الافتراض: هل كل البنات بتحبك

مقال لشهاب الخشاب

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

***

تشارلز بيرس

إزاي بتظهر الأفكار الجديدة؟ كل واحد مننا حاسس إنه يقدر يبتكر أفكار جديدة بمجرد إنه يفكَّر بنباهة ونزاهة، زي بالظبط الأطفال اللي بيفتكروا إنهم بيكتشفوا الحاجات اللي بيكتشفوها لأول مرة في تاريخ الإنسانية. طبعًا الأطفال دي ما تعرفش إنها في الغالب مرت بنفس المواقف ونفس الظروف اللي الكبار مروا بها، وإن ردود أفعالهم في الغالب هتكرر بعض ردود الأفعال اللي فاتت، وكذلك الشخص اللي بيفتكر إنه اخترع حاجة لأول مرة ما بيبقاش واعي بالناس اللي سبقوه، ولا بإن إحساسه بالجديد مش جديد من أساسه.

نفس المشكلة بتحصل في إنتاج المعرفة العلمية، سواء في العلوم الطبيعية أو العلوم الإنسانية والاجتماعية. العالِم دايمًا معرَّض إنه يكرر كلام اتقال واتعرف قبل كده، ولذلك أول خطوة في البحث الاستكشافي إن العالِم يقرأ كل اللي اتكتب عن موضوعه ويكتب ملخص للأعمال السابقة عشان ما يكررش الأفكار المدروسة المهروسة. برغم كل اللي اتكتب في تاريخ الإنسانية، الواحد برضه بيلاقي أفكار جديدة يقولها، فإزاي بتيجي الأفكار دي؟ حسب الفيلسوف الأمريكي تشارلز پيرس (Charles S. Peirce)، الأفكار دي نتيجة الافتراض (abduction).

پيرس مشهور في الدراسات الأدبية بإنه من أوائل الفلاسفة الأمريكان اللي نظَّروا في علم الدلالة (semiotics). نظرياته مؤسِسة في المجال ده ولغاية دلوقتى، بس اهتماماته في الفلسفة كانت أوسع بكتير من كده. پيرس عمره ما اشتغل شغلانة ثابتة في الجامعة. شغلانته اليومية كان هدفها إنه ياخد مقاسات دقيقة للغاية لمساحة الكرة الأرضية. بالإضافة لأكل عيشه، كان غاوي يقرأ في الفلسفة الأوروبية واللاهوت وعلم النفس، وكتب مجموعة مقالات بيناقش فيها كانط وهيجل وقت ما كانوش أشهر فلاسفة في الوسط الأكاديمي الأمريكي.

بحكم خبرته الشخصية واهتماماته الفلسفية، پيرس كوِّن نظرية معرفية مختلفة عن المنطق الفلسفي الشائع في زمنه، اللي كان شايف إن الأفكار الكويسة بتيجي يا إما بالاستنباط (deduction) أو بالاستقراء (induction)، والفكرتين راجعين لأسس علم المنطق في كتابات الفيلسوف الإغريقي أرسطو. الاستنباط ببساطة إن الواحد يستنتج مجموعة ملاحظات خاصة بناءً على بعض المسلمات العامة. فمثلاً إذا قُلنا إن:

كل البنات بتحبك

كل البنات حلوين

وبعد ما تتمشي شوية في الشارع تلاقي إن:

البنت دي اسمها سعاد

لازم تستنتجي من كده إن سعاد بتحبك وإنها حلوة، بما إن المسلمات العامة بتودّيكي مباشرةً للنتائج الخاصة دي. طبعًا مشكلة الاستنباط إنه نوع من التفكير المنطقي اللي مالوش أي صلة بالواقع اللي احنا عايشينه. بالتحديد، مفيش طريقة استنباطية بحتة عشان نتأكد إن المسلمات اللي بيبدأ منها التفكير صحيحة، إلا في مجالات متخصصة زي الرياضيات مثلًا. يعني بالمنطق الاستنباطي البحت، الواحد مضطر يستخرج بعض النتائج من المسلمات المطروحة أيًا كانت جدواها أو حقيقتها، وده طبعًا ما يُعتمدش عليه في حد ذاته في العلوم الحديثة.

في القرن الـ 19 ولغاية النهارده، معظم العلماء بيتصوَّروا إن الأفكار الصحيحة بتيجي بالاستقراء عكس الاستنباط، يعني ببساطة إن الواحد يستنتج مجموعة مسلمات عامة بناءً على ملاحظات وخبرات خاصة. فمثلاً إذا قُلنا إن:

1. سعاد بنت

2. سعاد حلوة

3. سعاد بتحبك

نقدر نستنتج من الملاحظات دي إن:

4. بعض البنات بتحبك

5. بعض البنات حلوين

عشان نقدر نعمم الملاحظات الدقيقة دي، لازم نتأكد إن فيه بنات تانية بتحبك وبنات تانية حلوين، غير سعاد تحديدًا، فلازم نروح نسأل سارة وبسمة ومايا ومنة وبسنت ونسرين إذا كانوا بيحبوكي، ونشوف إذا كانوا حلوين، ونستنتج من كده إن كل البنات لغاية دلوقتي بتحبك، وكل البنات لغاية دلوقتي حلوين. ولما الواحد يقابل زينة وتقول إنها لا بتحبك ولا حلوة، في الحالة دي لازم نعترف بإن المسلمات العامة ما كانتش صحيحة أساسًا، ونبدأ ندوَّر على مسلمات ثانية بتوصف البنات عمومًا بشكل أدق.

المنطق الاستقرائي البحت هو الشائع في التفكير التقليدي عن تاريخ العلوم. حسب المنطق ده، أفكارنا عن العالم بتتقدم لما العلماء يدرسوا الظواهر الطبيعية والاجتماعية واحدة واحدة، عشان يستخرجوا منها نتائج متسجلة ومتوثقة ومؤكدة. التفكير ده راجع لمدرسة نقدر نسميها «الوضعية» (positivism)، المرتبطة بفلاسفة زي كارل پوپر (Karl Popper) وأوجوست كونت (August Comte). الفلاسفة دول كانوا شايفين إن العلم الحقيقي هو اللي بيتقدم تاتا تاتا، خطوة خطوة، من سارة لبسمة لمايا لمنة، ولازم ندرس وضع كل واحدة منهم لحد ما نلاقي زينة وغيرها بيثبتوا إن القاعدة خاطئة، وبالتالي نقتنع إننا لازم نغيَّر تصوراتنا العامة عن العالم من أول وجديد.

المدرسة الوضعية بتقابل مشكلتين رئيسيتين: أولًا إنها مالهاش علاقة بالتاريخ المادي الفعلي للعلوم، لأن التاريخ ده مش خطِّي وموَّحَد وماشي ببساطة من الإبرة للصاروخ، وإنما هو تاريخ متقطع ومتعدد وماشي حسب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية. يعني اللي خلَّى قدماء المصريين يوصلوا للتفكير العلمي بتاعهم مش نفس التطور اللي خلَّى العلم يوصل للنقطة اللي هو فيها حاليًا في إيطاليا وفرنسا والهند واليابان، لأن الصلة بين البلاد دي وتواريخها متقطعة وبعض العلوم اختفت منها، أو اكتُشفت حديثًا، أو ظهرت بعد غياب طويل.

المشكلة التانية في المدرسة الوضعية إنها ما بتشرحش إزاي بتظهر الأفكار الجديدة تاريخيًا، لأنها شايفة إن العلم مبني بشكل تدريجي على مجموعة ملاحظات وخبرات خاصة. لذلك لو الواحد ما عندوش ملاحظات أو خبرات مباشرة، ما يقدرش يخترع حاجات جديدة بالمنطق الاستقرائي البحت. المنطق ده يمكن يوصف نوع الشغل العلمي اليومي اللي كان بيعمله پيرس في تحديد مساحة الأرض، وكل يوم يغطي حتة زيادة، مرة واتنين وتلاتة، عشان يتأكد إن المقاس مضبوط. ولكن إزاي نقدر نشرح الطفرات الفكرية الكبيرة اللي بتحصل في تاريخ العلوم، زي مثلًا اكتشاف إن الأرض كورة أو اختراع نظرية النسبية في الفيزياء؟ في الحالتين، النظريات ما ظهرتش من مسلمات عامة في المطلق، ولا ظهرت من مجموعة ملاحظات دقيقة (بما إن الأدوات اللازمة عشان نلاحظها ما كانتش موجودة من أساسه)، وإنما نقدر نقول زي پيرس إنها ظهرت بالافتراض (abduction).

في بدايات حياته الفكرية، پيرس كان بيسمي الافتراض ده «الاستدلال الافتراضي» (hypothetical inference)، اللي هو ببساطة إن الواحد يوصل من بعض الملاحظات الخاصة والمسلمات العامة لافتراض جديد. فمثلًا إذا لاحظنا إن:

1.
سعاد بتحبك

وسلمنا بإن:

2. كل البنات بتحبك

نقدر نفترض إن سعاد بنت. بالمنطق الاستنباطي البحت، ما نقدرش نكوِّن الافتراض ده، لأن يمكن سعاد ما تكونش بنت وبرضه تحبك عادي. وبالمنطق الاستقرائي البحت، مش هنقدر نتأكد إن سعاد بنت إلا إذا عدينا على كل السُعادات الثانية عشان نتأكد إنهم بنات. ولكن بالمنطق اليومي البسيط، افتراض إن سعاد بنت بيخلّينا نصرف مجهود فكري بسيط عشان نلاقي فكرة ما كانتش موجودة في المعادلة الأولى، يعني إن سعاد دي يمكن تكون بنت، وده طبعًا غير إن الواحد عنده مخزون ثقافي بيخلّيه يربط فورًا بين اسم «سعاد» ومجموعة «البنات»، وبالتالي بيزوِّد مصدقية الافتراض ده بشكل عملي.

في كتاباته اللاحقة، پيرس حوّل تفكيره المحدود في مفهوم «الاستدلال الافتراضي» إلى مفهوم أوسع. پيرس كان مشغول جدًا بأمثلة نظرية زي سعاد وزينة في الأول، ولكن لاحقًا اهتم بالافتراض كنوع من الغريزة الطبيعية عند البني آدمين (بمعنى إن أي واحد فينا عنده جينات الافتراض) أو كنوع من التفكير المنطقي العملي (بمعنى إن أي واحد يقدر يبني تصورات افتراضية بناءً على ملاحظات ومسلمات جزئية). التصور الافتراضي مش شرط يكون صحيح في حد ذاته، وإنما هو خطوة أولية في عملية إنتاج المعرفة. هنا الافتراض ما بيبقاش مجرد لحظة التفكير في الحاجة الجديدة، وكأن لمبة بتنوَّر زي في أفلام الكارتون، وإنما أول خطوة في ظهور فكرة جديدة كويسة هتتراجع لاحقًا بالاستنباط والاستقراء.

الخطوة دي مهمة لسببين: أولًا لإن العالِم ما عندوش وقت الدنيا والآخرة عشان ينتج المعرفة، وكل العلماء محدودين ماديًا في وقتهم وفلوسهم ومجهودهم، وبالتالي لازم يلجأوا لافتراضات تخلّيهم يتخطوا العوامل المادية دي في سبيل إنهم يبدأوا البحث من نقطة أبعد شوية من المسلمات الوهمية عن البنات أو الرصد اللا متناهي لسارة وبسمة ومايا ومنة مثلًا. ثانيًا، العالِم عمره ما بيبدأ اكتشافاته الجديدة من نقطة الصفر، وكأن خبرته الشخصية والعملية ما بتأثَّرش في اختياراته ورغباته العلمية. بالعكس، العالم دايمًا شغَّال في إنتاج أفكار بتفسَّر الأسئلة اللي عنده، سواء طلعت صحيحة أو غير صحيحة بعد المراجعة النظرية والمنهجية. يعني اللي عايز يدرس الكون بشكل علمي لازم يبدأ من افتراضات جزئية، البعض منها شخصية وغرائزية والبعض منها نتيجة معرفة نظرية وعملية، ويراجع الافتراضات دي باستخدام المنطق والمناهج العلمية المتاحة عشان يتأكد بعد تطور طويل إن أفكاره صحيحة.

بعض الفلاسفة الحاليين بيقولوا إن الافتراض عبارة عن عملية «استدلال أحسن شرح» (inference to the best explanation)، يعني ببساطة إن الافتراض بيشرح دوافع وأسباب ظاهرة مطروحة وغير مفهومة بأفضل فرضية ممكنة. في رأيي، الوصف ده مش دقيق لأن الافتراض مش ماكينة صناعة أفكار جديدة وكويسة وخلاص، وإنما هي قدرة بشرية بتسمح باختراع أنسب أفكار لشرح مسألة محددة بناءً على حدود مادية وعلمية محددة. لذلك لما ألبرت أينشتاين اخترع النظرية النسبية مثلًا، الاختراع ده ما كانش أفضل حاجة تحصل في الفيزياء من بابها (بما إن افتراضه كان لازم يتراجع ويتأسس بشكل منطقي ومنهجي حتى لسنين بعد وفاته)، وإنما كان أنسب افتراض لشرح ظواهر الكون بناءً على معرفته الجزئية به. يعني الأفكار الجديدة ما بتظهرش جاهزة للاستهلاك والفشخرة، وإنما هي دايمًا مُعرّضة للشك وللمراجعة، والافتراض هيفضل شغّال طول ما نقدرش نشرح ظواهر الكون، من أول الكواكب للحب للي خلّى سعاد تبقى بنت.