إيه هو الهابيتوس؟

مقال لشهاب الخشاب

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

***

الصورة عن موقع social capital resarach



أنت منين؟ أي واحد جاي من بره القاهرة وبيفتح بقه لأول مرة في العاصمة لازم يواجه السؤال ده، سواء كان جاي من الريف أو من أوروبا أو من الخليج أو حتى من القطامية هايتس. اللي حاسس بالفرق بين المكان اللي رايحه والمكان اللي جاه منه بيجاوب بسهولة، زي ما ناس كثير بتقول ببساطة إنها من سوهاج ومن قنا، أو إنها عايشة في جدة وفي باريس.

ولكن العنف الضمني جوه السؤال بيبان أكثر لما اللي بيرد يبقى حاسس إنه في المكان المضبوط، لما اللي جاي من القطامية هايتس يحس إنه مصري زي الناس الثانية فاشمعنى بيسألوه هو منين، أو اللي جاي من الفلاحين حاسس باحتقار سكان المدينة فمش قادر يستحمل إنهم يفتكروه غريب. في جميع الأحوال، ردود الأفعال دي بتفترض وعي جسدي واجتماعي باللكنة اللي أدت للسؤال، واللكنة بالمعنى ده جزء من الهابيتوس (habitus) حسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بییر بورديو.

في كتاب عنوانه «تصور مبدئي عن نظرية الممارسة»، بورديو نشر ثلاث دراسات ميدانية عن عادات الجواز والشرف والمعمار عند القبائل في الجزائر، وكتب ملحق نظري للدراسات دي عشان يشرح المنهج الجديد اللي كان بيطوّره. بورديو كان عايز يبعد عن نموذجين من شرح المجتمع في العلوم الاجتماعية في وقته. النموذج الأول هو نموذج البنية  (structure)، يعني إن عالم الاجتماع يشرح المجتمع بحاله حسب المؤسسات اللي بتحكمه وبتعيد إنتاجه، زي مثلًا المؤسسة العائلية والمؤسسات الرأسمالية والمؤسسات الحكومية. في النموذج ده، البني آدم مايقدرش يغيَّر أي حاجة في بنية المجتمع ولا يتنفس جواه، لأنه في الآخر مالوش أي حرية شخصية وهيفضل دايمًا ضعيف قدام المؤسسات الكبرى. 

أما النموذج الثاني، فهو نموذج الفردية المنهجية (individualisme méthodologique)، يعني إن العالم يشرح المجتمع بافتراض إنه مكوَّن من مجموعة أفراد بيختاروا مسارهم في الحياة بشكل فردي إلى حد ما، ولذلك لازم نفهم ونأوِّل أفعال الأفراد قبل ما نفهم المجتمعات بشكل أوسع. النظرية دي بتقدم مشكلتين لعالِم الاجتماع، أولًا إنها ما بتعترفش دايمًا بدور المؤسسات الكبرى وقوتها الطاغية في سبيل إنها تبص لأفعال الأفراد، وثانيًا إنها بتأيد الأيديولوجيا البرجوازية الحاكمة اللي بتدعي إن الإنسان منطقي وحر في قراراته وفي مشاعره، ويقدر يعمل اللي هو عايزه بغض النظر عن نوعه الجنسي والعرقي وأصوله الدينية والطبقية وهويته القومية.

طبعاً من واقع الممارسة اليومية، النموذجين لهم حدودهم، لأن من ناحية المؤسسات الكبرى ماهياش ماسكة الدنيا لدرجة إن الناس ما تقدرش تغيّرها (ولولا كده كنا لسة عايشين في عهد المماليك الحقيقيين)، ومن ناحية ثانية مفيش بني آدم يقدر يتخطى جميع مفردات هويته عشان يحقق نفسه إلا في سياق مؤسسي معيّن (ولولا كده كان هيبقى عندنا برلمان نصفه ستات ونصفه رجالة، بيمثِّل جميع الأطياف الدينية والعرقية، وبيحارب عشان حقوق المهاجرين بدل ما يحاربهم هم نفسهم). بورديو قرر يطوَّر أدوات نظرية عشان يشرح المجتمع باستخدام النموذجين دول في نفس الوقت، ومن أهم الأدوات دي هي مفهوم الهابيتوس.

في الحقيقة بورديو ما اخترعش المفهوم ده، لأن أول استخدام له كان في فلسفة أرسطو والفلاسفة الأوروبيين والعرب في العصور الوسطى، اللي كانوا بيسموا الهابيتوس «المَلَكة»، وكان بيستخدمه كمان رائد علوم الإنسان الفرنسي مارسيل موس (Marcel Mauss).  في الاستخدامات الأصلية، الهابيتوس عبارة عن العادات والممارسات الأخلاقية اللي بتخلِّي الإنسان يقدر يتملك نفسه وروحه، يعني مثلاً إنه ما يكدبش وما يشتمش ويلتزم في الصلاة والصيام. في استخدام بورديو، الهابيتوس بقى قدرة مجسدة للتفاعل مع العالم، سواء كان بالكلام أو المشي أو الفرجة أو التذوق إلخ. في تعبيره الشهير، الهابيتوس عبارة عن «بنية مبنية بتبني بنيات بنَّاية»، يعني وضع اجتماعي مترسخ أو مبني جوة جسم البني آدم بيسمح بإنه يتفاعل بأشكال مختلفة وبنَّاية في أوضاع اجتماعية ثانية. 

التفاعلات الجديدة دي بنَّاية بمعنى إنها بتخلق الشروط الاجتماعية اللي بتسمح بتكرار البنيات اللي بتخلق الهابيتوس وبتجديدها بأشكال ما بتبقاش دايمًا متوقعة. فمثلًا هابيتوس الشاب المصري اللي اتربى في القطامية هايتس مرتبط بطريقة مجسدة محددة في الكلام والمشي والتذوق الثقافي، وهتختلف الطريقة المجسدة دي عن طريقة الشابة اللي جاية من المنيا عشان تشتغل في القاهرة. وإذا افترضنا إن الشاب والشابة دول اتقابلوا، ممكن نتخيل نوع التفاعلات اللي بينهم، ونتوقع مثلًا إن الشاب يتعامل بتعالي طبقي مع الشابة أو إنها تفتكره خواجة من كوكب آخر، بس التوقعات دي ممكن تتكسر تمامًا أثناء التفاعل نفسه وتنتج أنماط جديدة في مجرى الحياة الاجتماعية اليومية. لذلك الهابيتوس شيء مرن، ولو إنه متأسس جوه ظروف محددة.

فكرة الهابيتوس واجهت نقد أساسي وهو إن بورديو عمره ما تحرر تمامًا من نموذج بنيوي في كتاباته. في الآخر، الهابيتوس بيتخلق في ظروف محددة جوه المؤسسات الكبرى في المجتمع، ونتيجة التفاعل عبر الهابيتوس بتعيد إنتاج نفس المؤسسات دي. بالتالي فكرة الهابيتوس ما زالت فكرة مجمدة في الزمن، وما تقدرش تشرح إزاي بتتم التحولات التاريخية الجذرية، بما في ذلك تحولات شخصية البني آدم. ولكن نظرية بورديو فتحت تفكير جاد عن علاقة الذات بالمجتمع اللي حواليه، وخاصةً عن الوسيلة اللي بتسمح كل واحد مننا إنه يتشرب بالمجتمع بتاعه جسديًا لدرجة إن الناس تبقى حاسة إنه عنده لكنة أو طريقة مشي أو ذوق معيّنين.

الواحد ما يقدرش دايمًا يحدد الثاني منين، ولكن يقدر يحدد هو ليه مستغربه.