الشَّيْخان.. من مراسلات هِرمان هِسَّه وتوماس مان

عرض وترجمة: أحمد الزناتي

المقال خاص  بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


صورة لتوماس مان على اليمين وهرمان هسه على اليسار

في الفترة من سنة 1910 حتى سنة 1955  توطّدتْ أواصر صداقة قويَّة بين أكبر أديبيْن مثَّلا الأدب الألماني في النصف الأول من القرن العشرين: توماس مان (1875 – 1955) وهِرمان هِسَّه (1877- 1962). وقد مرَّت هذه الصداقة بمراحل تخللتها شوائب الغيرة أحيانًا، وغمرتها مشاعر الإعجاب والتقدير المُتبادل في معظم الأحيان. المفارقة أنَّ الصداقة جمعت بين قطبيْن متمايزيْن من ناحية الأفكار والأسلوب وتقنيات الكتابة. توماس مان نموذج واضح لابن التقاليد البرجوازية، فوالده تاجر ثري من أبناء هامبورج، اجتماعي، جريء، نجم المحافل الأدبية والاجتماعية في عصره، الابن البار  للحضارة الأوروبية وواحد من المحافظين على إرث الكتابة الروائية الكلاسيكية (مثلما نرى بوضوح في رواية «آل بودنبروك»)، والملحمية أحيانًا (مثل روايته التاريخية «يوسف وإخوته») بينما هِرمان هِسَّه مثال لصوت الفنان الصارخ في البرية، هو الفنان الزاهد في كل شيء بعدما رأى كل شيء وقرأ كل شيء، هو الرومانسي المتمرِّد على مادية الحضارة الغربية، المستهتر بالبناء الشكلي المُحكم للرواية على نحو ما نرى في روايته الأشهر «لعبة الكريات الزجاجية». 

بقيت هذه المراسلات المهمّة حبيسة أدراج أسرتي الأديبيْن الراحليْن، حتى قررت دار نشر «زوركامب» الألمانية جمعها لتصدر للمرة الأولى سنة 1968، وقد ضمَّت، إلى جانب الرسائل، صورًا فوتوغرافية للكاتبيْن في سويسرا وإيطاليا وغيرها. تلتها طبعات جديدة، مزيدة ومنقّحة عن دور نشر أخرى، آخرها سنة 2007 عن دار نشر «س. فيشر»، في طبعة شعبية للجيب.

مُحرِّر الكتاب فولكِر ميشلز (الذي قضى حياته كلها منقبًا في تراث هِسَّه المحفوظ في أرشيف مارباخ الأدبي، وما يزال يُصدر أعمالًا جديدة آخرها السنة الماضية رغم تجاوز الرجل السبعين سنة) يُصدّر كتابه باقتباس لافت عن علاقة الأديبين: 

«يروي لنا الناقد الأدبي السويسري أوتو بازلر حكاية شائقة عن علاقة الأديبيْن. كان تربطه علاقة صداقة وطيدة بالكتابين (هِسَّه ومان)، حتى أن كليهما زاره في منزله بقرية أرجو. في السادس من يوليو سنة  ١٩٥٠، حينما وقف توماس مان عند باب بيته، استقبله بازلر بعبارة ترحيب مُقتبسة من مسرحية الكاتب المسرحي الشهير شيللر [فريدريش]  تقول: «ضيف جليل وغالٍ، لم يطأ عتبة هذا الباب رجل أعلى منك مقامًا ولا أعز  قدرًا»، فما كان من توماس مان إلا أن توقف لحظة، ونكص خطوة إلى الوراء قائلًا: «صديقي العزيز، ولكن ألم يزركَ هِرمان هِسَّه قبل وقت قصير؟»  فأجاب بازلر: «صحيح، ولكنه دخل المنزل من الباب الثاني»».


إلى جانب كشفه جوانب خفية من شخصيات الأديبيْن الكبيريْن، يُسلِّط الكتابُ الضوءَ على العديد من الاختلافات الجوهرية بين كليهما على المستويات السياسية والأدبية والحياتية أيضًا. جرى اللقاء الأول بين مان وهِسَّه مطلع سنة 1904 في مدينة ميونيخ بمقرّ دار «س. فيشر»، حين وجَّهتْ الدارُ الدعوةَ للأديبيْن من أجل الاجتماع في جلسة تعارُفٍ ودِّية تحت رعاية صاحب الدار. في ذلك الوقت كان توماس مان، ابن الثمانية وعشرين ربيعًا، قد بدأ يلفت أنظار الأوساط الأدبية بعد صدور روايته «آل بودنبروك» سنة 1901، بينما كان هِرمان هِسَّه لا يزال يتلَّمس خطواته الأولى كروائي ناشئ من خلال روايته «بيتر كامِنتسيند». يقول هِسَّه عن اللقاء الأول بينهما:

«كنا لا نزال في بواكير الشباب، وكان هذا هو القاسم المشترك الوحيد.. فيما عدا ذلك، كان التباين واضحًا على مظهريْنا، في الملبس وفي شكل الحذاء أيضًا». إلا إن ذلك الاختلاف لم يمنع هِسَّه من الإعراب عن إعجابه الشديد بأدب توماس مان. ففي رسالة أخرى مُؤرَّخة في 31 ديسمبر 1918 يقول هِسَّه: «آل بودنبرك رواية تنمّ عن تأمُّلاتٍ اجتماعية ثاقبة، فضلًا عن جزالتها اللغوية الواضحة وتحليلها النفسي الرصين، مما يؤهلها لأن تصير بحق أروع وأسمى ملحمة عائلية كُتبِتْ في الأدب الألماني الحديث». 

استمرَّت المراسلات شهورًا، حتى خفّتْ وتيرتها تدريجيًا، اللهم إلا من خطابات قليلة أرسلها هِسَّه إلى مان بعد نشوب الحرب العالمية الأولى، ومشاركة هِسَّه مع الجيش الإمبراطوري (جيش الرايخ الثاني) في الحرب العالمية الأولى، وعمله في رعاية أسرى الحرب. طلب فيها هِسَّه من صديقه الثري توماس مان إقراضه بعض المال والكتب بسبب ظروف الحرب. ثم توقَّفت الرسائل تمامًا بسبب الظروف النفسية السيئة التي ألمَّت بهِسَّه، وإصابته بالاكتئاب بعد انفصاله عن زوجته الأولى ودخولها مصحَّة نفسية للعلاج.


في سنة 1919 دخلت صداقة مان وهِسَّه مرحلة جديدة، وتحديدًا بعد قراءة توماس مان لرواية هِسَّه «دميان»، التي نشرها هِسَّه في البداية باسمٍ مستعار، لعدم رغبته في الظهور باسمه الأدبي القديم الذي شهد انفصاله عن عائلته وآلامه النفسية العميقة، فأراد للرواية أن تكون بدايةً جديدة له على الصعيديْن الأدبي والشخصيّ.

قال توماس مان في إحدى رسائله عن رواية دميان: «قرأتُ هذه الرواية بمزيد من المشاركة الوجدانية والانتباه لكافة التفاصيل، وبمزيد من القلق أيضًا، فعنصر التحليل النفسي داخلها بدا لي أكثر عُمقًا وأرهف حسًّا مما قدَّمته في روايتي (الجبل السحري)». 

أرَّختْ هذه الرسالة لمرحلةٍ يسميها النُقَّاد مرحلة «الشعور بالتنافس والغيرة». إذ يشير مُحرِّر الكتاب فولكر ميشيلز إلى أن توماس مان قد شعُر أنّ هِسَّه لن يصير نِدًّا روائيًّا بارعًا فحسب، بل ومنافسًا أشدّ خطورة في تأثيره على جمهور القُرَّاء. 

لم يترك مان ذلك يمر مرور الكرام، فكتب رسالة أظهرَ فيها نقدًا لا يخلو من لومٍ يختبئ وراء روح النقد الفني، مُصوِّبًا سهامه إلى جماليات رواية «دميان»:

«لكني لاحظتُ أنَّ التناقض الأسلوبي في روايتكَ مَرده إلى أن الحكاية تكشف عن حياة المؤلف أكثر مما تُظهِر حياة بطل الرواية، حتى أنها تتحول شيئًا فشيئًا إلى قطعةٍ نثرية عن روحك. وهنا يُجانبكَ الصواب. كان على البناء أن يكون أشد حِرفية وأكثر التصاقًا بالخيال».  أسرَّها هِسَّه في نفسه ولم يُبدها، ونأى بنفسه عن ركل هجمة مرتدة، ففي رسالته ردًا على رسالة مان قال هِسَّه: «أشكركَ على رسالتكَ. في ظل فقر المنتج الأدبي الألماني حاليًا، علينا أن نسعد بامتلاكنا مثل هذه الجودة الأدبية التي تمثِّلها رواية «الجبل السحري»». 

الحقيقة –والكلام هنا لمُحرِّر الكتاب- أن هِرمان هِسَّه كان قد أفاد كثيرًا من دروس علم النفس التحليلي التي تلقّاها على يد عالم النفس السويسري الأشهر كارل جوستاف يونج، وكذا من نظرية «أنماط الوعي الأولي» التي طوَّرها يونج، وتشرَّبها هو في أثناء تلقيه جلسات التحليل النفسي في عيادة يونج في سويسرا، وهي التجربة التي كان يفتقر إليه توماس مان. وفي الرسالة نفسها مدح مان رواية هِسَّه «ذئب الأحراش» المنشورة سنة 1927، التي كان لها الفضل في وضع هِسَّه في أول الطريق لجائزة نوبل، بترشيح توماس مان نفسه.

يقول مان: «يومًا بعد يوم تصير ذائقتي أشدَّ صرامة وصعوبة في موضوع القراءة، فمعظم ما أطالعه بارد لا روح فيه، ولأول مرَّة منذ أمد بعيد تُعلِّمني رواية (ذئب الأحراش) كيف ينبغي أن تكون القراءة». 

رسالة من توماس مان مُؤرَّخة في 27 يونيو 1931:

«حضرة المحترم السيد هِرمان هِسَّه: هذا خطاب خاصّ شخصي للغاية، لكن فحوى الخطاب متصل بأمورٍ مهمة إن قبلتَ محتواه. لعلك تذكر محادثاتنا في سان موريتز [بلدية سويسرية تقع في مقاطعة جراوبوندن] حول قسم الآداب والشعر في الأكاديمية البروسية للفنون، وحول تقدُّمك بالاستقالة من مجلس الإدارة، ثم طرح إمكانية معاودة الانضمام إليها ثانية. بمزيد من الحذر والتقرُب حاولتُ جسَّ نبضكَ فيما يتعلق بإمكانية إعادة التفكير في الأمر، لكنني لم أصادف تحمُّسًا واضحًا من جانبك، ولا رفضًا قاطعًا في الوقت ذاته. أذكر أنك قلتَ آنذاك إن قرارًا سريعًا بالعودة بعد تقديم الاستقالة سيخلق انطباعًا أنك رجل لا تأخذ الأمور على محمل الجد. أما اليوم فانتخابات الأكاديمية ستُعقد في شهر يناير المقبل، وعدد المُتقدِّمين إلى الترشح ضئيل، لن يتجاوز الأمر خمسة شعراء أو ستة على أكثر تقدير. وفي اجتماع الأكاديمية الأخير الذي حضرتُه بنفسي، أعربتُ أمام الجميع عن حُلمي بأن تسترد الأكاديمية البروسية للفنون كنزًا اسمه السيد هِرمان هِسَّه، ولم أسمع إلا أصواتًا مُرحِّبة بعودتك إلى مجلس الأكاديمية، ولم ألمس سوى ترحيبًا حارًا بفكرة إعادة انتخابك [....]. أطيب التمنيات، وأتمنّى -عزيزي السيد هِسَّه- أن تمعن التفكير في الأمر مرة ثانية، وأن تخطرني إذا ما كانت لديك خططًا بتقديم طلب جديد بالترشح..  المخلص توماس مان». 

وكان ردّ هِرمان هِسَّه في رسالة مؤرخة في أوائل ديسمبر 1931: 

«عزيزي السيد توماس مان: وصلني خطابك الرقيق بينما كنتُ في رحلة استشفاء في مدينة (بادِن). كان بصري مجهدًا غاية في الإجهاد حتي أنني عجزتُ عن الردّ عن الخطابات الواردة إليَّ كافة. أستميحكَ عذرًا إن كان ردًا عليك مقتضبًا. للأسف لا إمكانية عندي للتفكير في الموضوع. أقولها (لا) قولًا واحدًا دون مواربة. واسمح لي أن أشرح لك كيف طاوعني قلبي لرفض دعوة رجل غالٍ أحبّه وأجلّ قدرَه مثلك. سبب رفضي الانضمام إلى مؤسسة ألمانية رسمية هو تشكُّكي العميق إزاء جمهورية فايمار الألمانية، لقد نشأتْ هذه الدولة منزوعة الروح والقوام من قلب الفراغ الذي خلَّفته الحرب العالمية الأولى. في البداية وقفت إلى جوار ثورة سنة 1918(1) قلبًا وقالبًا إلا أن آمالي في بناء جمهورية ألمانية حقيقية ذهبت أدراج الرياح. لقد أخفقت الأمة الألمانية في تحقيق مآرب الثورة التي قام بها الناس، وفشلتْ في العثور على قوامها الخاص، وللأسف أعقبتْ هذه الثورة موجةٌ دموية من الأعمال الإرهابية. هكذا رأيتُ الأمور قبل فترة طويلة، وهكذا أرى القِلَّة القليلة من أصحاب النوايا الحسنة من الجمهوريين، أراهم لا حول لهم ولا قوة، لا يملكون رؤية مستقبلية. عزيزي توماس مان، لا أتوقّعُ منكَ بطبيعة الحال أن تشاطرني الرأي فيما أذهب إليه من أفكارٍ ورؤى. خالص تحياتي القلبية إلى زوجتك العزيزة، وإلى مادي، ولا تغضب مني إذا ما خيَّب هذا الخطاب رجاءكَ فيَّ، لكنني أعتقد أن مضمون خطابي لن يفاجئكَ كثيرًا، فأنتَ تعرف شخصيتي جيدًا. المحب، والموقِّر لشخصكم دومًا: هِرمان هِسَّه». 

وتتواصل الرسائل، ففي نهاية سنة 1933، وبعدما كتب مان إلى هِسَّه كلمات ثناءٍ رقيقة على مجموعة قصائد جديدة أرسلها الأخير إليه، ووصفها بأنها قصائد مفعمة بروح الحكمة والمودَّة، يجيب هِسَّه برسالةٍ يُعلِّق فيها على رواية مان الضخمة «يوسف وإخوته» قائلًا:

«قرأتُ روايتكَ (يوسف وإخوته) بمتعةٍ بالغة تستوجب الثناء. وعلى نقيض التصوُّرات السائدة عن الكتابة التاريخية، راقَ لي كل سطرٍ في الرواية، وعلى الأخص روح السخرية المترعة بالحزن التي تفحَّصتَ عبرها إشكالية العلاقة بين التاريخ والكتابة السردية. بالنسبة إليَّ، مع اعترافي باختلافي معك في أوجه عديدة، بل وتباين مصدر الاختلاف بيننا، اتسمَ العمل بالاتساق والتناغم الداخلي العميق. ناهيك عن أن الكتاب يمثِّل هديةً من السماء في ظل الأحداث الحمقاء التي نشهدها  حاليًا». 

وكان توماس مان قد أرسل  إلى هِسَّه الجزء الأول من روايته التاريخية الضخمة «يوسف وإخوته»، وهو بعنوان «حكايات يعقوب»، فأجاب هِرمان هِسَّه بخطابٍ إلى مان بشأن الرواية يقول فيه: 

«مونتانيولا، نهاية 1933.. عزيزي السيد مان: أنهيتُ قراءة (حكايات يعقوب) قبل فترة طويلة، وكنت أودُّ أن أرسلُ إليك بتحيةٍ واجبة، لكن حالت دون ذلك عطلة عيد الميلاد، فضلاً عن ضعف بصري، واضطراب أحوالي المعيشية هنا (حتى إن مساعدة زوجتي في نفقات المعيشة قد توقّفت). لكني أغتنم هذه الفرصة لأشكركَ شكرًا جزيلًا على المتعة الحقيقية التي غمرَتْني بعد قراءة الكتاب. في العمل تفاصيل كثيرة خلبَتْ لُبِّي، وتستحق الإشادة والتعليق، من أهمها توازن النص وعدم انقطاع الأحداث، إلى جانب تماسك النسيج الروائي للعمل، والنية الصادقة في بناء شكل سردي كُلِّي متكامل. أقرأ الآن -بحسب ما يسمح بصري الحسير- سيرًا ذاتية لآباء الكنيسة في القرن الثامن عشر، ولا أعرف إلى أي حد سيكون ذلك نافعًا. لكن هذه القراءات تُطوِّر من تصوُّري لخطة الرواية التي بدأت العمل فيها منذ سنتين، اللعبة الروحية الموسيقية/ الرياضية.(2) المنطقة هنا بيضاء تمامًا؛ الثلج يغطي كل مكان.. تحياتي الخالصة إلى زوجتك، وإلى مادي وبيبي، وأصدق التمنيات بمناسبة العام الجديد، المخلص هِرمان هِسَّه».  

نزلتْ رسالة هِسَّه السابقة بردًا وسلامًا على قلب توماس مان الذي كان حانقًا من الاستقبال المُخيِّب للآمال لروايته «يوسف وإخوته»، فكتب ردًا على رسالة هِسَّه: 

«لك أن تتخيَّل مدى الحُمق والوقاحة الذي استُقبِلت به رواية (يوسف وإخوته)، من أغلب القُرَّاء دونما استثناء تقريبًا. لقد صُدِمتُ فيهم، وأشفقتُ على جهلهم في الوقت ذاته حينما لمستُ فيهم هذا الكمَّ من العَنَت والخِتان الفكري، إنهم مختونون فكريًا! عزيزي السيد هِسَّه.. لقد هزَّتني كلماتُكَ الرقيقة الواعية حول الرواية، وأشكركَ من أعماق قلبي على سطور رسالتكَ».

رسالة أخرى بتاريخ مارس 1932:

«عزيزي السيد توماس مان: قرأتْ عليَّ زوجتي في الأيام القليلة الماضية كتابكَ عن جوته وتولستوي..(3) حقيقة أنني لم أفتتن - كما أفتتن عادةً- بصياغتكَ الواضحة والناصعة لفكرة النزعة الإنسانية في هذا العمل المدهش فحسب، ما جذبني أكثر -على غير عادة النمط الألماني التقليدي في المعالجة- هو أسلوبك الجريء الحادّ في طرح القضية، وهو أسلوب لم يلجأ إلى المهادنة والتبسيط المُخلّ وتجميل الحقائق، بل عَمَدَ إلى التحليل العميق. باختصار أودُّ أن أشكركَ على المتعة الحقيقية التي مُنيتُ بها بعد قراءة الكتاب». 


كان هِرمان هِسَّه قد أرسل مخطوط روايته «لعبة الكريات الزجاجية» إلى توماس مان لقراءتها، وجاء ردّ مان إيجابيًا مشجعًا، فكتبَ إليه هِسَّه خطابًا مُؤرَّخًا في 8 مايو 1945 يقول فيه: 

«قبل بضعة أيام وصلتْني رسالتكَ التي تكلَّمتَ فيها عن تجربتك مع قراءة رواية (لعبة الكريات الزجاجية). وقد غمرَني خطابكَ بسعادةٍ هائلة، ولا سيما ملاحظاتكَ بشأن الفقرات المرِحة داخل الرواية. يبدو أن قدرتك على الإنتاج تفوقني بمراحل، فطوال أربع سنوات لم أفعل شيئًا سوى كتابة بضع أبياتٍ شعرية، لكنني سعيدٌ على أية حال بأنني أنهيتُ كتابة حياة يوزيف كنيشت قبل أن تخور قواي. ناهيك عن الستة أشهر التي قضيتُها في برلين، محاولًا الوفاء بالتزاماتي مع الصديق الوفي السيد بيتر زوركامب (الذي لبث فترةً رهن الاعتقال في سجن الجستابو، ثم أطلِقَ سراحه منهك القوى ليودَع في مستشفى بوتسدام التي طالها القصف بعد ذلك [يقصد القصف بمعرفة الأمريكان]، لا أعلم هل زال الوفاء من الدُنيا!»

تجدر الإشارة إلى حالة القمع التي مُنيتْ بها الدولة الجريحة في تلك السنوات بعد سقوط الرايخ الثالث. كان قد عيَّن المحتلّون الأمريكيون العميلَ الألماني هانز هابِه ليكون مسؤولًا عن الصحافة الألمانية في المناطق التي احتلتها الولايات المتحدة بعد سقوط هتلر، وقد اتهمَ هابِه هِرمان هِسَّه في خطابٍ شهير بأنه لم يحذُ حذوَ توماس مان وشتيفان تسفايج في ملاحقة النظام السابق بالدعاوي القانونية، راميًا إياه بالخنوع والانزواء في قرية تسين بسويسرا، مختتمًا خطابه بالكلمة التالية: «لا نعتقد أننا سنمنح هِرمان هِسَّه إذنًا بأن يتكلَّم في ألمانيا مرة أخرى». 

وقد كتب هِرمان هِسَّه إلى توماس مان قائلًا: 

«لقد وجدَتْ الوزيرة البرلينية أن كتاب لعبة الكريات الزجاجية عملًا غير مرغوبٍ به، وها قد حُجِبَ العمل عن الجمهور، اللهم إلا آحاد القُرَّاء في سويسرا». 


في الفترة من سنة 1933 وحتى سنة 1955، دخلت علاقة مان/ هِسَّه منعطفًا جديدًا على خلفية أسباب سياسية واجتماعية. فبعد انتخاب الإشتراكين القوميين بمعرفة البرلمان وتوليهم سدَّة الحكم في ألمانيا، أحسَّ توماس مان، سيد الأدب الألماني الحديث بعد تتويجه بجائزة نوبل في الأدب سنة 1929، ووريث عرش جوته، أن ألمانيا لم تعد مكانًا ملائمًا للعيش. وفي سنة 1936 سُحِبتْ منه الجنسية الألمانية لمواقفه العنيفة ضدّ الاشتراكيين القوميين، فقضى بضع سنوات في السويد، ثمّ سافر بعدها إلى الولايات المتحدة كمنفى إجباري، مما انعكس سلبًا على حالته النفسية والذهنية. 

في أثناء فترة حكم الاشتراكيين القوميين، ورغم معارضته الواضحة لهم، لزم هِرمان هِسَّه الصمت، مُؤثِرًا الانغماس في الكتابة، رافضًا الانخراط في العمل السياسي لمحاربتهم، ولا سيما بعد حصوله على الجنسية السويسرية، رافضًا انتقادات توماس مان بالخنوع واللا موقف، ومتحفظًا على دعوة مان بالكتابة لمجلة Mass und Wert المناهضة لحكم الاشتراكيين القوميين. كتب هِسَّه رسالةً ردًا على انتقاد توماس له قائلًا:

«كنتُ -وما زلتُ- عند رأيي السابق: ينبغي ألا تصطبغ الحياة ولا البشر بصبغةٍ سياسية، وسوف أدافع عن موقفي بعدم الانخراط في السياسة حتى الرمق الأخير. يجب أن يكون هناك بشر عُزَّل لا يملكون سلاحًا غير أقلامهم، يموتون دون ذلك، وأنا مِن هؤلاء البشر. السياسة تعني التحيُّز لحزب أو لفريق، وإنسانيَّتي ترفض التحيُّز لحزب أو لفريق». 

ما جمعه الفن والأدب، فرَّقته السياسة، أو بالأحرى فرَّقته آليات التعامل مع السياسة. والحقيقة أنَّ اختلاف المواقف حفر هوَّةً واسعة بين الأديبيْن الكبيريْن. وكان لهذا الاختلاف أثرٌ نفسي سيء عليهما، وعلى الأخص على هِرمان هِسَّه، الذي شعر بإحباط عميق بسبب موقف أستاذه منه، وكان ساعتها قد شرع في كتابة روايته «لعبة الكريات الزجاجية»، فلم يستطِع مواصلة الكتابة بسبب الجفوة التي لمسها من توماس مان.

إلا أنّ هِسَّه، رغم تلك الجفوة، لم ينقطع عن الكتابة إلى صديقه الأثير، الذي كان قد بدأ في تجاهل رسائله، حتى أنَّ هِسَّه أرسل ليسألَ عما إذا كانت خطاباته الأخيرة قد وصلتْ أم لا.

مرَّت الشهور والسنوات ولانت المواقف، وحلَّ عيد ميلاد هِسَّه الستيّن، فوصله خطابٌ من توماس مان يهنئه فيه على عيد ميلاده بكلمات رقيقة: 

«اليوم هو الثاني من يوليو، عيد ميلاد هِرمان هِسَّه.. يوم عظيم وجميل ولا يُنسَى.. اليوم تحتفي آلاف القلوب المُحِبَّة لهِسَّه في كافة البلدان المُتحدِّثة بالألمانية. إن أعمال هِرمان هِسَّه تسمو بالمألوف لتُحلِّق نحو آفاقٍ روحية جديدة، بل آفاقٍ ثورية، لا بالمعنى السياسي الاجتماعي المُباشر، وإنما بالمعنى النفسي والشاعري العميق».

أما آخر رسائله إلى توماس مان، فكانت مُؤرَّخة في 2 أغسطس 1955:

«عزيزي توماس، اسمح لي بزيارةٍ قصيرة في المستشفى. بمزيد من القلق تلقينا نبأ وعكتكَ الصحية، لكننا كنا سعيديْن بالرسالة الودودة لزوجتك، حيث أمدتْنا بما طمأننا. نتمنى لك الشفاء العاجل وأن تبدأ بفترة نقاهة، تكفل ألا يعاودكَ هجوم المرض من جديد. أخلص الأمنيات القلبية... هِرمان ونينون هِسَّه».


 بتاريخ 13 أغسطس 1955، كتب هِسَّه نَعيًا نُشِرَ على صفحات جريدة «نويه تسوريشر تسايتونغ» في 18 أغسطس 1955، قال فيه: 

«بقلبٍ يعتصره الحزن أُودِعُ اليوم توماس مان، الصديق العزيز، والزميل الكبير، عميد الأدب الألماني، الذي لم يُوَفَّ حقه رغم مظاهر التكريم والاحتفاء. بينما ستظل أعماله وذكراه حيَّةً  في ذاكرة الأجيال القادمة رغم حقبتنا المُربكة، حيَّةً بما حملته من روح السخرية والبراعة الفنيَّة والوفاء والشعور بالمسؤولية والقدرة على حبّ الآخرين، وهي المشاعر لم يفهمها جمهور القُرَّاء الألمان حق فهمها لفترة طويلة».


(1) ثورة سنة 1918: صراع مدني نشب بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكان من شأنه تحويل ألمانيا من النظام الملكي إلى جمهورية برلمانية ديمقراطية، عُرفت باسم جمهورية فايمار.

(2) يقصد راويته الأهم التي ستُنشر فيما تحت عنوان «لعبة الكريات الزجاجية».

(3) توماس مان: «عن جوته وتولستوي- حول مشكلة النزعة الإنسانية»، مطبوعات س. فيشر 1932