كراهية البشر ليست حلًا مع الأسف

مقال لحسين الحاج

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

آرثر شوبنهاور

من بين جميع أنواع الكراهية التي يمارسها البشر، يبدو التعبير عن كراهية الجنس البشري Misanthrope أكثرها تناقضًا، فكيف ﻷي إنسان أن يحتقر بني جنسه وهو لا يملك أن ينتمي إلى أي شيء آخر سواه؟ ﻷن حتى من يُدعي باليهودي الكاره لليهود أو المسلم الكاره للمسلمين، يستطيع في النهاية أن ينتمي إلى ديانة أخرى أو يكتفي بثقافة دين آبائه الدنيوية دون التقيد بقيود شعائره وطقوسه الروحية، ثم يهجر قومه ويعيش بين أقوام آخرين، لكن ما الخيارات المطروحة أمام اﻹنسان الذي يكره الانتماء إلى اﻹنسانية؟

ليست كراهية البشر سوى فكرة عنصرية، وأعني بالعنصرية أنها تخص عنصرًا من عناصر الحياة، مثلما يوجد هناك من يكره الطماطم أو الفرانكفونية أو السود أو الهندوس أو المثليين أو النساء، مع اختلاف تبعات هذا الشعور الحاد بالاحتقار والقرف نحو هذا العنصر أو ذاك. تنجم عادةً عن هذه اﻷفكار والمشاعر أفعال تتراوح بين رفض تناول الطعام المطبوخ بالطماطم وممارسة التحرش الجنسي والعنف المنزلي، وما يؤدي إليه الشعور بكراهية البشر هو الرغبة السلمية في العزلة الاجتماعية unsociality أو الرغبة العنفية في معاداة المجتمع anti-sociality، تعني اﻷولى الانفصال المادي عن المجتمع اﻹنساني المحيط واعتزاله بينما تعني الثانية استباحة إيذاء اﻵخرين بأي شكل وصورة ممكنة، وعادةً ما ينتج عن عدم القدرة على تحقيق الرغبة اﻷولى ممارسة الرغبة الثانية. ورغم ذلك، تبدو كراهية البشر حلًا للكثيرين الذين لا يعانون من الشعور بأي امتياز مستحق ضد عناصر معينة تندرج تحت ظل اﻹنسانية، فهم يكرهون الجميع على السواء، رجالاً كانوا أم نساء.

إذا كانت كراهية البشر فكرة مساواتية، فهي مساواتية من نوع سلبي غريب، ﻷنها تفترض نفي اﻹنسانية جمعاء بعكس ما تفترضه اﻷفكار المساواتية اﻷخرى من احترام وتقدير لجميع البشر. لكن هل جميع كارهي البشر جادين في مساواتيتهم حتى النهاية فيشعرون بكراهية الذات بما أنهم ما زالوا بشرًا عاقلين؟ أم أنهم يستثنون أنفسهم خارج هذه الفكرة فتصبح كراهيتهم نوعًا من اﻷنانية الفردانية؟ إننا قد نجد تبديًا لهذه اﻷنانية الفردانية في آراء مهاويس الرأسمالية الذين يقدسون الملكية الاقتصادية الخاصة للفرد وقواعد السوق فوق مصلحة المجتمع أو أي قيمة اجتماعية أخرى، لذلك نعرف جيدًا أن هناك نوعًا من كراهية البشر قد يتنكر في صورة عقيدة اجتماعية، بينما لا يعبر إلا عن أنانية محضة، ومن ثم تصبح اﻷنانية ثغرة حقيقية في جدار كراهية البشر المصمت. لكن ماذا إذا لم يكن هناك استثناء أناني في احتقار كارهي البشر ﻷنفسهم؟

في مشهد شهير ﻹدوراد نورتون في الفيلم اﻷمريكي «الساعة الخامسة والعشرون» للمخرج سبايك لي، يسب البطل مونتجمري بروجن جميع أقوام البشر بلا استثناء، بمن فيهم أسامة بن لادن وحتى أصدقاءه ومحبوبته وأباه، ثم يعقب مونولوجه الطويل العاصف بلعن نفسه. يبدو لي أن هذه هي كراهية البشر الحقة، فهي تعرف جيدًا أن صاحبها ليس متمايزًا عن اﻵخرين من بني جنسه في شيء، ومن ثم فاليأس العميق من الجنس البشري لا يختلف بالضرورة عن اليأس من النفس التي تنتمي إليها، وهذا اليأس يضعنا في مواجهة العدمية المطلقة في جميع الأحوال.

روح الكراهية

كيف يمكن لنا أن نحلل كراهية البشر المعاصرة فلسفيًا؟ إن نشوء الفرضية العلمية الجديدة بدخول البشر في حقبة اﻷنثربوسين Anthropocene التي تُعرف ببداية حقبة تأثير البشر (المدمر) للأرض والنظم البيئية عليها، تمثل دعامة أساسية لمثل هذه الكراهية، كما أنه في عصر الصوابية السياسية القهري، لا يمكن السماح بأي خطاب نوعي مسيء للأقليات والمهمشين والمضطهدين اجتماعيًا وتاريخيًا، فما من مجال رسمي يقبل بعد اﻵن التعبير الصريح عن احتقار المرأة أو اليهود أو غيرهم، حتى الخوف من الغرباء أصبح شيئًا محرمًا، وقد صار التسامح الكوني فضيلة إلزامية، فلم يتبق للبشر سوى أن يكرهوا أنفسهم بلا أدنى تمييز. وأخيرًا، يصبح البشر في عالم معولم بواسطة الرأسمالية النيوليبرالية حانقين على أنفسهم بسبب عدم قدرتهم على التمييز بين المُستَغِّلين والمُستَغَّلِين أو ميلهم إلى إدانة كلا الطرفين، اﻷولين على استغلالهم واﻵخرين على خضوعهم لهم.

ورغم كل ذلك، لا يمكننا نسب ظهور كراهية البشر إلى عصرنا، فكراهية البشر قديمة قدم الفلسفة الحديثة ذاتها، ﻷن الفلسفة أول صور الفكر المجرد الذي يهتم باﻹنسان وأفعاله بصفته نوعًا متمايزًا عن بقية الطبيعة، حتى أن فيلسوفًا مثل كانط، صاحب مشروع السلام الدائم، قال إن «من ضلع اﻹنسان الفاسد، لم يُصنع شيئًا مستقيمًا أبدًا». وفي اﻷدب، يذكر بعضنا المقطع الشهير الذي ألفه اﻷديب الروسي فيودور دوستويفسكي في رواية اﻷخوة كارامازوف، «كلما ازداد حبي للإنسانية جملة واحدة، نقص حبي للبشر أفرادا.. إنني أصبح عدوًا للبشر متى اقتربت منهم»[1]،  لكن حتى روائي القرن التاسع عشر دوستويفسكي لم يبلغ في التعبير عن كراهية البشر والحط منهم قدر ما بلغه روائي القرن العشرين ميلان كونديرا الذي ختم مسيرته الروائية بعمل روائي قصير يُدعى حفلة التفاهة، يقول ستالين، أحد أبطال الرواية، قاصدًا اﻹنسانية، «أﻷجل هؤلاء المغفلين بددت كل قواي؟ أﻷجلهم عشت؟ أﻷجل هؤلاء الرثين؟ ﻷجل هؤلاء المخبولين المبتذلين؟ ﻷجل فلاسفة المباول؟»[2] يرى كثير من أبناء القرن الحادي والعشرين أن اﻷمل يكمن في نفي التفوق للجنس البشري بواسطة دعم هيمنة الذكاء الاصطناعي الذي سيحرر العالم من عواقب المسئولية التاريخية الحمقاء التي فرضها التنوير على اﻹنسانية.

في الحقيقة لا يمكن إدانة شعور مثل كراهية البشر، ﻷنه في النهاية مجرد فكرة في أذهان بعض الناس، وحتى ولو لم يكن مجرد فكرة في اﻷذهان، فمؤداه السلمي في العزلة الاجتماعية حق إنساني، وكثير منا مارس هذا الحق عن طريق هجر المدنية والحضارة والعيش في البرية أو في مجتمعات منخفضة الكثافة اﻹنسانية بما يتيح لهم حرية عدم التعامل مع البشر أكثر وقت ممكن، أما مؤداه العنفي في معاداة المجتمع ليس السبب الوحيد ولا حتى السبب اﻷكثر شيوعًا ﻹيذاء الناس لبعضهم. إن نقد كراهية البشر يكمن في نقد الجوهرانية اﻹنسانية Essentialism، أي نقد افتراض أن للبشر جوهرًا لا يتبدل ولا يتغير، فإذا كانت اﻹنسانية نزعة ميتافيزيقية كما يقول هيدجر، فإن هذه النزعة لا تخبرنا بأي شيء حقيقي يمكن إثباته ماديًا عن طبيعتها، فليس هناك ما يدعى بالطبيعة الإنسانية في اﻷصل كي نحكم عليها بالشر أو بالخير ثم نمارس كراهيتنا أو حبنا لها، فكلا الحكمين خاطئين، ﻷن البشر قادرون على إثبات كلاهما معًا.

كراهية البشر ليست حلاً فلسفيًا مع اﻷسف، فعلى الرغم من مساواتيتها، لا يمكن الفكاك من جوهرانيتها مطلقًا، تلك الجوهرانية التي إذا ما تخلصت منها لم يبق لديك شيء تقوله ضدها، فالمساواة في الظلم تظل ظلمًا.


[1]  ترجمة سامي الدروبي

[2] ترجمة معن عاقل