الأيديولوجيا اللغوية

مقال لشهاب الخشاب

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

***

عن 123RF

إيه الفرق بين الفصحى والعامية؟ الفرق واضح بالنسبة لمعظم الناطقين باللغة العربية: الفصحى هي لغة القرآن، لغة متميزة وراقية وغنية ونحوية وباشاوية، والعامية هي لغة الشارع، لغة عادية وشعبية وفقيرة وملعبكة وسرسجية. اللغة العربية الصحيحة هي اللغة الفصحى، واللغة اللي الناس بتتكلمها في البيوت والقهاوي والإعلام عبارة عن إهانة للعربي.

لما الواحد ييجي يدقق في التصورات الصارمة دي، هيلاقي إن الثنائية بين الفصحى والعامية مابتوصفش اللغة العربية بشكل دقيق. أيّ واحد بيقرأ وبيكتب فاهم إن فيه فرق بين لغة القرآن ولغة الفقه ولغة الصحافة ولغة الأدب، ولو إن كل المستويات دي متجمّعة تحت مسمّى «الفصحى»، وكذلك أي واحد مصري عارف إن فيه فرق بين لغة الإذاعة والتلفزيون ولغة تجار الشوارع ولغة التشات على الفيس، ولو إن كل المستويات دي متجمّعة تحت مسمّى «العامية».

إيه اللي يخلّي الواحد يصمم إن مافيش إلا فرق واحد وصريح بين الفصحى والعامية، ومايفكرش في الفروق بين المستويات الثانية دي؟ الإجابة حسب عالم الاجتماع اللغوي مايكل سيلڤرستين (Michael Silverstein) إن الفرق بين المستويين اللغويين بيعتمد على الـ «أيديولوجيا اللغوية» السائدة.

في مقال عنوانه «بنية اللغة والأيديولوجيا اللغوية»، سيلڤرستين كان عايز يفرَّق بين مفهومين لـ«اللغة» بنجمع بينهم في كلامنا اليومي: أولًا المفهوم البنيوي، اللي بيعتبر إن أي لغة لها مكوّنات موضوعية زي الأصوات المرتبطة بالحروف، والكلمات المتكونة بناءً على جذور ثلاثية، والجمل المبنية على أسس نحوية وبلاغية؛ والمفهوم الثاني هو المفهوم الأيديولويجي، اللي بيعتبر إن أي لغة غارسة في المعتقدات والتصورات المسبقة عن وضع اللغة في حياة الناس اللي بتتكلمها.

المفهوم البنيوي هو مفهوم علماء اللغة، اللي بيفصصوا ويقزقزوا كل عضماية في اللغة عشان يفصلوا مكوّناتها عن بعض، من أول فتفوتة اللحمة لغاية أصغر قطعة في الجسم كله. المفهوم ده بيقابل مشكلتين أساسيتين: أولاً إنه لازم يموِّت اللغة ويمص عضمها عشان يفهم مكوّناتها من غير ما يحطها في سياقها الحيوي، اللي هو السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي اللي اللغة بتعيش فيه مع بقية البشر. المشكلة الثانية إن اللغة بالمفهوم البنيوي مالهاش إلا وصف موضوعي واحد، حتى لو إحنا كلنا عارفين إن معاني الأصوات والكلام والجمل بتتفسّر بأشكال مختلفة حسب السياق اللي بتتنطق فيه والناس اللي بتسمعه أو بتقراه أو بتكتبه.

لو عايزين نفهم اللغة في الإطار ده، لازم برضه نفهم إزاي الناس اللي بتستخدم اللغة فاهماها، وإزاي السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي بيأثّر في المعتقدات والتصورات اللي عندهم عن اللغة. المعتقدات والتصورات دي مش «أيديولوجية» بالمعنى الماركسي التقليدي، يعني مابتعبَّرش عن أفكار الطبقة الحاكمة المهيمنة وبس، وإنما هي «أيديولوجية» بمعنى أوسع، لإنها بتبرر لاستخدام اللغة بشكل بيخبي الأسس البشرية لوجودها وتطورها.

يعني الفرق بين الفصحى والعامية مش فرق طبيعي وبنيوي، وإنما هو فرق في طريقة تفكير الناس عن اللغة، والناس دايمًا بتنسى إن اللغة أصلًا نتيجة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية. بالتالي اللي بيصمم إن اللغة العربية الفصيحة هي اللغة الوحيدة الصحيحة ما بيتسندش إلى عوامل لغوية بنيوية وبس، وإنما بيستند برضه إلى أيديولوجيا ظهرت في ظروف تاريخية محددة بتعتبر إن المثقف الجاد هو اللي يقدر يقرأ ويكتب بالفصحى، وإن الفصحى أصل الكلام من أول ما نزل القرآن، وإن الدولة لازم تدعم الفصحى وتحارب العامية في سبيل التحضّر الثقافي، وإن العامية مجرد لغة شفاهية شعبية مالهاش ثقل ولا جدوى فكرية.

طبعاً الأفكار دي مش دقيقة، بدليل إن بعد ثورة 25 يناير، بقى فيه مثقفين كثير بيكتبوا بالعامية أونلاين، والثقل الثقافي والفكري اللي بيكتبوا به مالوش علاقة بالمستوى اللغوي اللي بيستخدموه. وبنفس المنطق، الحاجات اللي بتتكتب بالفصحى في المجلات والجرائد مالهاش ثقل أكبر لمجرد إنها مكتوبة بالفصحى. ولكن مهما كان الواحد واعي بده، التفرقة بين الفصحى والعامية هتفضل موجودة في التفكير السائد عن اللغة العربية طالما التراتبية والاستعلاء هيفضلوا موجودين في الحياة الاجتماعية اليومية.


اقرأ المزيد: الفاعل وجهاز التفتيش