritual).
يعني قوة الطقس مش مرتبطة بنزعة فردية أو قدرة إلهية، وإنما بالضغوط الاجتماعية اللي بتحكمه. في العلوم الاجتماعية والإنسانية الأوروبية، الطقوس واستمرارها اتفسَّروا حسب 3 مناهج تاريخيًا: منهج وظيفي، ومنهج رمزي، ومنهج تاريخي. المنهج الوظيفي اتطوَّر في أوروبا في نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، تحت تأثير علماء اجتماع زي إيميل دوركهايم (Émile Durkheim) وتلامذته مثلًا، اللي كانوا شايفين إن المجتمع عبارة عن مؤسسات بتشتغل زي أعضاء الجسم البشري، ولازم تتناغم مع بعض عشان الجسم ما يعياش وما يموتش. في الإطار ده، الطقوس عبارة عن آلية لإعادة إنتاج المجتمع السليم المعتدل، وكأن المؤسسة الدينية عضو أساسي في الجسم الاجتماعي ولازم يستمر عشان المجتمع ما ينهارش.
يعني بعيدًا عن معانيها الفردية والروحية، الصلاة لها وظيفة خطيرة في بقاء المجتمع، والناس بتضغط على بعضها عشان تحافظ على استمرار المؤسسة الدينية والمجتمع ككل. الرؤية الوظيفية دي بتتعرّض لمشكلتين أساسيتين: أولًا إنها ما بتفرَّقش بين معاني الصلاة في سياقات سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة، وثانيًا إنها ما بتعترفش بالتغيرات الاجتماعية الكبرى اللي ممكن تأثَّر في معنى ووظيفة الطقس نفسه. بالتالي الرؤية الوظيفية ما تقدرش تشرح إيه الفرق بين طقوس الصلاة عند المسلمين والبوذيين مثلًا، لأنها معتبرة إن الفروق دي مش مهمة قد ما الصلاة بتحافظ على مؤسسات المجتمع في الحالتين، وما تقدرش تشرح التطور التاريخي اللي أدى لشكل ومضمون الصلاة الحالي عند المسلمين والبوذيين.
في المقابل، المنهج الرمزي المتمثل في كتابات علماء زي ڤيكتور ترنر (Victor Turner) وكليفورد جيرتز (Clifford Geertz) بتهتم أساسًا بتأويل معاني الطقوس في سياقها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وما بتكتفيش بإنها تربط وظيفة الطقس بإعادة إنتاج المجتمع. التأويلات الرمزية بتقوم على تحليل الرؤى الشائعة لبعض الرموز البارزة في الطقوس الدينية. فمثلًا في طقوس الصلاة عند المسلمين، المنهج الرمزي هيهتم بمعنى الوضوء وبالكلام اللي بيتقال أثناء الصلاة وبحركات الركع والسجود، وهيأوِّلها في إطار إن الممارسات دي لها معاني شائعة جوه مجتمع محدد في ظرف تاريخي محدد، لدرجة إن أي مسلم طاهر ونقي يقدر يشرح اشمعنى المؤمن بيغسل وشه ثلاثة مرات مش خمسة، واشمعنى بنقرأ الفاتحة قبل كل ركعة، واشمعنى صلاة الفجر ركعتين والعصر أربعة.
التأويلات الرمزية دي بتقابل مشكلتين أساسيتين برضه: أولًا إن التأويل بيعتمد على قدرة فهم الرموز الشائعة، وطبعًا القدرة دي مش متوزَّعة بنفس الشكل في كل المجتمع، لأن تأويل الفقيه بيختلف عن تأويل شيخ الطريقة أو تأويل المحاسب، وكل واحد حسب فهمه للمسائل العقائدية. ثانيًا، تأويل الرموز الدينية نفسه مرتبط بسياق محدد وما بياخدش في الاعتبار الصراع المادي التاريخي اللي شكِّل السياق ده، وأدى لتواجد فروق تاريخية جوه الطقس، زي مثلًا الصراعات بين طوائف ومذاهب الإسلام، اللي أدت لأن الصلاة عند الحنفيين تكون غير الصلاة عند الشيعة الإثنى عشرية، وإن دلالة الصلاة عند المسلمين الأوائل في يثرب غير دلالتها عند سكان القاهرة المعاصرة.
الصراعات دي أساسية في التحاليل التاريخية للطقوس، زي في مقال كليفورد جيرتز الشهير عن «الطقس والتغيير الاجتماعي في جاڤا». المقال بيحكي واقعة عزاء شاب مسلم اتوفى في مدينة صغيرة في إندونيسيا في الخمسينات. في الظروف المعتادة حسب جيرتز، طقوس العزاء في المدينة دي بتتم بشكل روتيني ونقدر نتفهمها برؤية وظيفية بسيطة: الناس بتتجمَّع في العزاء عشان تودَّع عضو من جسم المجتمع وتتأكد إنها ترفع الروح المعنوية للجميع عشان المجتمع ما ينهارش. ولكن الظرف التاريخي المحدد اللي وصفه جيرتز كان في وسط صراع بين جماعات إسلامية وجماعات معادية للإسلام في إندونيسيا أثناء تغيرات جذرية في طبيعة الريف الأندونيسي. عائلة الولد اللي اتوفى كانت ضحية الصراع ده، لأن فجأة المعازيم أظهروا رؤى مضادة ومتناقضة للأفعال الروتينية بين الدفن والعزاء، وبالتالي الطقس ما تمِّش بالشكل المعتاد وإنما كنتيجة للصراع العام في المدينة.
ميزة التحليل التاريخي بالشكل ده إنه بيعمَّق الرؤية الوظيفية أو الرمزية البحتة، لأنه ما بيكتفيش بتوظيف الطقس جوة جسم المجتمع وكأن الجسم ده ما بيتغيَّرش، أو كأن هدف الطقوس هي إعادة إنتاج المؤسسات القائمة وبس، وبرضه ما بيكتفيش بتأويلات الناس عن معنى الطقس في ظرف محدد، لأن التأويلات دي في الآخر مرتبطة بقوات سياسية واقتصادية واجتماعية ناتجة عن صراع تاريخي مستمر. لذلك ما نقدرش نأوِّل الصلاة الافتتاحية مع رئيس الوزراء في مسجد جديد مثلًا زي ما بنأوِّل الصلاة في جنازة رجل دولة أو الصلاة يوم الإثنين في كوريدور شركة قطاع عام. الضغوط بتختلف في الحالات دي، مش عشان الصلاة نفسها بتتغيَّر، وإنما عشان الظروف اللي بتحكمها بتدِّيها دلالات متغيّرة.
الرؤى المختلفة دي عن طبيعة الطقس ومعناه الاجتماعي وتطوراته التاريخية بتبيِّن إن تأويل الحياة الاجتماعية دايمًا محمَّل بالتعقيدات والتناقضات، والواحد ما يقدرش يستخدم منهج واحد وموحَّد عشان يفهم المجتمع. فهم الطقوس الاجتماعية تحديدًا بيتطلَّب وجهات نظر متعددة، حتى أكثر من الثلاثة مناهج اللي قدمتهم هنا، لأن لسة فيه جوانب مهمة في الطقوس الاجتماعية ما تقدرش تخش في إطار التحاليل اللي ذكرناها، زي مثلًا إن الصلاة لها جانب جسدي ما نقدرش نفهمه مجرد بشكل وظيفي أو رمزي أو تاريخي، لإن الفعل الجسدي في الصلاة بيأدي غرض العبادة بعيدًا عن عقيدة الشخص اللي بيصلِّي، أو مثلًا إن الصلاة ممكن تكون عبارة عن مشروع حياة لانتقاء هوية أخلاقية خاصة عند بعض الناس المتديِّنين والناس اللي بتصلّي معهم.
تعدد وجهات النظر بيبيِّن إن ممارسة الطقوس مش ممكن تتحصر تحت خانة «التقاليد» بمعنى إيريك هوبزباوم (Eric Hobsbawm)، اللي هي عبارة عن ممارسات مصطنعة عند الناس «التقليديين» عشان يقضوا بها مصالحهم السياسية. التقاليد بالمعنى ده بتستخدم الأشكال والرموز والتواريخ اللي موجودة في الطقوس الاجتماعية الشائعة، حتى لو الناس «التقليديين» بيخترعوا دايمًا طقوس جديدة عشان يسيطروا على الماضي، ولكن ما نقدرش نقول إن كل الطقوس الجماعية عبارة عن تقاليد بالمعنى الضيق ده، لأن المعنى ده بيحصر أهمية الطقوس في وظيفة سياسية واضحة فقط، بينما أي طقس له كمان وظائف اجتماعية ومعاني رمزية وأسس مادية تاريخية بتدّيه تأثير وعمق خاص.
إذن ما نقدرش نحسم إيه السبب الوحيد اللي بيخلِّي الناس تصلِّي، لأن الصلاة لها دلالات أكثر بكثير من التفسيرات الضيقة، وكلما ضاقت الأفق والأذهان، كلما ما قدرناش نفهم سر استمرار الطقوس دي.