الاستهلاك

مقال لشهاب الخشاب

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه

***

عن sobeirut

ليه الناس بتشتري كتب؟ ممكن نتصور إن اللي بيشتري كتاب بيبقى عايز يقراه، ولو مش موجود ورقي هيحاول ينزله «پي دي إف»، ولو ما عندوش مكتبة كبيرة أو هاردات كافية هيرمي الكتاب بعد شوية، بس المهم إن الغرض الرئيسي من شراء الكتاب هو القراءة. طبعًا في بيوت الطبقة الوسطى المصرية، الكتب بتبقى ساعات مرصوصة في الصالون وكأنها زينة، زي ما جدودنا وجداتنا كانوا بيرُصوا الصيني في النيش. ساعات الكتب بتبقى متشوِّنة في كراتين عشان مالهاش مكان ومالهاش حظ من اهتمام الأسرة، وكأن أصحاب البيت ما قروش كتاب واحد منهم ولا عمرهم اهتموا بنور العلم. في الحالات دي، الواحد ممكن يتساءل إشمعنى الناس بتشتري كتب من غير ما تقراها؟ السبب في رأيي إن الكتاب مش مجرد كباية فاضية بنملاها بالفكر وبنشرب منها عشان نفكَّر، وإنما هو عبارة عن سلعة مادية بيتم استهلاكها زي أي سلعة ثانية.

الاستهلاك بقى ظاهرة طاغية في مجتمعنا الرأسمالي الأكل عيشي، لدرجة إن كل الأشياء اللي الواحد ممكن يتخيَّلها تقدر تكون سلعة معروضة للبيع والشراء في مرحلة او أخرى من حياتها المادية. يعني الواحد ممكن يبيع ويشتري الأكل والشرب والعربيات والبيوت والكتب والمكتبات، وحتى لو كل الأشياء دي متاحة من غير بيع وشراء، زي الأكل في مائدة الرحمن والكتب اللي بتترمي في الزبالة، الحاجات دي دايمًا تقدر تطلًّع مصلحة، مثلًا لما الواحد بيشتري الأكل عشان يوزَّعه، أو لما بتاع الروبابيكيا بيبيع الكتب المرمية للكتبجية. طبعًا الاستهلاك له حدود حسب الضوابط والقوانين الناتجة عن تاريخ طويل من الصراعات المجتمعية، ولذلك الناس ما تقدرش تشتري عبيد أو آثار نظريًا (ولو إن الحاجتين بتحصل بالفعل ولهم تاريخ طويل، وفي بعض الأسواق الناس والآثار بتتعرض للبيع والشراء ولها أسعار معروفة ومتداولة).

يعني حتى في حالة الأشياء والبني آدمين اللي مش مفروض يتباعوا ويُشتروا، الأشياء اللي بتحيطنا دايمًا مهيأة لأننا نعتبرها وكأنها متاحة للاستهلاك. الملاحظة دي كانت أساسية في كتابات كارل ماركس عن السلعة والرأسمالية في القرن الـ19، واتبلورت أكتر في كتابات الفيلسوف الماركسي جورج لوكاتش (Georg Lukács) عن التشيؤ، اللي هي فكرة إن العالم بحاله، حتى الغرائز البشرية والتعاملات الحكومية والمشاعر الشخصية، بيتحول للِستة أشياء متاحة للبيع والشراء في النظم الرأسمالية. الاستهلاك في الرؤية دي بيبقى نمط تفاعل اجتماعي شائع، لأن الحياة كلها لازم تدور حوالين استهلاك الأكل والشرب والعربيات والبيوت عشان دورة الإنتاج تشتغل، والناس اللي بتشتغل تعيش وتكمل شغل، والناس اللي بتستثمر ترجَّع مصاريفها وأرباحها.

الرؤية الماركسية دي ما تقدرش تفسر ظاهرة الاستهلاك في المجمل، لأنها بتفترض إن الاستهلاك مرحلة هامشية في دورة الإنتاج. في تصور ماركس، قيمة السلعة بالنسبة للمستهلك بتبقى يا إما في استخدام السلعة نفسها، يا إما في استبدالها بسلع ثانية. يعني قيمة الكتاب هتكون يا إما في قراءته والاستفادة منه، يا إما في الفلوس اللي ممكن يجيبها عشان القارئ يشتري بها حاجات ثانية. الرؤية الثنائية دي محدودة لأن الناس ما بتستهلكش الحاجة لمجرد المنفعة والمصلحة، وإنما كمان عشان تبني علاقات اجتماعية بينها وبين الأشياء وبين بعض. فالكتاب عمره ما كان مجرَّد كلام وورق وبديل للفلوس، إنما دايمًا معرَّض لأنه يكون هدية رومانسية بين حبيب وحبيبته، أو جزء من مكتبة دكتور بيطري بيجمع مجلدات عن الحيوانات عشان يزيِّن عيادته، أو تحفة فنية في إيدين مقتني للكتب النادرة.

يعني الاستهلاك مش مجرد ظاهرة اقتصادية، وإنما هو كمان ظاهرة معنوية ورمزية، ومن أوائل الفلاسفة اللي لاحظت الربط ده كان جان بودريار (Jean Baudrillard) في ثلاثة كتب عنوانهم «منظومة الأشياء» (Le Système des objets) و«نحو نقد لسياسة واقتصاد الدلالة» (Pour une critique de l’économie politique du signe) و«مجتمع الاستهلاك» (La Société de consommation). فكرة الكتب دي إن الأشياء اللي بنستهلكها لها معنى ودلالة بتأثَّر في العلاقات الاجتماعية بعيدًا عن استخدامها أو استبدالها، ولذلك ممكن نفهم الفرق بين إننا ناكل في مطعم كباب وكفتة أو ناكل على عربية فول وطعمية، أو إننا نشتري پیجو بدل ما نشتري مرسيدس، أو إننا نجيب كتاب من مكتبة الأسرة باتنين جنيه بدل ما نجيب كتاب في تاريخ الفن بـ 500 جنيه.

الفروق الرمزية دي في حد ذاتها بتكشف العلاقات الاجتماعية، مش بس لأنها ممكن تبيِّن إزاي ناس في طبقات اجتماعية مختلفة بتستهلك السلع بأشكال مختلفة (زي ما شرح عالم الاجتماع پییر بورديو في كتابه «التميُز» – La Distinction)، وإنما كمان عشان بتبيِّن إن الاستهلاك ما بينتهيش لما الواحد بيشتري السلعة من السوق، لأن الاستهلاك عبارة عن عمر كامل من الأفعال الرمزية والاجتماعية بتتم بعد لحظة البيع والشراء. ده واضح في حالة الكتب تحديدًا، لأن العناية الخاصة اللي الناس بتحطها في اقتناء الكتب، سواء كانت هتقراها أو هتشوِّنها أو هتستخدمها كزينة، بتكشف إلى أي مدى الممارسات الاجتماعية اللي بتتم حولين السلعة أبعد من قيمتها الاستعمالية والاستبدالية.

عالم الإنسان دانييل ميلر (Daniel Miller) كمِّل النقد ده بدون ذكر شغل بودريار مباشرةً، في كتب زي «الثقافة المادية والاستهلاك الجماهيري» (Material Culture and Mass Consumption) و«نظرية التسوق» (A Theory of Shopping) و«راحة الأشياء» (The Comfort of Things). ميلر كان عايز ينتقد النظريات الشائعة عن الاستهلاك في الكتب دي، وشايف إنها جاية من منظور أخلاقي غير موضوعي، زي مثلًا لما خالتك سمية بتشتكي من كمية الشوبنج اللي بتعمله بنتها «الاستهلاكية»، وكمية الهدوم والكريمات والبارفانات اللي بتجيبها، أو لما جدك مدحت يشتكي من العيال «الاستهلاكيين» اللي بيقضوا حياتهم في النوادي والمولات بدل ما يشتغلوا ويشقوا ويفتحوا بيوت بنفسهم. الناس اللي بتشتكي بالطريقة دي بتعتبر إن الاستهلاك حاجة وحشة في حد ذاتها، وإننا ممكن نقيَّم البني آدمين على أساس درجة استهلاكيتهم باعتبار إن فيه ناس «ماديين» أكثر من ناس ثانيين.

في المقابل، دراسة ميلر للاستهلاك بتوضَّح إنها ظاهرة يومية بالنسبة للبشرية في عالمنا الرأسمالي الأكل عيشي، مش بس لأننا لازم نستهلك سلع أساسية عشان نعرف نعيش، وإنما كمان لأن السلع دي لها دور أساسي في تكوين هوية وشخصية البني آدم. فمثلًا الإنسانة اللي بتعتبر نفسها مثقفة مش ممكن تدَّعي الادعاء ده في المطلق، وإنما لازم تبيِّن ده في أفعالها اليومية ومقتنياتها الشخصية بإنها مثلًا تمشي وهي ماسكة كتاب طول الوقت، أو تقضي حياتها بين مكتبة والتانية، أو تزيِّن صالونها بالشعر والقصص والروايات. حسب نوع الكتاب اللي هتمسكه، ونوع الكتاب اللي هتستعيره من المكتبة، ونوع الكتاب اللي هترصه في البيت، الإنسانة دي هتبقى لها هوية وشخصية متميزة. والهوية دي مش حاجة موجودة مسبقًا ومجرَّد بتظهر في الأفعال والممارسات المادية، وإنما بتتكوِّن وبتتأصل عن طريق الأفعال والممارسات دي.

إذن الاستهلاك الرأسمالي بيحوِّل العالم إلى لِستة طويلة من الأشياء المعروضة للبيع والشراء، وبيكوِّن وعي الناس بمعنى الأشياء في المجتمع، وبيأسس البني آدمين اللي بيعيشوا في العالم ده سواء كان طبقيًا أو نوعيًا أو عرقيًا أو بأي شكل له علاقة بالهوية الشخصية. التأسيس ده واضح جدًا في حالة الناس اللي بتشتري حاجات مخصوصة بوصفها «شيك» أو «بلدي»، أو بوصفها «للبنات» أو «للرجالة»، والمعاني دي لها دلالات اجتماعية أكبر من لحظة البيع والشراء نفسها. الدلالات دي مش كافية عشان الواحد يفهم دور الاستهلاك في دورة الإنتاج العامة، وإنما مهمة في إطار إننا نفهم إشمعنى الناس بتشتري حاجات من غير ما تستخدمها أو تبيعها ثاني، لأن الاقتناء في حد ذاته بيكوِّن قيمة شخصية مادية بتأثَّر في تكوين الناس اجتماعيًا.

لذلك اللي بيشتري كتب مش شرط يكون عايز يقراها، إنما بيبقى عايز يدِّي انطباع إنه من نوع الناس اللي بتشتري كتب.


اقرأ المزيد من مقالات شهاب الخشاب: إيه هو الهابيتوس؟