ذكريات من العشرينيات
وودي آلان
ترجمة كاملة لقصة «ذكريات من العشرينيات» للمخرج السينمائي والكاتب الأمريكي وودي آلان.
نُشرت لأول مرة عام 1971
ترجمة: محمد سيد عبد الرحيم
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
***
كنَّا نعيش بعشرينيَّات القرن العشرين، حينما ذهبتُ لأول مرة إلى شيكاغو كي أشاهد مباراة للملاكمة. كان يصحبني بالرحلة إرنست هيمنجواي، وقد أقمنا في معسكر تدريب جاك دمبسي.[1] كان هيمنجواي قد انتهى لتوَّه من كتابة قصتين قصيرتين عن مباريات الملاكمة. وكنت قد اتفقت حينها مع جرترود شتاين على أنهما جيدتان، إلا أنَّنا اتفقنا أيضًا أنهما تحتاجان إلى بذل مجهود أكبر لتصبحا أكثر جودة. داعبتُ هيمنجواي بخصوص روايته القادمة؛ فضحكنا ومرحنا كثيرًا معًا، وبعدها ارتدينا قفازات الملاكمة، فكسر أنفي.
في هذا الشتاء، استأجرتُ مع أليس توكلاس[2] وبيكاسو فيلا بجنوب فرنسا. كنت قد بدأت كتابة ما شعرت أنه سيكون رواية أمريكية عظيمة، إلا أنَّ خط الطباعة كان صغيرًا جدًّا؛ ولذا لم أستطع المضي قدمًا.
كنتُ معتادًا أن أذهب -في الظهيرة- مع جرترود شتاين لاقتناص الأنتيكات من محال المدينة، وأتذكر ذلك اليوم الذي سألتها فيه إذا ما كانت تعتقد أنني سأصبح كاتبًا، وبطريقتها الإيحائيّة المعتادة التي كنا مأخوذين بها، ردتْ قائلة: "لا"، اعتقدتُ أنها كانت تُلمِّح بـ: "نعم"؛ ولذا أبحرتُ إلى إيطاليا في اليوم التالي لحديثي معها. ذكَّرتني إيطاليا كثيرًا بشيكاغو؛ خاصة فينسيا؛ لأنَّ كلتا المدينتين تحتويان على قنوات وشوارع مليئة بالتماثيل والكاتدرائيات التي زينها أعظم النحاتين في عصر النهضة.
ذهبنا في ذلك الشهر إلى استوديو بيكاسو بمدينة إيرل، والتي كانت تُدعى بروان أو زيورخ حتى أعاد تسميَتَها الفرنسيون عام 1589 في عصر لويس الغامض. (كان لويس ملكًا وغدًا في القرن السادس عشر، وكان قذرًا في تعامله مع الآخرين). كان بيكاسو موشكًا على البدء بما سيُسمى فيما بعد بـ«المرحلة الزرقاء»، إلا أنّني تناولت أنا وجرترود شتاين القهوة معه؛ ولذلك بدأ هذه المرحلة متأخرًا عشر دقائق. ولقد دامت هذه الفترة لأربع سنوات؛ ولذا لم تفرق معه هذه الدقائق العشر كثيرًا.
كان بيكاسو رجلًا قصيرًا، وله طريقة غريبة في المشي، إذ كان يضع قدمًا أمام الأخرى حتى يقوم بما يطلق عليه «الخطوات». كنا نضحك كثيرًا على أفكاره المسلية، إلا أنَّ ضحكنا أصبح نادرًا حينما حلَّت الثلاثينيات فبرزت الفاشية في أوروبا. كنت أتفحص بحرص -مع جرترود شتاين- أعمال بيكاسو الجديدة أولًا بأول. كان لجرترود رأي هام في أعمال بيكاسو؛ وهو: «أن الفن -كل الفن- هو مجرد تعبير عن شيء ما». لم يوافق بيكاسو على رأيها، ثم قال لنا حينها: «اتركوني وحدي. لقد دخلتما عليَّ وأنا آكل». كنت أشعر بداخلي أنَّ بيكاسو على حق، لقد كان يأكل فقط.
كان استوديو بيكاسو مختلفًا تمامًا عن استوديو ماتيس، فبينما كان استوديو بيكاسو مليئًا بالقذارة كان استوديو ماتيس مرتبًا ونظيفًا. كانا مختلفين تمامًا في أشياء كثيرة. كُلِّف ماتيس في شهر سبتمبر من نفس العام أن يرسم لوحة رمزية، إلا أن زوجته مرضت فلم يستطع أن يكمل اللوحة فحوّلها إلى ورق حائط. أتذكر هذه الحوادث جيدًا بسبب كونها سبقت الشتاء الذي عشنا فيه في هذه الشقة الرخيصة بشمال سويسرا، حيث كانت تمطر أحيانًا ثم توقف المطر فجأة.
أقنع الفنان التكعيبي الأسباني خوان جريس أليس توكلاس أن يرسم لها لوحة زيتية. أخذ جريس يرسمها بطريقته التجريدية في تصوير الأشياء، وبينما كان يكسر وجهها وجسدها ليصل إلى الأشكال الهندسية الرئيسية، جاءت الشرطة واصطحبته إلى القسم. كان جريس قرويًّا أسبانيًّا، وكانت جرترود شتاين تقول إنَّ الأسباني الحقيقي هو الذي يفعل ما يفعله جريس، فلقد كان يتحدث الأسبانية وأحيانًا ما يعود إلى عائلته بأسبانيا. إنّه لمن الرائع لأي شخص أن يقابل جريس.
كنا نجلس يومًا بأحد بارات المثليين بجنوب فرنسا، بينما أقدامنا مرفوعة بارتياح فوق الكراسي باتجاه شمال فرنسا، قالت جرترود شتاين وقتها: «أشعر بالغثيان». رأى بيكاسو أن قولها هذا مضحكٌ جدًّا، بينما رأيت أنا -ووافقني ماتيس- أنها تقصد أنه علينا أن نسافر إلى أفريقيا. قابلنا هيمنجواي في كينيا بعد ذلك بسبعة أسابيع. كان لجلده لون البرونز بينما كانت لحيته طويلة جدًّا. وقد بدأ في هذه الآونة بتطوير أسلوبه السردي البارد عن العينين والفم. في هذه القارة السوداء التي لم تكتشف بأكملها بعد، كان هيمنجواي قد واجه -بشجاعة- تشقق الشفاه آلاف المرات.
سألته: «كيف الحال يا إرنست؟»، أخذ يتحدث كثيرًا عن الموت وعن المغامرات، وحينما استيقظت من النوم كان قد أقام مخيمًا وقد جلس بجانب نار عظيمة وهو يعد لنا مقبلات الديرما. ألقيت نكتة عن لحيته فضحكنا جميعا عليها، ثم احتسينا الكونياك، ثم ارتدينا قفزات الملاكمة حتى كسر أنفي.
ذهبت مرة أخرى -بهذا العام- إلى باريس لأتحدث إلى ملحن أوروبي حاد الطباع وذي أنف معقوف وعينين قلقتين لماحتين. كان هذا الرجل هو إيجور سترافينسكي. بقيت في منزل مان راي[3] وستينج راي، حيث كان ينضم إلينا كثيرًا على العشاء سلفادور دالي. وقرر دالي ممارسة العرض المنفرد الذي كان يلاقي بالفعل نجاحًا كبيرًا. وقد كان شتاء فرنسيًّا جميلًا ورائعًا.
أذكر يومًا عاد فيه سكوت فيتزجيرالد وزوجته لبيتهما بعد حضورهما حفل رأس السنة، كان هذا في شهر أبريل. لم يستهلكا شيئًا خلال الثلاثة أشهر الأخيرة سوى الشامبانيا، وبالأسبوع الماضي، ارتديا ملابس السهرة ثم أخذا عربتهما الليموزين ليتجاسرا ويصعدا جرفًا صخريًّا بارتفاع تسعين قدمًا عن سطح البحر. كان فيتزجرالد وزوجته مدهشين؛ إذ كانت قيمهما ثابتة، كانا متواضعين جدًّا، وحينما أقنعهما جرانت وود يومًا أن يرسمهما بلوحته الشهيرة «القوطية الأمريكية»، شعرا بإطراء شديد لذلك. قالت لي زيلدا إنّ سكوت ظلَّ يوقع المذراةَ خلال وقوفهما أثناء رسم اللوحة.
أصبحتُ صديقًا حميمًا لسكوت في السنوات التالية، ومعظم أصدقائنا كانوا يعتقدون أنّ بطل روايته الأخيرة كان مستوحى مني، بينما كنت أعتقد أنني استوحيت حياتي من روايته ما قبل الأخيرة. وفي النهاية رفعت شخصية خيالية دعوى ضدي.
كان لدى سكوت مشكلة كبيرة في الالتزام، ورغم أننا كنا نحب زيلدا كثيرًا، فلقد اتفقنا -جميعًا- أنَّ لها تأثيرًا مناوئًا على أعمال سكوت، حيث تختزل إنتاجه من رواية واحدة كل عام إلى كتابة وصفة فواكه البحر ومجموعة كبيرة من الفصلات.
أخيرًا، ذهبنا إلى أسبانيا عام 1929، حيث قدمنا هيمنجواي إلى مانوليتي[4] الذي كان حساسًا لدرجة التخنُّث. كان يرتدي بنطالًا ضيقًا لمصارع الثيران، وأحيانًا ما كان يلبس بنطالَ برمودا. كان مانوليتي فنانًا عظيمًا جدًّا، وإذا لم يكتب له أن يكون مصارعًا للثيران كان سيكون محاسبًا عالميًّا.
استمتعنا كثيرًا في أسبانيا؛ سافرنا وكتبنا، واصطحبني هيمنجواي لصيد سمك التونة فاصطدت أربع علب فضحكنا ومرحنا كثيرًا. سألتني أليس توكلاس إذا ما كنت مغرمًا بجرترود شتاين، خاصة أنني قد أهديت لها ديوانًا، رغم أنه ديوان لإليوت، فقلت لها: «نعم، أحبها، إلا أنني أدرك أن علاقتي بها لن تنجح لأنها أذكى مني»، فأمَّنتْ أليس توكلاس على قولي ثم ارتدينا قفازات الملاكمة فكسرت جرترود شتاين أنفي.
ملاكم أمريكي.[1]
حبيبة جرترود شتاين.[2]
رسام ومصور فوتوغرافي أمريكي.[3]
مصارع ثيران أسباني[4]
اقرأ المزيد لوودي آلان: فلسفتي -وودي آلان