بورخس ما زال ميتًا (أم أنه حي؟ وأي بورخس نقصد؟)
مقال لجوناثان راسل كلارك
عن موقع Literary Hub
ترجمة: أحمد الشربيني
خاص بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
***
1.
يفتتح القاص الأرجنتيني العظيم خورخي لويس بورخس مجموعتيه القصصيتين الأخيرتين، «كتاب الرمل» (1975) و«ذاكرة شكسبير» (1983)، بالعودة إلى واحدة من تيماته الأدبية المفضلة: «القرين» (Doppelgänger)[1]، في قصتين تكاد الواحدة منهما أن تكون نسخة مقلوبة عن الأخرى. يبدأ كتاب الرمل بقصة «الآخر»، التي تحكي عن لقاء جمع بورخس عام 1969 بنفسه شابًا: يظن بورخس الأكبر أنه يجلس على مقعد بجانب نهر تشارلز في كمبريدج، فيما كان بورخس الشاب واثقًا من أنه يجلس بجوار الرون في جنيف، حيث عاش الكاتب ودرس في الفترة بين عامي 1914 و1921، بعد أن انتقل إلى هناك مع أسرته في أثناء الحرب العالمية الأولى. «الآخر» هي قصة عجوز يتأمل ماضيه (وكان إذ ذاك يُملي ولا يكتب نتيجة فقد بصره)، ويُعرِّف ذاته الأصغر بما ينتظرها في المستقبل: «عندما تصبح في مثل عمري، ستكون قد فقدت بصرك تقريبًا. ستستطيع تمييز اللون الأصفر، والنور والظلال، لكن لا تقلق، فالعمى التدريجي ليس مأساويًا، بل هو أشبه بالحلول البطيء للظلام في مساء صيفي».
تسير القصة الافتتاحية في «ذاكرة شكسبير» على المنوال نفسه، لكن بالعكس. تحكي «25 أغسطس 1983» عن بورخس شاب يعود إلى الفندق الذي يقيم فيه ليكتشف أن اسمه مدون فعلًا في السجل اليومي للنزلاء، فيندفع إلى حجرته مدهوشًا ليجد بورخس آخر عجوزًا في الغرفة. وكالقصة الأولى، يظن كل بورخس أنه في مكان وزمان مختلفين، وكالقصة الأولى، يخبر بورخس الأكبر بورخس الشاب عن المستقبل، لكن هذه المرة بنبرة يسودها الغم، لا الاطمئنان: «إن المصائب التي اعتدتها ستعاود إصابتك. ستُترك وحيدًا في هذا المنزل، لتتحسس كتبًا لا حروف لها وميدالية سويدنبورج والمسند الخشبي يحمل وسام الاستحقاق الألماني. ليس العمى ظلامًا، بل نوعٌ من العزلة».
تشترك «الآخر» و«25 أغسطس» في بنائهما كالمرآة، حيث ينظر شاب إلى انعكاسه العجوز، وعجوز إلى انعكاسه الشاب، وفيما يخشى الشاب مستقبله المجهول، يتصالح العجوز مع ماض لا يمكن تغييره (لم ير كثير من النقاد في نصوص بورخس المتأخرة، والحاشدة بحنين إلى الماضي، أكثر من عَرَض للشيخوخة). لكنني إذ أقرأ مختارات بورخس غير الأدبية ومقالاته قررت تصديق قصته: ربما يوجد فعلًا، في هذا العالم، اثنان بورخس لا واحد، أحدهما فقط هو القاص الذي نعرفه، عاشق للمفارقة، مخادع، يحب اللعب بوصف وقائع فانتازية من موقع سلطة، مستخدمًا اللغة والنبرة الأكاديميتين. لكن بالإضافة لبورخس هذا، وُجد دائمًا بورخس آخر، نقدي وعقلاني، يكتب بوضوح وود، فيبسط ويشرح مسائل معقدة ونخبوية، ويهدف إلى الإيضاح لا الإلغاز. هكذا، بينما كنت أتقدم بقراءة مقالات بورخس غير الأدبية شعرت بصدمة مشابهة لما شعر به بورخس الشاب عندما وجد اسمه مدونًا في سجلات الفندق: من المستحيل أن يكون هذا هو نفس البورخس.
لكنه نفس البورخس. تطلعنا قراءة أعمال بورخس غير الأدبية على الجانب الآخر منه: ناقد نافذ البصيرة، أحيانًا بدرجة قد تكون معجزة. استطاع بورخس، معتمدًا على ذكائه الفذ وفصاحته، أن يعيد تقديم أفكار شديدة التعقيد والالتواء في صورة مفهومة للقارئ غير المتخصص، بطريقة قد تكون نقيضًا لأدبه. ويقترب بورخس الناقد من قارئه بتشديده الدائم على جهله الخاص (مع أن تواضعه يبدو زائفًا قليلًا)، فيظهر في صورة طالب علم شغوف بالأدب والأفكار.
ربما تجدر الإشارة سريعًا لطفولة بورخس قبل البدء بتناول أعماله النقدية بمزيد من التفصيل، إذ ستسهم في فهم أساليب ومناهج كتابته. ولد بورخس في بوينس أيرس عام 1899، وكان في طفولته «دودة كتب» تقليدية: طفل هزيل بنظارات سميكة، وهدف سهل للمضايقات الصبيانية، في ثقافة كانت «تُقَدِّر ثمينًا كلًا من الشجاعة والإقدام الجسدي» بتعبير جوزف إبشتاين. ولأن بورخس نما مفتقرًا إلى الشجاعة والإقدام الجسدي على السواء، فقد قضى معظم مراهقته يقلب في مكتبة أبيه، ليكتب في ما بعد: «لو طُلب مني تسمية الحدث المركزي في حياتي، سأقول: مكتبة أبي». صنع بورخس نفسه مثقفًا بنفسه، على الطريقة الكلاسيكية: طفل يلجأ إلى عالم من اللغة هربًا من القسوة في الخارج.
ليس غريبًا إذَن أن نجد الطفل، الذي احتمى في مراهقته بعوالم من الفنتازيا والمغامرة والتاريخ والشعر، يكبر ليصبح كاتبًا لأدب «أكاديمي زائف»، في نصوصه التي وصفها جون أبدايك باختصار قائلًا إن «المعرفة في نصوص بورخس، بالتجائها الساخر إلى الاقتباس الدائم، وإحالاتها الغامضة إلى أدبيات الشرق والعصور الوسطى، هي باروديا (Parody) للمعرفة المدرسية، يتجاور فيها الواقعي والمُخترَع بطريقة تهكمية. ينتج نص بورخس نسقًا هائل الاتساع وشديد الضيق في الآن نفسه، ليفيد أنه ما من جديد تحت الشمس».
استمتع بورخس بتوظيف التقنيات الأكاديمية من أجل نقض المعرفة المدرسية نفسها، بالسخرية منها وفرض السؤال بشأن سلطتها، وأدى أسلوبه إلى اعتقاد بعض النقاد أن أدب بورخس هو «موضوع للفكر أكثر من العاطفة»، بتعبير الأديب البيروفي ماريو بارجاس يوسا الذي قصد الإشارة لمثلبة في أسلوب بورخس. ربما يكون هذا صحيحًا في ما يتعلق بالشخصيات والحبكة والموضوع، لكن مع ذلك، ثمة جوهر عاطفي مشحون بالبهجة في كل قصص بورخس: بهجة القاص نفسه بإزاء اللغة والحكي والسلطة، وبهجة العبث بهذا كله، لإنتاج نسق بارع من الفوضى. يقول بورخس في تقدمته لقصة «حديقة ذات ممرات متشعبة» (والتي ستُضم لاحقًا إلى «الحيل» وتُنشر عام 1962 تحت عنوان «قصص» لتلقى نجاحًا فوريًا) إن ما شكل أسلوبه كان الكسل ورغبة الاقتصاد في الحكي: «تصنيف الكتب الضخمة ترف سفيه يستهلك صاحبه. لماذا تحتاج إلى كتابة خمسمائة صفحة لتطوير فكرة يمكن شرحها شفويًا في خمس دقائق؟ أقترح بدلًا عن ذلك أن تَدَّعي وجود هذه الكتب فعلًا، ثم تكتب لها ملخصات وحواش».
ليس من الصعب تصور بورخس الطفل تائهًا في مكتبة أبيه، مشدوهًا بالحجم الهائل للكتب ودقة تفاصيلها، وليس صعبًا من ثمَّ تصور الطريقة التي انبنى بها أدبه وميله الإستطيقي كله، كمحاولة لإعادة إنتاج هذا الجلال.
لكن كيف يمكن تصور هذا الطفل بعد ذلك أكاديميًا منضبطًا في أعماله النقدية، كهؤلاء الذين سخر منهم في أعماله الأدبية؟ يقدم إليوت فاينبرجر مختارات بورخس غير الأدبية بالقول إن «الحدود بين الأدبي والنظري في قصص بورخس دائمًا مشوشة، لكن الأمر ليس كذلك في نصوصه غير الأدبية». أين يجد المرء إذن موقف بورخس الساخر والهدام داخل هذه النصوص؟ أظن أن مفتاح الإجابة هو «القرائن» الأثيرة لبورخس، واعتقاد كل منهم أنه يوجد في مكان وزمان آخرين، وفي الكيفية التي يؤدي بها تشظي الذوات هذا إلى تمثيل ازدواج الزمان والمكان في خبرة الأدب، بالنسبة لبورخس ولعموم الناس.
2.
لنستعرض بعض الأمثلة من مقالات بورخس، ونبدأ مثلًا بمعالجته لمفهوم نيتشه عن «العود الأبدي» في مقال بعنوان «مذهب الدورات» (1936). يلخص بورخس بذكاء واختصار، وبجمال أيضًا، فكرة نيتشه: «عدد الذرات المُشَكِّلة للعالم ضخم جدًا لكن محدود، ومن ثمَّ قادر فقط على تكوين تركيبات محدودة، حتى لو كان عددها ضخمًا جدًا. لكن في زمن غير محدود، لا بد لعدد محدود من التركيبات أن يُستنفد، وبناءً على ذلك ينعاد الكون كله مجددًا: مرة أخرى، ستولد من رحم ما، وتنمو عظامك نفسها، ومرة أخرى ستصل هذه الصفحة إلى يديك، ومرة أخرى ستمضي في حياتك، كل ساعة منها تطابق نظيرتها الحالية، من ميلادك وحتى موتك».
بعد ذلك يشرع بورخس في دحض الفكرة، أولًا بالإشارة إلى «الأعداد الخارقة التي تستدعيها»، لأنه إذا كان هناك عشر ذرات فقط في الكون، سيمكن لهذا العدد أن يأخذ في تقدير بورخس 3,628,800 تركيبًا مختلفًا، ما يعني أن عالمًا من مليارات الذرات لن يؤدي أبدًا «إلى أي رتابة في الكون». لكن بورخس لا يكتفي بهذه الحجة، إذ أن اللانهاية ربما تكون أكثر إدهاشًا في كبرها من أي رقم مهما بلغ حجمه، لذا يستعين بنظرية جورج كانتور للمجموعات، التي تقر بأن كلًّا لانهائيًا هو، للمفارقة، «مجموعة يمكن تحليلها إلى متسلسلات لانهائية»، أو بصيغة أخرى: «المجموعة اللانهائية هي المجموعة المساوية لإحدى مجموعاتها الفرعية (subsets)». أما باقي المقال فتحليل للدوافع المحتملة التي ذهبت بنيتشه هذا المذهب الغريب.[2]
يعمل بورخس هنا كمرشد لقارئ نيتشه، فيقشع الضباب عن أفكاره، ويرفض التسليم بسلطته في ما يتعلق بفكرة غير بدهية كهذه. لكن العود الأبدي مع ذلك فكرة شديدة الشبه بكل ما يقوم عليه أدب بورخس نفسه، الذي تعج قصصه بمحاولات لاستخلاص تناقضات وجوانب غير مفهومة ولا بدهية من العالم، دون أن يُطلع القارئ أبدًا على كل أبعاد لعبته، بطريقة تجعله أمرًا مفاجئًا أن يستطيع الاستناد إلى الحس العام بهذه البساطة في نقده.
يمكن اعتبار اثنين من مراجعات بورخس النقدية، المكتوبة في نفس الفترة، مقدمات لطلبة الجامعة عن الأعمال الفنية المركبة التي تتناولها، بسبب إحكامها وبساطتها، وهما مراجعتاه لرواية جيمس جويس «عوليس» وفيلم أورسُن ويلز «المواطن كين». بعد أن نشرت سيلفيا بيتش رواية جويس عام 1922 بثلاث سنوات فقط، كان بورخس أول من كتب لها مراجعة بالإسبانية. رواية جويس التي نعدها اليوم من أعمدة الأدب الحديث هي نص طويل وصعب، يهيمن عليه تعدد الأصوات وتحولات المنظور، ويخلو تقريبًا من أي حبكة مباشرة بالمعنى الكلاسيكي، إلى حد أن قال جويس نفسه عنها: «وضعت في هذه الرواية من الألغاز والألعاب ما يكفي لشغل أساتذة الأدب لقرون قادمة، يتخاصمون بشأن ما كنت أعنيه، وهذه هي الطريقة الوحيدة ليضمن المرء خلوده».
لكن بورخس يبدو مع ذلك فطنًا جدًا لألعاب جويس، أو على الأقل مدركًا لجوهر العمل المُلغِز، ويستطيع النفاذ إلى قلب الرواية بسهولة، وإن اعترف أن بعض أجزائها تستعصي عليه أحيانًا. يعلق بورخس مبدئيًا بالقول إن «حياة الرواية تبدو مسطحة، أي أنها لا تعلو أبدًا فوق مستوى العوالم الذاتية لتقدم لقارئها مشهدًا موضوعيًا، ولا تنتقل من مستوى أحلام اليقظة الشاذة، الساكنة في اللاوعي الفردي، إلى مستوى الأحلام الجماعية المشكلة لوعي موضوعي. كل شيء في هذا العمل له القيمة نفسها: الحدوس الشخصية والشكوك والأفكار العابرة والذكريات، وكل الأفكار المدروسة بدأب والتأملات الكسولة موضوعة جنبًا إلى جنب، دون أن يسكن النص أبدًا إلى وجهة نظر واحدة نهائية».
هذا التعليق هو بالضبط ما يحتاجه أي طالب مبتدئ قبل قراءة عوليس، وهو من عينة المقدمات الأساسية التي يغفلها النقد عادة في ما بعد. يقول بورخس عن جويس إنه «مليونير كلمات وأساليب»، ويحلل تقنياته الأدبية بدقة أكبر ليقول إن «كل حلقة من حلقات الرواية هي احتفاء بصنف من الشعر، وكل حلقة هي لغة مغلقة، [… وهذه الحلقات مجتمعة] تتطابق، في روحها، مع الأحداث الملحمية للأوديسة». يبلغ إعجاب بورخس برواية جويس أن يلجأ في حديثه عنها إلى بعض الإطناب البلاغي (وإن ظل محكمًا وجميلًا): «ثمة واقع كامل يغلي وينفجر أسفل صفحات عوليس، وهو ليس الواقع التافه لهؤلاء الذين يجردون العالم إلى عمليات ذهنية لعقل يطمح مرتبكًا إلى الخلود، ولا هو الواقع الذي نعرفه عبر حواسنا وحدها، حيث تتواطأ أجسادنا مع الطرقات، أو يتواطأ القمر مع البئر، بل ثنائية الوجود: قلق أنطولوجي لا يندهش بإزاء الوجود مجردًا، وإنما بإزاء وجوده في هذا العالم بالذات، حيث الأبواب والكلمات وأوراق اللعب والكتابة الكهربية تضيء على صفحة الليل الشفافة. لم يحدث في أي نص آخر أن شهدنا الحضور الفعلي للأشياء بمثل هذا الرسوخ».
ينجز بورخس في مراجعته (كما في كتاباته عمومًا) قدرًا كبيرًا جدًا في مساحة ضئيلة جدًا، إذ أنه لا يتمكن فقط من وصف التقنية التي تعمل بها عوليس في ثلاث أو أربع صفحات فقط، بل يضيف إلى هذا الوصف استبصارًا بمحتوى الرواية العاطفي داخل المساحة نفسها. وبعد ما يقرب من قرن على كتابة مراجعته، ما تزال تعليقات بورخس على عوليس دون منازع في قدرتها على إبراز موقف النقاد والكتاب والباحثين في زمنه: انشداه وإعجاب شديدين بالجدة في نص جويس، وهو الانشداه الذي سيتضاءل تدريجيًا مع زيادة شهرة الرواية، مثلما يحدث مع كثير من النصوص المؤسِّسة.
كان لبورخس رؤية نافذة كذلك في ما يتعلق بالمواطن كين (وبالسينما عمومًا، قبل فقد بصره في منتصف الخمسينيات)، وتظهر مراجعته للفيلم نفس القدرة النقدية والبصيرة التي تظهرها مراجعاته للأدب، وهذه المرة في مساحة أصغر كثيرًا، تزيد على الصفحة بقليل. يلحظ بورخس أولًا أن فيلم «المواطن» (كما كان اسمه في الأرجنتين) له قصتان لا قصة واحدة: القصة الأولى مبتذلة «تسعى لإثارة إعجاب الأغبياء»، وهذه بالطبع هي القصة الظاهرية للفيلم، وفيها يتحول تشارلز فوستر كين من شخص مثالي المزاج إلى «مليونير مغرور» يكدس الثروة في قصره الكبير، ليدرك قبل موته أنه «لم يُحصِّل في حياته إلا هباء الريح»، وإذ يلفظ نفسه الأخير لا يشعر بالحنين إلا لمزلجة كان يلعب بها في طفولته. ليس هذا المستوى للقصة أكثر من حكاية وعظية، لكن على مستوى أعمق تقبع حبكة أعمق: يقدم ويلز في القصة الثانية لمشاهديه شذرات من حياة رجل، في ما يشبه «رواية بوليسية ميتافيزيقية» بتعبير بورخس، وتدعونا هذه الرواية إلى «إعادة بناء [كين] من الشذرات»، لكننا لا نجد أبدًا أكثر من «مظاهر مبعثرة» دون إجابات جاهزة، وحتى في آخر كلمة ينطقها كين على فراش موته: «بُرعم»، لا نجد مفتاحًا ذا معنى. يحيل بورخس هنا إلى اقتباس من قصة لتشسترتون، يقول فيه أحدهم إنه «ما من شيء يفوق في رعبه متاهة لا قرار لها»، والمواطن كين في رأي بورخس «هو بالضبط تلك المتاهة»، وهذا بالنسبة إليه مديح على أعلى مستوى.
يتنبأ بورخس كذلك بمصير الفيلم بدقة تثير الإعجاب في فرادتها: «سأجازف بالقول إن المواطن كين سيتجاوز اختبار الزمن، لكن باعتباره عملًا ذا قيمة تاريخية أساسًا، وإن لم يعد أحد يشاهده، مثله في ذلك كبعض أفلام جريفيث أو بودوفكين. إنه عمل عظيم ومثقف ومرهِق، لكنه ليس حاذقًا أو ذكيًا، وإن كان من منتجات عقل (عبقري) بالمعنى الألماني والرومانسي لهذه الكلمة الرديئة».
استطاع المواطن كين فعلًا بعبقريته المنمقة وبنائه الصلب أن يستمر كأيقونة ثقافية لزمن طويل، باعتباره «أعظم فيلم في التاريخ»، على الرغم من أن الجمهور لم يعد يشاهده بالقدر الذي يشاهد به أفلام كابرا أو هيتشكوك أو فورد. حتى بالنسبة إليَّ شخصيًا، ومع عشقي للفيلم، أفهم لماذا قد يفضل التليفزيون إعادة عرض «كازابلانكا» أو «إنها حياة رائعة» أو حتى «الطيور» بدلًا من المواطن كين. ومؤخرًا فقط ظهر سداد رأي بورخس، إذ هبط الفيلم للمرة الأولى في التاريخ عن رأس القائمة التي تعدها مجلة «الصورة والصوت» كل عشرة سنوات، ليحل «فيرتيجو» محله، تأكيدًا لقدرة بورخس على التمييز بين أهمية تتجاوز تحولات الزمن وبين بروز يستمر إلى الأبد.
3.
من الطريف أن عوليس والمواطن كين يذهبان مذهبين متناقضين، إذ يحاول جويس في نصه تقديم حيوات عديدة في يوم واحد، فيما يسعى ويلز لإظهار أن حياة شخص واحد لا يمكن تقديمها بأي طريقة، ولكنهما مع ذلك يلجآن لتقنية بورخس الرئيسية في أدبه، أي الواقعية الشكلية والمتهكمة.
تحيد عوليس بعنف عن التقاليد الأدبية الفيكتورية في هوسها بتمحيص اليومي والعادي، كالطعام على مائدة الإفطار أو الأفكار العابرة أو حتى التبرز، وفي هذا التمحيص يحيل جويس إلى مواضيع من العالم الواقعي، لكن بطريقة ساخرة، فيقدم نسخًا تهكمية من عناوين الجرائد ويعبث بالأعمال الموسيقية المعروفة. يجد جويس متعته، الرقيقة أحيانًا والجارحة أحيانًا أُخَر، في تأملاتنا الإنسانية شديدة العادية وأوهامنا الشخصية، وخصوصًا في الفجوة بين ما نفكر به وما نفعله. أما المواطن كين فبُنيت حبكته على شخصية واقعية، هي ويليام راندولف هيرست، ويسخر الفيلم عنيفًا من وكالات الأنباء المملوكة له والتي كانت مصدر ثروته. يظهر باكرًا في الفيلم مشهد «مسيرة الأخبار» الشهير، وهو محاكاة ساخرة للسلسلة الإخبارية الرائجة آنذاك «مسيرة التاريخ»، حاول مونتير الفيلم روبرت وايز إعطائها مظهرًا أصيلًا بتمرير النيجاتيف على قطعة قماش مملوءة بالرمل لتشويش صورتها كالأصل التليفزيوني. وفي تشبُّه المشهد بالواقع، واتخاذه الصيغة الوثائقية الموحية بالتجرد والموثوقية والالتزام بتقديم الحقيقة، فإنه يصبح مرآة ينعكس عليها الغموض الجوهري لذات إنسانية مراوغة. لم يكن المواطن كين أو عوليس ثوريين فقط في إهمالهما الجريء للتقاليد الفنية، ولكن بالأساس في الكيفية التي عمل بها هذا النوع من التقليد والتهكم على الواقع اليومي في أضأل تفاصيله لإبراز سمة جوهرية للوجود الإنساني، أي تجزؤ الذات وتشظيها.
لا عجب إذَن أن أَحَب بورخس هذه الأعمال، وهو الذي طالما كانت لعبته المفضلة أن يقلد صوت السلطة، لكن بدلًا من سلطة الصحافي في «مسيرة الأخبار»، يتبنى بورخس الصوت السلطوي والمحايد والمثقف للمؤرخ أو الباحث أو الناقد، وكلها أصوات تقدم الحقائق الباردة. من الطريف أن قراءة مجموعة متتابعة من قصص بورخس تبدو كقراءة مجموعة متتابعة من التبويبات في كتالوج ضخم (أو لا نهائي ربما)، كدليل للمسافر إلى الماضي. أما عوليس، بكل ما تحويه من إحالات لا تنفد إلى مواضيع متخصصة وغريبة، وبميلها الدائم إلى إنتاج الوهم الذاتي، وبأصواتها المتعددة، فإنها تبدو كما لو كانت نسخة كرنفالية صاخبة من قصة لبورخس.
من الجدير بالذكر هنا أن بورخس بدأ مسيرته الأدبية ببعض التزوير، ولم تكن خدعه غير مقصودة كما حدث مع أورسُن ويلز في إعداده «حرب العوالم» للإذاعة، وإنما كانت خدعًا محكمة، فمن بين الترجمات التي اعتاد إرسالها للناشرين، كان بعضها مزورًا ببساطة، كتبها بورخس بنفسه وادعى أنه عثر عليها في مكان ما (كما يحدث كثيرًا في قصصه). كانت رغبة بورخس في تقليد الواقع إذَن أكثر حَرفية من رغبة جويس أو ويلز، اللذين أرادا لعملهما فقط أن يشبه الواقع، كوسيلة لإبراز التناقضات في شخصياتهما الروائية، أما بورخس فأراد لقصصه أن تكون واقعًا، وهو لا يسعى هنا لمجرد خدمة الحبكة أو التشديد على العمق الإنساني، وإنما إلى قلب جذري للأدوار يجعل قارئ القصة، لا الشخصية المكتوبة، بطلًا للدراما. كتب بورخس أدبًا ذهنيًا، ولم يتطلب هذا منه الاستناد إلى شخصيات خيالية تمر بأزمات مكتوبة على الورق، وإنما فقط إلى ذهن القارئ المفكر، الذي يستمر بالقراءة حتى لو لم يفهم كل ما هو مكتوب.
4.
قبل العودة إلى مقالات بورخس النقدية، لنلق نظرة على واحدة من قصصه كي نرى كيف تعمل، أو بالأحرى كيف لا تعمل.[3] ليست قصص بورخس مبتسرة، وإنما مُزاحة: إنها توجد في مكان آخر. قال إدوارد كامينجز، الأديب الثوري الذي كان محبًا كذلك للتلفيق الأدبي، إن «الشاعر كالبطريق، عليه استخدام أجنحته للسباحة»، لكن البطاريق في أدب بورخس تقدر على التحليق بسهولة، وإن لم تكن تصدقه فإن لديه المصادر لإقناعك.
تبدأ واحدة من قصص بورخس الدسمة والتي تناولها النقاد بكثافة، وهي «طلون وأوقبار والفلك الثالث» (Tlön, Uqbar, Orbis Tertius)، بمحادثة بين القاص (بورخس) وصديق له عن المرايا، عندما يشير الصديق إلى مقولة ينسبها إلى «أحد فلاسفة أوقبار المهرطقين [الذي] قال إن المرايا والجنس كليهما مقيت، إذ يؤديان إلى مضاعفة أعداد الجنس البشري». وحين يسأل القاص صديقه عن مصدر اقتباسه، فإن هذا الأخير يقدم له المجلد السادس والأربعين من «الموسوعة الأنجلو-أمريكية»، لكنه لا يستطيع إيجاد الباب الخاص بأوقبار فيها. بعدها بفترة، يعاود الصديق الاتصال ببورخس ليخبره أنه وجد نسخة أخرى من الموسوعة تحوي قسمًا عن أوقبار، وفي هذه النسخة يقرأ الرجلان وصفًا غامضًا ومقتضبًا للإقليم الذي لم يسمعا عنه من قبل، وفيه إحالات إلى أماكن وأشخاص بعضهم حقيقي وبعضهم مخترَع. يحاول بورخس وصديقه البحث عن أي معلومات أخرى تخص أوقبار دون إيجاد شيء.
فيما بعد، يقع هربرت آشه، وهو صديق لوالد بورخس، على كتاب يصله بالبريد قبل موته بفترة وجيزة، ثم يجده بورخس في مقتنياته. الكتاب هو المجلد الحادي عشر من «الموسوعة الأولى لطلون: من هلير إلى يانجر»، وفيها يتضح أن طلون ليس إقليمًا كأوقبار، وإنما كوكب كامل، يمتلئ المجلد المذكور بوصف مفصل لحياة سكانه. عند هذه النقطة ينتقل بورخس بنعومة من وصف محتوى الموسوعة إلى وصف طلون مباشرة، كأنه خبير في طبائع سكان الكوكب ومذاهبهم الفلسفية، وكما لو كان هؤلاء بدورهم حقيقيين. وبين ثنايا سرده المطول للمدارس الفلسفية على طلون، وهي واسعة التنوع وبعضها يصعب فهمه ومعظمها يندرج تحت مذهب المثالية الذاتية، يلمح بورخس إلى أن الموسوعة قد نُشرت وأتيحت للجمهور في كل أنحاء العالم، وأن هذا الانتشار سينتج أثرًا ضروريًا، خصوصًا بعد انكباب الباحثين عليها بالدراسة (وحتى تعرضها للسرقة العلمية والانتحال): ستتجسد الأفكار الفلسفية لطلون وواقعه المعيش تدريجيًا على الأرض.
نشر بورخس الحقيقي هذا العمل عام 1940 في المجلة الأدبية الأرجنتينية «سور»،[4] لكن بورخس القاص ينهي طلون وأوقبار والفلك الثالث بتذييل مؤرخ بعام 1947، أي في المستقبل، وبنبرة تشبه نبرته الصحافية في بداية القصة يخبرنا أن «رسالة كتبها جونار إرفيورد قد ظهرت حديثًا [...] وأزالت الغموض المحيط بطلون»: كوكب طلون هو مشروع لجمعية سرية من ثلاثمائة مفكر، بدأ في القرن السابع عشر بطموح لاختراع بلد جديد، لكن بعد عدة أجيال، وبتدخل من ثري غريب الأطوار، توسع طموح الجمعية إلى الرغبة في بناء كوكب كامل. ثم يلحظ بورخس كيف أن اكتشاف أجزاء الموسوعة واحدًا بعد الآخر، واكتشاف بعض الآثار التي تنتمي إلى طلون، مثل مجموعة من العملات أو منمنم مخروطي الشكل، يجعل الأرض تدريجيًا أكثر شبهًا بطلون، ويضيف أخيرًا أن هذه الاكتشافات المتتابعة هي نفسها على الأرجح جزء من مخطط الجمعية. ينهي بورخس قصته بإشارة رثائية: «لقد تحلل عالمنا جراء احتكاكه بطلون وطرائق الحياة في طلون، [... وقريبًا جدًا] سيصبح العالم طلون».
ليس بورخس متحفظًا بشأن كرهه لكل «نسق سيمتري له مظهر النظام، سواء كان المادية الجدلية أو معاداة السامية أو النازية»، بل ربما يلجأ لبعض الوعظ أحيانًا، وخصوصًا في ازدرائه للالتزام الحرفي بالنصوص ذات السطوة، وهو موقف ربما يبدو غريبًا لشخص اعتاد سكنى المكتبة والالتجاء للكتب هربًا من العالم. لكنه موقف منطقي كذلك، فمن سيفهم أفضل من ساكن المكتبة هذا سحر النص وخطورته؟ ومن غيره يستطيع أن يرى الطريقة التي يقدم الأدب بها نفسه كحقيقة؟ ومن، إن لم يكن هو، سيدرك الفرق الجوهري بين الأدب والأنساق التي تتسرب عبره في النصوص واسعة التأثير؟ هذا الفرق هو أن الأدب يعي زيفه وذاتيته وحدوده، واستخدام بورخس العابث للنبرة السلطوية والمتغطرسة، المميزة للنصوص الدينية أو السياسية المؤسِّسة، هو السمة الأسلوبية التي تجعل هذا الفرق يتجلى في نصوصه.
في ختام القصة، يجلس بورخس متجاهلًا انتشار الثقافة الطلونية، ومكرسًّا جهده لمقاومة واحدة من تبعات هذا الانتشار، أي اختفاء اللغات الإنجليزية والإسبانية والفرنسية، بالدأب على ترجمة كتاب سير توماس براون «قبر الجِرار» إلى الإسبانية، ويعلق على فعله بالقول إنه لا يسعى إلى نشر الترجمة، وإنما الحفاظ فقط على ضوء شمعة أخيرة في مواجهة ريح تصرصر ساخرة، وعواصف تلوح وتحتل كل أفق، لأن الضوء الضئيل للشمعة سيظل يتراقص متمردًا على الظلام، ولو قام على حمايته شخص واحد.
إذا كانت لعبة بورخس الأثيرة هي الحديث عن نصوص غير موجودة، فإنه يضاعف هذه التقنية في طلون وأوقبار والفلك الثالث، بأن يجعل النصوص المُخترَعة في القصة تحيل إلى نصوص أخرى مُخترَعة، وكذلك إلى أماكن وأشياء مُخترَعة، وكل هذا بثقة أكاديمية ساحرة. في البداية يظهر بورخس (القاص، لا الحقيقي) حائرًا كالقارئ، فيستدرجه إلى سعي مشترك لحل لغز القصة، لكن سريعًا ما يتخلى عنه، فيتوقف عن لعب دور الباحث المرتبك بإزاء الكوكب الغامض، ليتحدث كسلطة معرفية عن حضارة طلون كأنها واقع، ناقلًا عبء الفهم، ومزيحًا محور الدراما كذلك، جملة واحدة نحو القارئ.
لا يقدم بورخس إرشادًا ذا بال، بل يغمر القصة بالمصادر والإحالات الحقيقية والزائفة من أجل تمويه الفاصل بين الواقع والخيال، حتى ولو على مستوى اللاوعي. واحد من المفاتيح الممكنة للخروج من هذه المتاهة[5] هو النظر في استخدام بورخس للتقنيات الأكاديمية، سواء لشرعنة الحكاية أو ضرورات الحبكة، ولنلق مثلًا نظرة على الهوامش، كسمة مميزة وسهلة الرؤية للكتابة المثقفة. يضع بورخس في القصة ستة هوامش، أربعة منها للتعليق على أشياء ملفقة، واثنتان فقط لأشياء حقيقية (هامش عن كتاب «تحليل العقل» لبرتراند راسل وآخر عن النظام العددي الإثنا عشري)، وإذ تعمل الهوامش الحقيقية كما ينبغي لها أن تعمل، بتسويغ ادعاء أو تقديم شرح، فإنها تضفي بعض الصدق على الأربعة الملفقة. يدعي واحد من الهوامش مثلًا أن إزرا باكلي، الثري الأمريكي الذي أوصى باختراع وكتابة وصف طلون، كان «مفكرًا حرًا وقدريًا ومدافعًا عن العبودية»، ومع أن الهوامش لم يكن لها تقليديًا أكثر من أهمية ثانوية، فإن عزل هذه المعلومة عن الحبكة وإقحامها في الهامش يؤدي إلى تسليط الضوء عليها بطريقة ملفتة. يستطيع بورخس، وهو «الإنسان بوصفه قارئًا» كما سمَّاه بيتر أكرويد، أن ينفخ روحًا جديدة في هذه المساحة النصية الضئيلة المحشورة بحرف دقيق على حافة الصفحة.
أكثر هذه الهوامش إثارة للاهتمام هو إحالة إلى مرجع ملفق في وصف أوقبار، عنوانه «تاريخ الإقليم المسمى أوقبار» (1874) لمؤلف يُدعى سيلاس هاسلم. يستطرد الهامش بطريقة عابرة لإخبارنا أن هاسلم كتب نصًا آخر يُدعى «تاريخ عام للمتاهات»، وهو يبدو كعنوان لمؤلَّف كان يمكن لبورخس نفسه أن يكتبه[6]، لكن الملفت هنا ليس الهامش ولا موقعه في النص، وإنما أن هذا التاريخ العام للمتاهات قد بدأ بالظهور في واقعنا فعلًا، مثله مثل العملات الطلونية في القصة. ستجد الكتاب على موقع "جودريدز" وقد راجعه بعض القراء، وستجد إحالات إليه في مجلات علمية محكمة، وتصاميم كثيرة لغلافه (أحدها بطلب من معرض فني بريطاني). هذا الظهور الواقعي لعمل خيالي هو بالطبع سخرية واعية بذاتها، كسخرية بورخس، لكنه يؤكد مع ذلك مقصود قصته: إذا دخلت الأفكار إلى عالمنا فإنها، لا محالة، ستجد تحققًا من نوع ما. ومع أن تحقق تاريخ المتاهات كان دعابة مهداة إلى روح بورخس، فإن بعض الأفكار الأخرى، كفلسفات طلون أو رؤية هتلر المضطربة للعالم، قد تتطلب قدرًا كبيرًا من العنف والقهر والصمت المتواطئ كي يصبح تحققها ممكنًا. ربما يكون الوجود الفعلي لتاريخ المتاهات طريفًا ومسليًا لمحبي بورخس، لكنه دال كذلك على نزوع الإنسانية الخطير نحو ليّ عنق الواقع من أجل إخضاعه للخيال.[7]
ينسب بورخس إلى سكان طلون فلسفة مثالية ذاتية، وهو مذهب يمكن رده تاريخيًا إلى بوذية الأخين أسانجا وفاسوباندو في القرن الرابع، لكنه يرتبط حديثًا بجورج بركلي في القرن الثامن عشر. ادعى بركلي أن العالم يوجد فقط بشرط أن يدركه عقل ما، وأن ما يعرفه هذا العقل عن العالم الفيزيقي وأساسه الميتافيزيقي يأتي في صورة فكر فقط، لا مادة من طبيعة غير ذهنية كما يفترض الماديون. تبدو حجج بركلي أحيانًا كألعاب لغوية، أو كأنها تبدأ من ملحوظة لغوية ثم تمدها إلى نسق فلسفي شامل، خصوصًا أنه لم ينكر الوجود الفعلي للأشياء، بل أنكر فقط معرفتنا بماديتها. ليس العالم وهمًا جمعيًا إذَن، وإنما مقصد بركلي أن معرفتنا كلها، لأنها تأتي في صورة إدراك حسي، فهي بالضرورة من نوع الإدراك الحسي ولها كيفيته الذهنية، وبسبب استحالة التمييز بين «عالم حقيقي في الخارج» و«عالم ندركه داخل عقولنا»، يصبح هذا التمييز عبثًا لا معنى له.
يأخذ بورخس أفكار بركلي ويحولها إلى واقع لحضارة كاملة، فلا يصبح مجرد لعبة لغوية أو نسق فكري متقن، وإنما الواقع الفعلي للحياة، حتى أن دفاع أحد فلاسفة طلون عن «مذهب الماديين» يثير جدلًا هائلًا، عندما يدعي أن الأشياء حقيقية وموجودة باستقلال عن إدراكنا لها. لكن ما الذي يقصده بورخس بهذه الدعابة النخبوية؟ هل كان يهدف للسخرية من المثالية الذاتية بالتصوير الكاريكاتوري لعالم يسود فيه المذهب، أم قصد شيئًا أبعد؟ فكر في كلامه بخصوص تأثير الموسوعة على الأرض، وتسرب أفكارها تدريجيًا إلى حضارتنا ونصوصنا ومدارسنا ومحادثاتنا إلى حد «تحلل العالم»، لتر أولًا أنه يقدم في القصة نقدًا حادًا لأبيه، الذي كان مثاليًا يعتقد أننا «نحيا في عالم من الأحلام» بتعبير جوزف إبشتاين. لكن علاوة على ذلك، تطرح القصة فكرةً شديدة الارتباط بمقالات بورخس النقدية، وهو الارتباط الذي هدف هذا المقال إلى توضيحه.
لم تكن الحضارة الطلونية ومنجزاتها وطرائق حياتها وأفكارها، بما في ذلك مثاليتها الذاتية، أكثر من مجموعة من النصوص، وإذا فهمنا هذا العالم كله باعتباره نصوصًا سنستطيع أن نرى النقطة الأعمق التي أرادها بورخس: يمكن للبنى المتخيلة أحيانًا أن تكون مؤثرة وخطرة كالادعاء المباشر بالحقيقة. في القصة، لا تتعرف الأرض إلى المثالية الذاتية لأول مرة عن طريق طلون، إذ أن بركلي كان قد عاش ومات منذ مائتي عام تقريبًا وقت كتابتها، لكن هذه الأفكار تجد طريقها إلى الأرض بسبب أسلوب تقديمها، لا قوة حجتها، لأن غموض الموسوعة وغرابتها الساحرة يجعلانها أكثر تأثيرًا من رسائل بركلي المشهورة. تستبق قصة بورخس بدرجة ما المقولة الدارجة لمارشال ماكلوان إن «الوسيط هو الرسالة»، وكان هذا الأخير قد دافع في كتابه «فهم الوسائط: امتداد الإنسان» (1964) عن اعتقاد مفاده أن الشكل الفني للعمل أهم من محتواه، ومن ثمَّ يجب أن تعتني الدراسة بالشكل أكثر من المضمون. حاول بورخس إيصال نفس الفكرة بدرجة ما، إذ لا يمكن لرسائل بركلي أبدًا أن تنتشر بين الجمهور كانتشار قصة عن كوكب مخترع يسكنه فضائيون مثاليون، ما يعني أن الأفكار ربما لا تغير العالم بذاتها، وإنما بطريقة تقديمها. يحذرنا بورخس إذَن من الاستهانة بخطورة أي فلسفة، لأنها ربما تستطيع الانتشار إذا أخذت صيغة جديدة، وأحيانًا إذا أخذت صيغة غريبة وعبثية.[8]
5.
بدأت هذه المقالة بالتساؤل عن التناقض الفج بين أدب بورخس ومقالاته النقدية، فما الذي انتهت إليه، وما علاقة كل هذه الثرثرة بهذا السؤال؟
الإجابة كالتالي: عمل بورخس في أدبه على تمحيص دور الأدب نفسه في حياتنا، وهو واسع الدراية بالمسألة نتيجة هوسه بالقراءة منذ الطفولة، وابتداءً من علاقته الشخصية بالأدب، استطاع أن يفهم بدرجة أعمق طبيعة النصوص والأفكار عمومًا. أدرك بورخس أن الأدب، على عظم شأنه، يمكن أن يكون خطرًا في تمرير أفكار لن تتلقى أي اكتراث في سياقات أخرى. كانت الكتب بالنسبة إلى بورخس مجازًا عن مجمل النشاط البشري، فمثلًا في قصته عن «مكتبة بابل» اللانهائية وسكانها التائهين تمثل الكتب استعارة عن المعرفة والمنجزات البشرية بكل ما تحويه من معان مراوغة. الأدب إذَن هو حامل الحكمة الإنسانية، لكنه يحمل كذلك تذكيرًا بأسوأ ما في الإنسان من نقائص، وهو أمر غير هين بالنسبة إلى بورخس، الذي يعبر في أدبه عن الرفض الأخلاقي للاحتفاء غير المتمايز بجميع النصوص، ويرى في هذا الاحتفاء تهديدًا دائمًا بانهيار العالم تحت وطأة كتابات قد تكون فعالة على الرغم من بربريتها.[9]
لهذه الأسباب، عندما يلعب بورخس دور الناقد، وهو وسيط بين النص وقارئه، فإنه يبدو شديد الجدية، وعلى إحساس ضخم بحيوية الدور ومسؤوليته. من، إن لم يكن هو، سيعرف التأثير المحتمل لكتاب ما على شخص يقرأ، ومن غيره رأى الوجود كله عبر عدسة الأدب؟ لم يكن بورخس عابثًا أو مخادعًا أو ساخرًا طوال الوقت، فعلى مستوى أعمق، وتحت طبقات من الميتا-أدب والصور الزائفة، يعثر المرء على مفكر مخلص ذي بوصلة أخلاقية صافية، وهو مستوى يتجاهله الكثير من قرائه. ليس هذا التجاهل غريبًا لأنه بالضبط مقصود بورخس: للأدب طرائقه التي يمرر عبرها أفكارًا أعمق (وأحيانًا أكثر شؤمًا)، وكثيرًا ما نفشل في إدراك دلالة هذه الأفكار.
ربما يبدو أمرًا مثيرًا للسخرية أن يكتب بورخس عن الخطورة المحتملة للكتب، لكنه أمر مفهوم كذلك، فقد أحب الأدب، لكن لا كما يحب طفل والده، دون تمييز أو شروط، وإنما كما يحب المرء شريكه: بتفهم وقبول للنقائص والخصال الشاذة والإخفاقات الشخصية، أي حب ناضج وذكي. الأدب نعمة بالتأكيد، أنفق بورخس حياته في التعبير عن امتنانه له، لكنه قد يصبح نقمة كذلك، وكما صنع الإنسان تمثال داود، فقد صنع حصان طروادة، وعلينا أن نتعلم التمييز بينهما.
[1] يشير لفظ القرين أو الشبيه (Doppelgänger) في استخدامه الشائع باللغة الإنجليزية إلى شخص يطابق في الشكل شخصًا آخر دون أن تربطهما صلة قرابة، لكن الكاتب يستخدمه هنا للدلالة على نسخ بورخس التي يقابل أحدها الآخر في قصصه، كأن يقابل بورخس العجوز نفسه شابًا أو العكس. (المترجم)
[2] اقترح بورخس في موضع آخر أن هذه العقيدة توفر نوعًا من التعزية عن عبثية الوجود، فيقول على لسان القاص في نصه الشهير «مكتبة بابل» إن بعض الناس يؤمنون بلانهائية المكتبة، فيما يعتقد آخرون بمحدوديتها، أما هو فيؤمن بالاثنين معًا: «سأقدم حلًا جريئًا لهذه المعضلة القديمة: المكتبة غير محدودة، لكنها دورية، أي أن متجولًا أبديًا يسير داخلها في أي اتجاه سيجد، بعد زمن من قرون طويلة، أن المجلدات نفسها تتكرر بالعشوائية نفسها (وهذه العشوائية في تكرارها هي النظام). إن شعوري بالوحدة يبتهج أمام هذا الأمل رائع الإتقان».
[3] أي كيف لا تعمل كعمل القصص التقليدية، بسبب الإزاحة التي يشير إليها الكاتب في الجملة التالية، أي نقل مركز الدراما خارج نص القصة أساسًا، في المساحة الوسيطة لتفاعل القارئ مع العمل، وهو السبب في بنائها ذي المظهر «المبتسر»، كما لو كانت دائمًا جزءًا من نص ناقص. (المترجم)
[4] كانت فيكتوريا أوكامبو مؤسسة «سور» شخصًا ملهمًا ربما يستحق الكتابة عنه منفردًا، كنظير لاتيني لجيرترود شتاين، كتبت كثيرًا في النقد الأدبي، خصوصًا عن فيرجينيا ولف وتوماس إدوارد لورنس، وكانت ناشطة سياسية مخلصة حتى أنها سُجنت لمعارضتها خوان بيرون (رئيس الأرجنتين بين 1948 و1955، ثم مجددًا بين 1973 و1974، وزوج الممثلة الشهيرة إيفيتا)، ويمكن اعتبار عملها التحريري في «سور» أهم إنجازاتها، بالنظر إلى نشرها الأعمال المبكرة لكُتَّاب كبورخس وخوليو كورتاثر وألبير كامو وإرنستو ساباتو.
[5] تستحيل الكتابة عن بورخس دون اللجوء لمجازاته، ولا أقصد تقديمها للقارئ وشرحها، وإنما إعادة استخدامها، وهو أمر فشلت في تجنبه مهما حاولت. سبب هذا أن القصة التي يكتبها بورخس عادةً تتخذ موضوعًا لها فكرة، ويكون لها في الآن ذاته نفس البناء الذي تدل عليه هذه الفكرة، وهو شيء كان بورخس يفعله واعيًا بالطبع.
[6] أليس هذا بالضبط ما يحاول بورخس فعله، أي أن يخترع مكتبة؟ لكن لأنه لا يستطيع أن يؤلف وحده عدد الكتب الكافي لملء مكتبة، فإنه يكتفي باختراع عالم يستطيع أن يسحب من على رفوف مكتبته اللانهائية أي مجلد كان.
[7] يشعر المرء إذ يكتب عن بورخس أنه يقع في فخاخه الساخرة بإضافة المزيد إلى المزيد من النقد الأكاديمي، بطريقة تؤكد مقاصد بورخس وتدفعه في الوقت نفسه إلى المساحة النخبوية التي كانت موضوعًا لتهكمه. هذا المقال مثلًا أصبح بالفعل أطول من طلون وأوقبار والفلك الثالث نفسها، فأي مضيعة وقت هذه؟!
[8] دونالد ترامب؟
[9] فكر في السيرة الذاتية لهتلر مثلًا، وإن كانت كتابات نيتشه الفلسفية مثالًا أبرز، بعد أن أعيد تأويلها لخدمة العقيدة النازية عن تفوق العرق الآري. وفق إعادة القراءة هذه (وإن كان بعض الباحثين يعتقدون أن هتلر لم يقرأ نيتشه أبدًا، أو على الأقل لم يقرؤه جيدًا)، سيحل الإنسان الأعلى بإرادته للقوة محل الآلهة القديمة، وكان المشروع النازي محاولة لتحويل هذه المفاهيم إلى واقع، بطريقة كان نيتشه ليجدها منفرة ومغلوطة، بالضبط كما كان سيجد الطريقة التي أسيء بها فهمه. أصيب نيتشه بالجنون عام 1889.