قصتان من كتاب «بابا ياجا»، وهو كتاب يحتوي على قصص من الأدب الشعبي الروسي.
الكتاب من تأليف ألكسندر نيكولاييفيتش أفانسييف (1826-1871)، وهو كاتب ومؤرخ روسي ومن أعلام الإثنوجرافيا، نشر ما يقرب من 600 حكاية خيالية وروسية شعبية، حتى صارت المجموعة التي نشر بها ما جمعه من مختلف الأقطار الروسية، واحدة من أكبر مجموعات الفلكلور في العالم.
ترجمة عن الروسية: رولا عادل
الكتاب صدر عن دار نشر «كتوبيا»، وحصل على جائزة أفضل كتاب مترجم للطفل لعام 2018 عن الهيئة المصرية العامة والمركز القومي للترجمة.
* تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.
***
بابوشكا[i]
في زمن بعيد بعيد.. في أقصى البلاد الروسية الباردة عاشت سيدة عجوز طيبة، تُدعى «بابوشكا».
كانت «بابوشكا» وحيدة للغاية، تعيش في كوخ صغير يُشرف على مفترق طرق ولم تملك يومًا صديقًا ولا جارًا ولا حتى عائلة.
في ذات يوم ارتدت «بابوشكا» مئزرها وبدأت في تنظيف البيت، تجتاحها كآبة الشتاء والصوت العاصف للرياح بالخارج. باقتراب الغروب كان على «بابوشكا» الانتهاء سريعًا من عملها بالمنزل؛ فلم تكن تستطيع تحمل الكُلفة العالية للعمل على ضوء الشموع. كان ذلك حتى سمعت أصواتًا تتحدث بالخارج وتقترب نحو منزلها أكثر فأكثر، ورغم رهبتها من الأصوات الغريبة، تمنت «بابوشكا» الحصول على رفقة طيبة في هذه الليلة الباردة، وعليه عندما سمعت طرقًا حثيثًا على الباب هرعت لتفتح. كان الزائرون ثلاثة من الرجال تبدو عليهم هيئة الملوك؛ تزين رؤوسهم تيجان ضخمة وتلمع الجواهر على دروعهم كشعاع الشمس. استطاعت "بابوشكا" بصعوبة التطلع إلى الرجال الذين توحد مظهرهم تقريبًا بمعاطفهم من الفراء الأبيض وجِمالهم الضخمة بسنامها البيضاء والثلج الناصع في الخلفية خارج المنزل.
تطلع الرجال الثلاثة إليها في عطف وقال أحدهم «سيدتي الطيبة هل يمكنك أن تستضيفينا لليلة واحدة؟»
أجابتهم «بابوشكا» إلى طلبهم وقدمت لهم شيئًا بسيطًا من الطعام قدر ما حَوَت خزانتها، وعلى العشاء جرى بينها وبينهم الحديث عن وجهتهم.
«أتينا من الشرق ونحن ذاهبون إلى بيت لحم، سمعنا عن طفل وُلد له شأن عظيم، ونبغي التأكد من الأمر، يمكنك بالطبع أن تأتي معنا وتنعمي بالصحبة الطيبة والخير الذي سيعم البلاد بمولد الطفل المبارك». هكذا قال أحد الرجال.
أجابت «بابوشكا» في تردد «لا أعلم عن هذا. إنني آمنة هنا، كما أنني ما يزال لدي عمل كثير في المنزل عليّ أن أنهيه، لا أستطيع، ربما كانت مسافة طويلة».
في صباح اليوم التالي ودَّع الرجال الثلاثة «بابوشكا» مكررين عرضهم السخيّ لها بمرافقتهم ولكنها عادت لترددها مجددًا، ورفضت متعللة بالعمل الكثير داخل المنزل وكثرة الثلوج التي عليها أن تزيحها عن مدخله.
عندما حلَّ الليل وفرغت «بابوشكا» من أعمال المنزل، وما تردد في البيت إلا صوت الوحدة ترافقه الأصوات العاصفة لرياح الشتاء العاتية، فكَّرَت «بابوشكا» حينها في عرض الرجال الثلاثة وندمت كونها قد رفضت صحبتهم واختارت الوحدة، فعزمت أمرها على أن تتبعهم، وتذكرت حين سألت أحدهم عن الطريق إلى بيت لحم وكيف سيصلون إلى هناك؛ أخبرها الرجل آنذاك «سنتبع النجوم في السماء، هي ترينا الطريق».
خطت «بابوشكا» خارج المنزل متدثّرة بمعطفها الرثّ الوحيد وقد ملأت جيوب مئزرها بالكثير من قطع الحلوى لتمنحها للطفل المبارك.
تتبعت «بابوشكا» النجوم وزارت العديد من البلاد باحثة عن الطفل الذي أخبرها عنه الرجال الثلاثة، وما سمعت عنه خبر ولا لمحت للرجال أثر، وعلى مرّ السنين الطوال ظلَّت «بابوشكا» تجوب المدن بعزيمة لا تنفد وتقترب من كل طفل تقابله يحذوها أمل أن تكون قد وجدت الطفل المبارك أخيرًا، ثم يخيب أملها مرة بعد المرة، ولكنها في كل مرّة كانت تبتسم في حنو لكل طفل، قبل أن تبتعد وتعطيه بعضًا من حلواها وتعود إلى رحلتها قاصّة على الجميع حكايتها القصيرة التي لا تُمَل عن الفرص الضائعة في الحياة.
الفتاة ذات السبعة أعوام
كان يا ما كان.. أخ غني وأخ فقير، وفي حين امتلك الأخ الفقير فرسًا جامحة، كان حصان الأخ الغني مستأنسًا وأكثر هدوءًا.
في ذات يوم زحفت فرس الأخ الفقير تحت عربة الأخ الغني ووضعت مُهرًا صغيرًا، انبهر به الأخ الغني حين رآه صباحًا، فذهب من فورِه إلى بيت أخيه الفقير وقال له:
«استيقظ يا أخي، لقد وضعت عربتي ليلًا مُهرا صغيرًا».
أجابه أخوه: «كيف لعربة أن تلد مُهرًا؟ لا بد أنه وَلد فَرَسي أنا».
برر الأخ الغني: «إن كانت فرسك هي من وضعت المُهر، فكان يجدر به أن يكون هنا في الصباح لا تحت عربتي».
تجادل الاثنان وقررا اللجوء للقضاة، دفع الأخ الغني الكثير من الأموال للقضاة ليستميلهم، ولكن الحق كان في صف الأخ الفقير، ولذلك رُفعت القضية إلى القيصر ذاته.
امتثل الأخوان بين يدي القيصر، الذي قال لهما: «هل تعلمان ما هو أسرع ما على الأرض؟ وما هو الأثقل؟ وما هو الأنعم؟ وما هو الألطف؟»
وأكمل القيصر حديثه: «أمنحكما ثلاثة أيام للتفكير في حل الألغاز الأربعة، وفي اليوم الرابع أنتظركما ليقدم كلّ منكما الحل والتفسير».
انصرف الأخوان، وجلس الأخ الغني يفكر فيما عساه يفعل، فتذكر عرّابته العجوز الحاذقة فتوجه إليها على الفور.
استقبلته العرّابة وقدمت له بعض الشراب وسألت: «ما بالك يا عزيزي؟»
«لا شيء، إنني أفكر فقط في ألغاز القيصر الأربعة والثلاثة أيام المهلة النهائية التي منحها لنا». أجاب الأخ الغني.
- ما هي الألغاز الأربعة؟ هات الأول.
- الأول هو: ما الأسرع في العالم؟
- آه، إنه للغز عجيب، ولكن.. لدينا حصان سريع للغاية، لا يوجد أسرع منه على الأرض، حينما يُلهب زوجي ظهره بسوطه لا يستطيع أسرع الارانب البرّية اللحاق به.
- اللغز الثاني؛ ما هو الأثقل على الأرض؟
- بالقياس، فإنني أظن أن أثقل ما على الأرض هو خنزيرنا البرّي، إننا نطعمه ونطعمه حتى إنه لا يستطيع رفع قدميه عن الأرض.
- اللغز الثالث؛ ما هو الأنعم على وجه الارض؟
- هذا سهل، سرير الريش، لم يصنع أحدًا حتى الآن ما هو أنعم منه.
- اللغز الرابع، ما هو الألطف؟
- حفيدي إيفانوشكا هو الألطف على ظهر البسيطة.
- شكرًا لك يا عرابتي، لقد علِمت أنك الأذكى من بين جميع معارفي، لن أنساكِ أبدًا.
وبينما خرج الأخ الغني بعد زيارته سعيدًا، كان الأخ الفقير يبكي بدموع الحسرة في بيته، حزنت ابنته ذات السبعة أعوام لمرآه وسألته: «هل تبكي يا أبي العزيز؟»
«وكيف لا أبكي يا بنيّة؟ لقد منحني القيصر مهلة ثلاثة أيام لأحلّ ألغازًا أربعة». ردّ الأب.
- وما هي الألغاز الأربعة؟
- ما هو أسرع ما على الأرض؟ وما هو الأكثر ثقلًا؟ وما هو الأنعم؟ وما هو الألطف؟
- حسنًا، عندما تذهب للقيصر اخبره أن الرياح هي أسرع ما على الأرض، والأرض هي الأثقل؛ فما زالت تحمل نباتات تنمو وكائنات تولد منذ بدء الخليقة. أما الأنعم فهي يد الإنسان حين يضع عليها رأسه ليرتاح وليلاقي ألطف شيء في الحياة وهو النوم بعد يوم طويل شاق.
ذهب الأخوان إلى القيصر الشاب وعرض كلّ منهما رؤيته في حل الألغاز، استمع القيصر إلى الأخ الفقير وقال له: «من أخبرك بحلول هذه الألغاز؟»
«ابنتي الصغيرة ذات السبعة أعوام يا سيدي»، رد الأب
«حسنًا! إن كانت ابنتك بهذا الذكاء؛ هاك بضع خيوط من الحرير، سلمها لها واخبرها أنني أنتظر منها أن تصنع لي منها مفرشًا في الصباح».
عاد الأخ الفقير إلى بيته يكاد ينفطر من الحزن وكعادته شكا إلى ابنته: «لدينا مشكلة أخرى يا بنيّة، لقد أعطاني القيصر قليلًا من خيوط الحرير وطلب مني أن نصنع له منها مفرشًا في الصباح».
قالت الابنة: «لا تقلق يا أبتي، اكسر قشة صغيرة من المكنسة وقدمها له واخبره إن كان يستطيع أن يحوِّل هذه القشة إلى مغزل، فسأكون سعيدة لأغزل له بواسطته المفرش المطلوب من خيوط الحرير المعدودة».
أوصل الأب الرسالة، وحينها فكّر القيصر وقال له: «هاك مائة وخمسون بيضة، اخبر ابنتك أنني أريد أن تجعلهم مائة وخمسين دجاجة في يوم واحد».
عاد الأخ الفقير إلى بيته ينعي حظه العثر وكثرة الألغاز التي لا بد يومًا ستهلكه.
«يا بنيّة، لدينا مشكلة كالعادة». وقصّ عليها طلب القيصر.
أخفت الابنة البيض بالمنزل وجلست وأبيها على مائدة العشاء وقالت لأبيها: «اخبر القيصر أن الدجاج يحتاج للعلف وحبوب الذرة، وإن كان يستطيع زراعتها؛ أي بذرها ثم حرثها وحصدها في يوم واحد، فسأجلب له الدجاج الذي طلبه ليأكل ما حصده».
أوصل الأب الرسالة كالعادة، وردّ القيصر الشاب من بين ابتسامته: «يبدو أن ابنتك ذكية فعلًا، اخبرها أنني انتظرها غدًا في القصر، لتأتي إليَّ لا راكبة ولا ماشية، لا كاسية ولا عارية، ولتمنحني هدية ولا تعطيني شيئا».
كعادتها أجابت الابنة: «لا تقلق يا أبتي! اذهب إلى البلدة واحضر لي سمانًا وأرنبًا ضخمًا».
نفَّذ الأب، وفي اليوم التالي، وصلت الابنة إلى القصر، خلعت جميع ثيابها ولفَّت على جسدها في طيّات عديدة شبكة صيد، وقطعت المسافة تستند بإحدى قدميها على الأرض وتضع قدمها الثانية على ظهر الأرنب، وما إن وصلت القصر حتى انحنت في خشوع أمام القيصر وسلَّمته طائر السمان: «هاك هديتك يا مولاي».
ما إن مدّ القيصر يده حتى أفلتت الفتاة الطائر فطار نحو السماء ولم يعد.
ابتسم القيصر إذ أوفَت الفتاة بجميع الشروط، وقال لها «إذن أخبريني، إن كان أبوكِ فقيرًا، فمن أين تعيشون؟»
قالت الفتاة: »هذي التي أرتديها هي شبكة والدي، يدفعها حيث البحر الجاف ويصطاد من على شاطئه سمكًا، يحمله إليَّ وأطهيه ونأكله».
استنكر القيصر: «وهل يعيش السمك في بحر جاف يا فتاة؟»
ردّت الابنة: «وهل تلد العربات أمهارًا يا مولاي؟»
أعجب القيصر ردّ الفتاة ومنحا المُهر الذي عادت به إلى أبيها في سعادة، وانتظرها القيصر الشاب حتى شبّت وصارت فتاة لطيفة وطلبها للزواج انبهارًا بذكائها وبرها بأبيها.
[i] يأتي «رجل الثلوج العجوز» مُعادلًا لشخصية «بابا نويل/ سانتا كلوز» في التراث الروسي، وتأتي «بابوشكا» في بعض الحكايات كمساعدته المخلصة بينما تتجلّى في حكايات أخرى كمانحة الهدايا نفسها حيث تظهر في المدينة وقت أعياد الميلاد وذكرى ميلاد السيد المسيح ـوهو الطفل المبارك المُشار إليه في القصة- وتمنح الأطفال الطيبين واللطفاء الحلوى والهدايا. المترجمة