فرضيات حول القصة القصيرة
ريكاردو بيجليا*
1 أغسطس 2011
ترجمة: محمد عبد النبي
* ريكاردو بيجليا: قاص وروائي أرجنتيني، وُلد في 24 نوفمبر 1941 بمدينة آدروجي، حاصل على العديد من الجوائز مثل «برميو بلانيت». قام لوقت طويل بتدريس أدب أمريكا اللاتينية في الولايات المتحدة، من أهم رواياته: «تنفس صناعي»، «المدينة الغائبة»، «مال محترق»، «هدف ليلي». ومن مجموعاته القصصية: «العدوان»، «اسم حركي»، «سجين أبدي»، و«حكايات أخلاقية». توفي في يناير عام 2017
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
1
في أحد دفاتره سجَّل تشيخوف النادرة التالية: «رجل في مونت كارلو يذهب إلى كازينو للقمار، يربح مليونًا، يعود لمنزله، ينتحر». في تلك النواة لقصة مستقبلية لم تُكتب، يتكثف الشكل التقليدي للقصة القصيرة. فعلى عكس المتوقع والمتعارف عليه (مقامر – يخسر – ينتحر)، فالخدعة هنا تتمثل في المفارقة. في هذه النادرة تنقطع الصلة ما بين قصة المقامرة وقصة الانتحار، ويُعد هذا الانقطاع أساس تحديد الطبيعة المزدوجة لشكل القصة. الفرضية الأولى: دائمًا ما تحكي القصة القصيرة قصتين اثنتين.
2
القصة القصيرة الكلاسيكية – على طريقة إدجار آلان بو وهوراشيو كيروجا(1) - تسرد القصة الأولى (حكاية المقامرة) في الصدارة، وتبني القصة الثانية (حكاية الانتحار) خلسةً. ويكمنُ الفن الخاص بكاتب القصة القصيرة في كيفية تشفير القصة الثانية داخل فواصل وصدوع القصة الأولى. قصة مرئية تخفي حكاية سرية مروية بصورةٍ مضمرة ومتشظية. ويحدث تأثير المفاجأة عندما تظهر نهاية القصة السرية على السطح.
3
تُحكى كلٌ من القصتين بطريقةٍ مختلفة. والعمل مع قصتين يعني العمل مع نظامين مختلفين من السببية. فالأحداث نفسها تدخل بالتزامن إلى منطقين سرديين مُتعارضين. العناصر الأساسية للقصة تلعبُ دورًا مزدوجًا، ويتم استخدامها بطريقتين مختلفتين في كلٍ من القصتين. والنقاط التي يتقاطعان فيها هي أساسات بنية القصة.
4
بعد مستهل قصة بورخيس «الموت والبوصلة» بقليل، يُقرر صاحب متجر أن يطبعَ كتابًا. يوجد هذا الكتاب هنالك لأنه ضروري لإطار القصة السرية. كيف يُمكن ترتيب الأمور بحيث يكون رجل عصابات مثل رِد سكارالاش مُلمًّا بالتراث اليهودي المعقد، وبارع لدرجة أن ينصب فخًا صوفيًا وفلسفيًا ليقع فيه لونروت؟ الكاتب، بورخيس، يضع في متناوله هذا الكتاب بحيث يمكنه أن يثقف نفسه. وفي الوقت نفسه يستخدم القصة الأولى من أجل تمويه ذلك الدور: يبدو كأن وجود الكتاب هناك مرتبطًا بمقتل يارمولنسكي، انعكاس سببية المفارقة. بنص القصة: «وعملَ أحد أصحاب الدكاكين، الذين اكتشفوا أن أي رجل يمكن أن ينصاع لشراء كل كتاب يظهر، على عرض طبعة شعبية من كتاب تاريخ طائفة الهيدسيين».(2) ما هو حشوٌ زائد في قصة يُعد جوهريًا في الأخرى. إن كتاب صاحب الدكان ليس سوى مثال ( شأنه شأن مجلد ألف ليلة وليلة في قصة «الجنوب»، أو الندبة في «وسم السيف») على المادة الغامضة التي تُنجِح آلية السرد المجهري للقصة.
5
القصة القصيرة هي حكاية تنطوي على حكاية سرية. والمسألة هنا لا تتعلق بمعنى خفي يعتمدُ على التأويل: فاللغز ليس سوى قصة مروية بطريقة مُلغزة. توضع إستراتيجية الحكاية في خدمة السرد المشفّر والمضمر. كيف تحكي حكاية بينما يتم سرد حكاية أخرى؟ في هذا السؤال تجتمع المشكلات التقنية للقصة القصيرة. الفرضية الثانية: القصة السرية هي مفتاح الشكل في القصة القصيرة.
6
النسخة الحديثة للقصة القصيرة التي ورثناها عن تشيخوف، وكاثرين مانسفيلد، وشيروود آندرسن، وأهالي دبلن لجويس، تتخلى عن النهاية المفاجِئة وعن البنية المحكمة؛ إنها تُحدثُ التوتر ما بين القصتين دون أن تحلّه بالمرة. ويتم سرد القصة السرية بطريقةٍ أكثر مُراوغة. القصة القصيرة الكلاسيكية على طريقة إدجار آلان بو تروي قصة بينما تُعلن أن هناك قصة أخرى؛ أما القصة القصيرة الحديثة فهي تروي قصتين كما لو أنهما قصةً واحدة. وما طرحه هيمنجواي في «نظرية كتلة الجليد العائمة» هي أول تركيب بين نقيضين في تلك العملية من التحويل: الشيء الأكثر أهمية لا يتم سرده أبدًا. وتُبنى القصة السرية مما لا يُقال، من الإيحاء المتضمن والإلماح.
7
قصة «النهر الكبير ذو القلبين»، إحدى حكايات همنجواي التأسيسية، يتم تشفير القصة الثانية (تأثير الحرب على نيك آدامز) إلى الحد الذي تبدو فيه القصة القصيرة وصفًا مبتذلًا لرحلة صيد سمك. يُكرس هيمنجواي كل مهارته للسرد المضمر والمشفّر للقصة السرية. إنه يتقنُ فن الحذف بدرجة من المهارة تنجح في جعلنا ننتبه لغياب القصة الأخرى. ما الذي يفعله هيمنجواي بنادرة تشيخوف؟ سيروي بأدق التفاصيل اللعب وأجواء المقامرة، وأسلوب المقامر في وضع رهاناته، ونوع مشروبه، دون أن يقول أبدًا إن الرجل سوف ينتحر، لكنه سيكتب القصة كما لو أن القاريء يعرف هذا مُسبقًا.
8
يروي كافكا القصة السرية بوضوح وبساطة، ولكنه يروي القصة المرئية خلسةً، إلى الدرجة التي يحوِّلها معها إلى شيء مُبهم ومُظلم. هذا التبديل هو أساس «الكافكاوية». كان كافكا ليضع حكاية الانتحار الخاصة بنادرة تشيخوف في الصدارة، ويرويها كما لو كانت شيئًا طبيعيًا كليةً. والجانب الفظيع من القصة سيتركز حول المقامرة، والتي ستروى على نحوٍ مُضمَر ومُهدِد.
9
بالنسبة لبورخيس تُعد القصة الأولى هي الشكل المتغير والقصة الثانية هي ذاتها على الدوام. وبغرض تخفيف أو إخفاء رتابة هذه القصة السرية، يلجأ بورخيس إلى التنويعات التي توفرها له تلك الأنواع السردية. وتنبنى جميع القصص القصيرة لبورخيس عبر هذا الإجراء. كان بورخيس ليروي القصة المرئية، القصة القصيرة، في نادرة تشيخوف وفقًا للقوالب الجاهزة (بعد أن يلونها قليلًا بلون المحاكاة الساخرة)، تلك القوالب الخاصة بنسق أو أسلوب أدبي متعارف عليه. لعبة ورق بين بعض رعاة البقر من سكان أمريكا الجنوبية على الطريق (لنقل مثلًا) في الغرفة الخلفية لأحد المخازن، في مراعي انتري ريوس، يحكيها أحد الفرسان العجائز الذين خدموا تحت إمرة إركوزيا، وصادق هيلاريو أسكازوبي(3). وسوف تُبنى حكاية الانتحار انطلاقًا من ازدواجية حياة الإنسان وتكثفها كاملةً في مشهدٍ واحد أو في فعل واحد يحدد مصيره.
10
التنويع الأساسي الذي قدمه بورخيس لتاريخ القصة القصيرة يتمثل في تحويل البنية المضمرة للقصة الثانية إلى تيمة للحكاية. يروي بورخيس مناورات شخصٍ ينسج بانحراف مؤامرة سرية مستخدمًا مواد القصة المرئية. في «الموت والبوصلة» تُعد القصة الثانية بناءً متعمداً من سكالاراش. والأمر ذاته يصدق على آزيفيدو بانديرا في «الرجل الميت» وكذلك نولان في «ثيمة الخائن والبطل». كان بورخيس يعرف (شأن بو وشأن كافكا) كيف يحوِّل مشكلات الشكل السردي إلى حكاية.
11
تُبنى القصة القصيرة على هذا النحو لتُظهر على السطح شيئًا كان قد تم إخفاؤه. تعيد إنتاج البحث المتجدد باستمرار عن التجربة الفريدة التي تتيح لنا أن نرى حقيقةً سرية تحت السطح الكابي للحياة.
قال رامبو: «الرؤيا اللحظية التي تكشف لنا المجهول، ليست هناك في أرض مجهولة وغامضة، لكنها في قلب الحاضر المباشر». هذه الاستنارة الوثنية قد أصبحت هي شكل القصة القصيرة.
- 1) هوراشيو كيروجا (1878 – 1937): قاص وشاعر ومسرحي من الأوروجواي.
- 2) «الموت والبوصلة» (1942) تُبدأ بمقتل عالم تلمودي، مارسيل يارمولينسكي، في غرفة فندق. وبحافزٍ من ملاحظة مكتوبة في مسرح الجريمة، يشتبه التحري إيريك لونروت بوجود صلة تربط القتل بمذاهب التصوف اليهودي. وتقع جريمة قتل ثانية، وثالثة، مع رسالتين مماثلتين متروكتين في مسرحي الجريمة. يستنتج لونروت أنه ستكون هناك جريمة رابعة – وبالتالي تكتمل الحروف الأربعة لتيتراجراماتون، الاسم المجهول ليهوه – وبالربط ما بين أماكن الجرائم السابقة على خريطة، يتصور موقع الجريمة التالية. ولكنه ما إن يصل إلى هناك حتى يكتشف أنه وقع في فخ أعده له رجل العصابات رد سكالاراش، الذي ارتكب جرائم القتل وزرع تلك الأدلة الصوفية الملغزة بدقة وعناية حتى يقتاده إلى هلاكه. [تم الاعتماد على ترجمة إبراهيم الخطيب للقصة، في مجموعة لبورخيس صادرة عن دار منشورات نجمة، الدار البيضاء، 1992، تحت عنوان: الدنو من المعتصم – المترجم]
- (3) جاستو جوزيه إركوزيا (1801-1870): محارب وسياسي أرجنتيني، ومن الأعلام البارزة في مناهضة الزعيم خوان مانويل دي روساس خلال الحرب الأهلية الأرجنتينية الطويلة؛ ورئيس البلاد في الفترة من 1854 وحتى 1860. هيلاريو أسكازوبي (1807-1875): شاعر أرجنتيني، النموذج المبكر لأدب «الجاتشو» أو رعاة البقر في أمريكا الجنوبية.