أيها السائر ليس ثمة طريق:  مختارات من أنطونيو ماتشادو

ترجمة: طه زيادة

خاص بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة
الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذنه منه.

***

عن culturamas

يعتبر أنطونيو ماتشادو واحدًا من أهم شعراء إسبانيا في العصر الحديث، ليس لانتمائه إلى أجيال من الشعراء العظام مثل جيل 1898 الذي يضم خوان رامون خيمينيث ورامون ديل بايي انكلان؛ وريادته على جيل 1927 الذي ضم شعراء مثل جارثيا لوركا ورفائيل ألبرتي وميجل إيرناندث وليون فيليبي وغيرهم من رموز الشعر الإسباني، بل لأنه ببساطة كتب أنشودته للناس، عَبَّر عن همومهم وآلامهم، أحلامهم وبساطتهم، صدقهم ونقاءهم، كما فضح زيف وادعاء القيم الطبقية البالية، والقيود الوهمية التي تكبل الإنسانية.

وُلد أنطونيو ماتشادو رويث في 26 يوليو 1875 في مدينة أشبيلية الأندلسية التي تنفست حقولها وربوعها وآثارها من خلال أبيات قصائده الثرية، والتي لم يُكتب له القدر أن يوارى الثرى بها، بل كما تنبأ تمامًا في إحدى قصائده، في بلد مجاور، مشردًا مطاردًا، من قبل قوات فرانكو الفاشية التي انتصرت على الجمهوريين، حيث وافته المنية ببلدة كوليور الفرنسية في 22 فبراير عام 1939.

وجد ماتشادو هو وأبناء جيله أنفسهم محاصرين بنكبة 1898 حين فقدت إسبانيا كوبا، آخر مستعمراتها في الأمريكتين على يد الأمريكان، لتتحول من إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس إلى بلد فقير مهزوم في ذيل أوروبا، فبدأ يبحث عن أسباب هذا الانهيار وما ترتب عليه من إحباطات نفسية وانكسارات.

أسس مع زملاء آخرين ما يُعرف بجيل 1917، الذي قاد حركة استرداد الحس الشعبي، كرد فعل ضد الأوضاع المتردية سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، بعدما خسرت إسبانيا ثقلها الإستراتيجي في العالم. بخلاف موقف بعض أعضاء الحركة المؤمنين بأهمية أن يكون الاسترداد من خلال روح الهيمنة الإسبانية على القارة العجوز، وهو التوجه الذي دافع عنه الفيلسوف الكبير ميجل دي أونامونو، مقابل موقف ماتشادو ورفاقه الآخرين، المؤيد لفكرة أن ينبع الاسترداد من المحلية كصيغة جديرة برد الاعتبار إلى الذات الإسبانية الجريحة.

اضطر إثر اندلاع الحرب الأهلية (1936-1939)، وبسبب موقفه المؤيد للجمهوريين، للفرار هو وعائلته من مدريد، إلى فالنسيا (جنوب شرق)، واستمرت رحلة الهروب من مدينة إلى مدينة حتى وصل إلى برشلونة معقل الجمهوريين، ومنها فر إلى فرنسا عام 1939، بينما كانت قوات فرانكو تُحكم سيطرتها على العاصمة، وانتصارها الساحق في الحرب. توفى ماتشادو في نفس العام بمدينة كوليور جنوب فرنسا، ولحقت به أمه بعد ثلاثة أيام، والتي كانت تصاحبه في السفر.

اشتُهر بفلسفته في قضايا في منتهى التعقيد والأهمية مثل قضية «الجبر والاختيار» ومصير الإنسان وعدم كمال الإنسان. كان ماتشادو يعبر في أشعاره عن تلك الأفكار أو يستخدم شخصية مسرحية أو البطل لينقل أفكاره للمشاهدين، وهو ما أدى إلى تعرضه للنقد بصورة دائمة.

طه زيادة


المسافر

في حجرة المسافرين، الظليلة،
كان الشقيق المحبوب، بيننا،
والذي رأيناه في حلم طفولي ذات نهار صحو
يرحل إلى بلد بعيد.

أصبح اليوم أشيب الفودين،
خصلة رمادية فوق الجبين الضيق؛
ويكشف القلق البارد لنظراته
عن روح معظمها غائب.

تساقطت أوراق زهور الخريف
بالحديقة الذابلة القديمة.
يرتسم المساء، خلف الزجاج الغائم،
في أعماق المرآة.
يضيء برقة وجه الشقيق.

هل لخيبات الأمل اليانعة
الذهبية عند هبوط المساء؟
هل لهفًا على حياة جديدة في سنوات جديدة؟
هل سيأسف على الشباب الضائع؟
ماتت –الذئبة البائسة-  بعيدًا.
هل يخشى الشباب النقي الذي لم يعشه،
أن يضطر للغناء أمام بابه؟
هل سيبتسم لشمس من ذهب،
لأرض حلم لم يُعثر عليه؛
ويشهد مركبه تشق البحر الهائج،
بشراع أبيض مملوء بالريح والنور؟

لقد رأى أوراق الخريف،
الصفراء، تتدحرج، أغصان
الكافور العطرة، بساتين الزهور
التي تزدهي بزهورها البيضاء..

وهذا الألم الذي يتلهف أو يرتاب
في رعشة دمعة يحبسها،
وبقية من نفاق ذكوري
ينطبع على المحيا الشاحب.

لا يزال بورتريه جاد يتألق
على الحائظ. نشرُد.
تضرب دقات الساعة
حزن المنزل: نصمت جميعًا


قطعت دروبًا كثيرة

قطعت دروبًا كثيرة،
خضت مسارات كثيرة،
أبحرت عبر مائة بحر
ورسوت على مئات الضفاف

رأيت في كل مكان
قوافل الحزن،
شامخة وكئيبة
سكارى تحدوهم ظلال سوداء

ومتحذلقين مدعين
ينظرون، يصمتون ثم يفكرون
يعرفون، لماذا لا يشربون
نبيذ الحانات

ناس أشرار تسير
وتمضي تنتن الأرض

رأيت في كل مكان
بشر يرقصون أو يلهون
عندما يستطيعون، ويفلحون
حقولهم الصغيرة

إذا حلوا بمكان
لا يسألون مطلقًا إلى أين نصل.
حين يسيرون، يمتطون
ظهور بغال عجوزة

ولا يعرفون العجلة
حتى في أيام الأعياد.
حيثما تيسر نبيذ، يحتسون نبيذًا
وحين لا يتوفر نبيذ، فماء بارد

إنهم أناس طيبون يعيشون
يفلحون، يمضون ويحلمون
وفي يوم كغيره من الأيام
سوف يستريحون تحت الثرى


أيها السائر ليس ثمة طريق

يستهل الشاعر الديوان الذي وردت به القصيدة بهذه المقدمة على لسان خوان دي مايرينا:

«كونوا متواضعين: أنصحكم بالتواضع، أو بعبارة أفضل: أنصحكم بكبرياء متواضع، إنه ماهية كل ما هو إسباني ومسيحي. تذكروا مَثَل قشتالة: (النكرة ليس أكثر من نكرة). وهذا يعني كم هو عسير التغلب على الجميع، لأنه مهما بلغت مكانة الإنسان، لن يصل إلى مكانة أرفع من كونه إنسانًا». خوان دي مايرينا

---

كل شيء يمضي كل شيء يبقى
ولكن قدرنا أن نمضي
نشق طُرُقا،
طُرُقًا فوق الماء

لم أسع للمجد مطلقًا
أو أركن إلى الذكرى
أنشودتي للناس
أعشق العوالم الهشة
عديمة الوزن الرقيقة
كفقاعات الصابون

أعشق رؤيتها تتلون
بشمس وبنفسج،
تحلق تحت سماء زرقاء
ترتجف فجأة وتتحطم

أيها السائر، الطريق 
آثار خطواتك، ولا شيء بعد
أيها السائر ليس ثمة طريق
السير يصنع الطريق 

سيرًا تشق الطرق
وحين تنظر للوراء
يتراءى الطريق
الذي لن تعود لتسيره مطلقًا
أيها السائر ليس ثمة طريق
بل علامات على سطح الماء

منذ زمن في ذلك المكان
حيث اكتست الغابات
اليوم بالأشواك
سُمع صوت شاعر يصرخ
أيها السائر ليس ثمة طريق
السير يصنع الطريق 

ضربة بعد ضربة، بيت شعر بعد بيت 
مات الشاعر بعيدًا عن وطنه
يواريه ثرى بلد مجاور
من بعيد رأوه يبكي
أيها السائر ليس ثمة طريق
السير يصنع الطريق 

ضربة بعد ضربة، بيت شعر بعد بيت 
عندما لم يعد العصفور قادرًا على التغريد
عندما أصبح الشاعر حاجًا
عندما لم تعد تجدي صلواتنا
أيها السائر ليس ثمة طريق
السير يصنع الطريق 
ضربة بعد ضربة، بيت شعر بعد بيت...