أصداء مايو | الميراث المراوغ لمايو

*دانييل كوهن – بنديت

عن جريدة لو فيجارو - 16 مايو 2008

ترجمة: أحمد حسان

*دانييل كوهن – بنديت كان أحد زعماء الطلبة في ثورة مايو، التحق بعدها بالعمل السياسي وهو عضو سابق بالبرلمان الأوروبي.

خاص بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

Student leader Daniel Cohn-Bendit raises his arm for silence to allow poet Louis Aragon to talk to students on a megaphone.
Courtesy of Serge Hambourg

«داني، ما حقَّقتَه استثنائيٌ. لكن لا تترك نفسك لتجنّدك تلك القوى اليسارية التي ستؤدي بك إلى تدمير كل ما يمكن، اليوم، أن يولدَ مما تقومُ بخلقه» بعد أربعين عاما، ما زالت صائبةً تلك الكلمات التي خاطبني بها جان بودريّار Jean Baudrillard يوم 22 مارس 1968.

مخاطراً بأن أُخيِّب أمل المعجبين وأولئك الذين يتحرّقون لـ«الثورة»، لستُ زعيم ثورةٍ ما، كان يمكن أن تنتُج عام 1968. والأسوأ: Forget it! انسوها! «68 انتهت!»

للوهلة الأولى يمكن لهذا أن يُربِك. في حواري مع جان ـ بول سارتر المنشور في النوفل أوبزرفاتور، أوضحت له بالفعل أنني لست سوى «الناطق ـ الأسمى» باسم تمرّد. 1968 تُحدِّد إذن نهاية الميثولوجيات الثورية لصالح حركات التحرر التي ستمتد من أعوام السبعينات حتى الآن، بكونها أول حركةٍ ذات اتساعٍ كوكبي ينقلها الراديو والتلفزيون مباشرةً، فإن عالم أعوام الستينات هو عالم تنوُّعٍ من التمردات المترابطة.

عمِل تحوُّلُ «68» في المقام الأول على الثقافة التقليدية، والأخلاقيات السائدة، ومبدأ السلطة الرأسية. أثَّر في الحياة المجتمعية، في نمط الوجود، والتحدّث، والحب… ورغم اتساع الحركة، ظلت بعيدةً عن العنف لتَستهِلَّ شكلًا جديدًا من التحريض. كان لكلٍ من الطلبة، والعمال، والعائلات مطالبهم الخاصة لكنهم تلاقوا جميعًا في رغبةِ انعتاقٍ واحدة.

شارك التمرد في التعبير السياسي، لكن لم تكن غايته الاستيلاء على السلطة. وفي الواقع، جعلته طبيعتُه الوجودية «غيرَ قابلٍ للترجمة سياسيًا». بالضرورة، انسابت رغبةُ الحرية التي حملت الحركةَ فوق كل مقولات الفكر العتيقة. وبالتالي لم يعد للمقولات العقيمة للتقاليد السياسية أيّ تأثيرٍ على الأحداث.

في فرنسا، على اليمين مثلما على اليسار، بلغت نزعة المحافظة حدَّ أن أحبطت المعنى ذاتَه لترتد إلى تفسيراتٍ ثوريةٍ نمطية. وبالنسبة للأناركيين، فإن يوتوبياهم الخاصة بالإدارة الذاتية المُعمَّمة المُرتَّبة في مراجع تاريخيةٍ عفا عليها الزمن بدت كذلك غير ملائمة. من الرفض الأوَّلي للمؤسسات السياسية وللنزعة البرلمانية، أدركنا، لكن بعد فوات الأوان، أن التحدّي الديموقراطي يكمن في الاستثمار في فضاءٍ سياسي «مُطَبَّع».

مقابل الأناركيين المقتصرين على أجروميتهم السياسية التلخيصية لشعارهم الشهير «الانتخابات، شِراكُ الحمقى» والحزب الشيوعي الذي تناظرُ مُثُلهُ الثورية، في نهاية المطاف، نماذجَ شمولية للمجتمع، لم يكن يمكن لتوابع مايو سوى أن «تتناثر بددًا»virer au bleu مع انتصار الجنرال ديجول في الانتخابات.

لم يكن الإخفاق السياسي يقبل الجدل. كما لا يقبل الجدل أيضًا مع ذلك، الزلزالُ الذي نتج عند مستويات المفاهيم السابقة على الطوفان للمجتمع، والأخلاق، والدولة. بمهاجمة النزعة السلطوية، ولَّد التمرد انفجارًا في قلب بنيةِ السلطة الثنائية الرأس الفرنسيةِ نمطيًا التي تقيم تحالفًا بين ديجوليةٍ مسيطرة وحزبٍ شيوعي يدير شؤون الطبقة العاملة. وانتهت جذرية التفجُّر إذن بإيجاد متنفَّسٍ للذة العيش.

وبديهيٌ أن البعض لم يفلحوا ابدًاً في تجاوز نهاية نشوة تلك الأسابيع الخمسة من الجنون والبهجة، بينما يتوقع آخرون أن تفلح «68» في بلوغ ذروتها في ما لا ندريه من«حفلٍ عظيم». أما أنا فقد اتخذتُ منذ زمنٍ بعيدٍ ودون حنينٍ «مبدأ الواقع» دون أن أقلِّل رغم ذلك من اتساع مدى ما جرى. لأن 68 كانت في الواقع والحقيقة تمردًا مفصليًا بين حقبتين. قامت تلك اللحظة بدور صدعٍ في أغلال النزعة المحافظة والأفكار الشمولية لتُطلِق التعبير عن الرغبة في الاستقلال الذاتي والحرية الفرديين والجماعيين. لقد ربحنا، ثقافيًا.

إذن، العودة إلى 68… نعم، لكن لفهمها، لإدراك مداها واستخلاص ما يظل له معنى اليوم. لكن هذه العملية لا تُجيز أية مقارنةٍ متعجّلة، وأقل من ذلك استيعابَ أدنى فورةٍ للرد على 68. فخلال أربعين عامًا، تغيّر السياق بصورةٍ جذرية. خمد عالمُ الحرب الباردة كله مثل المدارس والمصانع إزاء غوايات الثكنات، والبنيات النقابية السلطوية. وبدل ذلك العالم وفي مكانه، جاء عالمٌ مُتعدِّد الأطراف يجده المرء مع الإيدز، والبطالة، وأزمات الطاقة والمناخ، إلخ. لنترك إذن للأجيال الجديدة العناية بتحديد معاركهم ورغباتهم الخاصة.

رفعُ الستار عن 68، يعني في النهاية نزعُ القناع عن التضليلِ الذي يريد أن ينسِب إليها كلَّ شرور هذا العالم. لأن جيل 68 كتب على الجدران «ممنوع المنع»، سيكون مسؤولًا عن العنف في الضواحي، عن النزعة الفردية المتفاقمة، عن أزمة التعليم، عن «المظلات المذهّبة»، عن تدهور السلطة، ولم لا، طالما بلغنا هذا المدى، عن ارتفاع درجة حرارة الكوكب!


اقرأ المزيد عن ثورة مايو: مايو 1968 للمبتدئين