سيرة الأشياء
مقال لشهاب الخشاب
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
***
إيه هو القرآن؟ بعض الناس هتفكَّر في المصحف الأخضر اللي عندهم في البيت، أو المصحف الصغير بالجلدة البني اللي بيتحط تحت المراية في العربية، أو المصاحف الضخمة اللتي بتتساب في المساجد للي عايز يستخدمه. لكن القرآن أكثر من كده بكتير. القرآن هو كمان فيديوهات سورة الرحمن وسورة البقرة اللي بتبقى متغطية بالورد والنجوم على اليوتيوب، أو الفلاشة اللي بتردد صوت مقرئ قديم في راديو الزاوية يوم الجمعة، أو ورق البرشمان بالخط الكوفي اللي كان بيتكتب عليه القرآن في العصور الوسطى، أو قشرة الشجر اللي كان بيُستَخدم في بدايات الإسلام، أو الكلام اللي قاله سيدنا جبريل للنبي محمد (صلَّى الله عليه وسلَّم) ساعة الوحي.
يعني القرآن مش مجرد شيء واحد وموحَّد عبر العصور، وإنما مجموعة من الوسائط اللي بتتغيَّر عبر الزمن. ورغم التغيير ده، القرآن احتفظ بشكل ومضمون متشابه من ساعة جمعه بشكل نهائي في عهد عثمان بن عفان (رضي الله عنه) لغاية الآيات اللي بتتلزق قدام المحلات ووراء الميكروباصات وجوه الأسانسيرات. يعني من ناحية نقدر نلاحظ تغييرات واضحة في الوسائط اللي بتنقل القرآن، من أول الملائكة لليوتيوب والفلاشة، ومن ناحية تانية فيه كلام وألفاظ بتتحفظ بنفس الطريقة من أكثر من 1400 سنة هجرية. إزاي ممكن نحدد إيه هو القرآن في الظروف دي؟ حسب عالم الإنسان إيجور كوپيتوف (Igor Kopytoff)، نقدر نقول إن القرآن والأشياء اللي بيظهر فيها لهم سيرة ذاتية، وسيرة الأشياء دي (object biography) هي اللي بتوصف القرآن بدقة.
فكرة إن الأشياء لها سيرة ذاتية ظهرت في بريطانيا وأمريكا من ثلاثين سنة تقريبًا، تحديدًا في كتاب حرره عالم الإنسان أرجون أپادوراي (Arjun Appadurai) عن «حياة الأشياء الاجتماعية» (The Social Life of Things). الكتاب ده كان جزء من توجه عام في العلوم الإنسانية والاجتماعية بيهتم بالأشياء المادية ودورها الاجتماعي الفعَّال. التوجه المادي ده بدأ في كتابات فلاسفة زي جان بودريار (Jean Baudrillard) في السبعينات، ولكن بقى واضح ومنهجي في التمانينات عند علماء إنسان زي دانييل ميلر (Daniel Miller) وبرونو لاتور (Bruno Latour) وپییر لیمونییه (Pierre Lemonnier)، اللي اقترحوا بأشكال مختلفة وفي سياقات مختلفة إن الأشياء نفسها لها فعالية خاصة في المجتمع بعيدًا عن مضمونها ومعناها، ولازم العالِم الاجتماعي ينتبه إليها زي ما بينتبه لتأويل معاني الرموز والمؤسسات والممارسات التانية.
التوجه المادي كان رد فعل لطغيان التوجهات اللغوية والدلالية في علوم الاجتماع، اللي كانت بتحاول تحلل الظواهر الاجتماعية وكأنها ظواهر لغوية أو معنوية. ضمن التوجهات دي نقدر نذكر مثلًا رؤية كلود ليڤي ستروس (Claude Lévi-Strauss) في تحليل الأساطير، أو رؤية كليفورد جيرتز (Clifford Geertz) في تحليل الرموز الثقافية، أو رؤية جاك دريدا (Jacques Derrida) في تحليل الكتابة. التحليلات دي بتخلِّي العالم بحاله يبان وكأنه نص كبير لازم نفك شفرته عشان نفهمه، وكأن إحساس الناس بالعالم المادي والجسدي والسياسي مالوش دخل في تفكيك شفرة نص الحياة.
إذا حاولنا نحلل القرآن من وجهة النظر دي، مش هنهتم إلا بمضمون النص نفسه، والتناقضات اللي فيه، واللغة الرمزية اللي بيستخدمها، والمعاني الباطنية اللي جواه، وكأننا كلنا مجموعة فقهاء بيزودوا هوامش على المتن، وكأن القرآن مالوش وجود مادي أبعد من المعاني الرمزية دي. إنما لازم نعترف برضه بإن القرآن عبارة عن المصاحف والكاسيتات والفلاشات والفيديوهات اللي الناس بتتفاعل معاهم، وبالتالي ما نقدرش نحصر أهمية القرآن في المعاني الداخلية وفقط، ولازم ندرس الأشياء والوسائط المادية اللي بتكوِّن القرآن وبتخلّيه منتشر في المجتمع.
فكرة كوپیتوف عن السيرة الذاتية للأشياء بتقول إننا ما نقدرش نفهم الأشياء فقط في لحظة استخدامها أو بيعها مثلًا، لأن الشيء الواحد زي البني آدم الواحد له لحظة ولادة ولحظة موت ولحظة حياة بعد الموت، وبيعيش أحداث كثيرة بتميِّز وجوده الفردي بين اللحظات دي. لذلك ممكن نلاقي مصحف بيتولد في المطبعة وبيتوزَّع على الرصيف وبيتباع لموظف هيحطه في الدرج في مكتبه عشان يقرأ فيه من وقت للتاني لما يلاقي نفسه فاضي، ولما الموظف ده يتحال على المعاش بياخد المصحف في البيت ويهديه لحفيده عشان يقدر يحفظ القرآن ويخش مسابقة المدرسة، ولما حفيده يكبر ويتجوز في شقة جديدة بيضيَّع ويموِّت المصحف في النقل، وبيلاقيه واحد بتاع روبابيكيا بيبيعه تاني لبيَّاع كتب على الرصيف هَيِدِّي للمصحف ده حياة جديدة مع أسرة جديدة.
حياة المصحف الافتراضي ده بتورِّينا إن الأشياء بتمر بين كذا مجال، كل واحد فيهم بيدِّي للشيء قيمة مختلفة. حسب كوپیتوف، ما نقدرش نقول إن المصحف ده له معنى واحد أو استخدام واحد، لأن معناه هيتغيَّر سواء كان مجرد سلعة بتتباع في الشارع أو كتاب في درج الموظف أو مصدر لمذاكرة الحفيد. الاختلاف بين المجالات دي بيورِّي إننا ما نقدرش نوصف الأشياء بشكل أحادي كـ «سلعة» أو «هدية» أو «كتاب»، وإنما إن الوصف ده بيتغيَّر حسب المجال اللي الشيء بيلاقي نفسه فيه.
عالم الإنسان جريجوري ستاريت (Gregory Starrett) كتب مقال بيأيد الفكرة دي، عن تطورات المصحف بين حالة السلعة، لما التجار بيرصُّوه بلا اهتمام ولا عناية عشان يتباع، وحالة التحفة المقدسة المرصوصة بحرص واحترام شديد في بيوت عائلات الطبقة الوسطى المحافظة. الفرق في الحالتين مش في الشيء نفسه ولا في القرآن وتقديسه، وإنما في تغيير علاقة الناس بالأشياء في مجالات التفاعل المختلفة. علاقة التاجر بالسلعة غير علاقة المؤمن بالمصحف، والتحولات اللي بتظهر في نمط التفاعل بين الشارع والبيت مثلًا دالة عن تعامل المجتمع مع القرآن.
التغيُّرات دي كلها مش بس جزء من سيرة المصحف الذاتية، وإنما كمان من سيرة القرآن العامة. وعي التاجر والموظف والحفيد بالقرآن في العموم بيتشكِّل عبر التفاعلات المادية مع المصحف ده، بالإضافة لتفاعلات ثانية مع القرآن اللي بيتسمع في الشوارع أو في المساجد أو على الكمبيوتر. عالم الإنسان تشارلز هيرشكيند (Charles Hirschkind) كتب عن علاقة سكان القاهرة باستماع القرآن تحديدًا، لأن بعيداً عن فهم المضمون والمعاني، الناس عندها علاقة أخلاقية بالسمع، غير العلاقة المادية بالمصاحف والفلاشات والفيديوهات. بالتالي وحدة القرآن ومعناه الإجمالي نتيجة كل التفاعلات دي ومش مجرَّد مضمون القرآن في حد ذاته.
متابعة سيرة القرآن ووسائطه المختلفة بتكشف الممارسات الدينية في المجتمع، بعيدًا عن كلام الناس والفقهاء والمواعظ. متابعة سيرة القرآن مهمة لأنها بتورِّينا إن لولا تاريخ الوسائط البشرية والمادية اللي نقلت القرآن من ساعة الوحي، ما كانش وصل لنا القرآن بصورته الحالية النهارده، ولا كان فيه تعدد وجهات النظر في النص ده بين المغرب والصين. الفرق في تعاملات المسلمين مع النص القرآني مش راجع بس لفروق لغوية أو رمزية، وإنما كمان لفروق مادية في سيرة الأشياء اللي خرَّجت القرآن من ذاكرة بعض أهل الصحابة في شبه الجزيرة العربية للكتاب الأخضر المطبوع اللي بيتوزَّع على الرصيف في جميع أنحاء العالم.
إذن نقدر نقول – سبحان الله – إن معجزة القرآن مش بس في لحظة الوحي، وإنما كمان في استمراره عبر العقود بفضل تفاعلات مادية وبشرية بتدِّي له معنى جديد في كل زمن وفي كل مكان.