أطروحات حول الكوميونة
مقال لجي ديبور وأتيلا كوتانيه وراؤول ﭬانيـﭼيم*
ترجمة حسين الحاج
بمناسبة الذكرى المائة والخمسون لكوميونة باريس - 18 مارس 1871
إهداء الترجمة إلى مازن كم الماز وأحمد حسان
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
*تمهيد المترجم:
جي ديبور وأتيلا كوتانيه وراؤول ﭬانيـﭼيم أعضاء في اﻷممية المواقفية، وهو تنظيم ثوري مجالسي تشكل في أوروبا في حقبة الستينيات من فنانين وكتاب طليعيين ومنظرين من أقصى اليسار الشيوعي، شارك بقوة في ثورة مايو 1968 وتفكك في 1972. سميت الأممية بالمواقفية ﻷنها تدعو إلى تثوير الحياة اليومية من خلال خلق مواقف اعتراضية تكسر نمطية «مجتمع الاستعراض».
وضع ديبور وكوتانيه وﭬانيـﭼيم لهذه اﻷطروحات «حول الكوميونة» تاريخًا رمزيًا 18 مارس 1962 (الذكرى السنوية لبدء الكوميونة). تأثر تأويل اﻷممية المواقفية لكوميونة باريس 1871 بتعاونهم مع عالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر الذي كانوا على اتصال به منذ أواخر الخمسينيات، حيث أثرت كتابات لوفيفر عن الرومانسية الثورية والحياة اليومية على بدايات اﻷممية المواقفية. في مطلع الستينيات، وافق جي ديبور وأتيلا كونتاي وراؤول فانيجيم على مساعدة لوفيفر في تحضيره لكتاب عن الكوميونة (الذي نشره في النهاية في 1965 تحت عنوان إعلان الكوميونة). وقع خلاف بين الطرفان بعدما نشر لوفيفر ملاحظاته الخاصة الصادرة عن تعاونهم، وصدرت أطروحاتهم في نشرة «إلى مزبلة التاريخ» (فبراير 1963) ثم أعيد طبعها في العدد الثاني عشر من مجلة اﻷممية المواقفية (سبتمبر 1969).
*
1
«يجب إعادة دراسة حركة العمال الكلاسيكية دون أية أوهام، خصوصًا دون أية أوهام فيما يتعلق بورثتها من السياسيين والمنظرين المزيفين المتنوعين، لأن فشلها هو كل ما توارثوه. النجاحات الظاهرة لهذه الحركة هي بالفعل إخفاقاتها الأساسية (سيادة النزعة الإصلاحية أو إقامة بيروقراطية الدولة)، فيم كانت إخفاقاتها (كومونة باريس أو تمرد أستورياس في عام 1934) أكثر نجاحاتها الواعدة حتى الآن، لنا وللمستقبل». (العدد السابع من الأممية المواقفية - مقال الأيام السيئة ستنقضي)
2
كانت كوميونة باريس أكبر احتفال في القرن التاسع عشر. تمكننا أحداث ذلك الربيع من عام 1871 من رؤية إحساس الثوار بأنهم قد أصبحوا سادة تاريخهم الخاص، ليس على مستوى السياسات «الحكومية» فحسب، بل على مستوى حياتهم اليومية (خذ مثلا الألعاب التي مارسها الجميع بأسلحتهم: مما يعني أنهم يلعبون بالسلطة). وبهذا المعنى يجب فهم ماركس عندما قال، «تظهر الأهمية الاجتماعية الكبرى للكوميونة في أفعالها».(1)
3
يجب أخذ ملاحظة أنجلز، «انظر إلى كومونة باريس –لقد كانت هذه ديكتاتورية البروليتاريا»، بجدية لكي تكشف عما ليس بديكتاتورية البروليتاريا بصفته نظامًا سياسيًا (الأشكال المختلفة من ديكتاتورية الدولة على البروليتاريا باسم البروليتاريا).
4
يعرف الجميع كيفية تقديم انتقادات صحيحة لأوجه تشوش الكوميونة للعيوب الواضحة للبنية التنظيمية المتماسكة، لكن مثلما تبدو مشكلة الأجهزة السياسية أكثر تعقيدًا بالنسبة لنا اليوم بكثير مما يدعي الورثة المتعسفون لجهاز سياسي على النمط البلشفي، فقد حان الوقت أن ندرس الكوميونة، ليس بصفتها نموذجًا متقادمًا من البدائية الثورية الذي يمكن تخطي كل أخطاءه بسهولة، بل بصفتها خبرة إيجابية يظل علينا أن نعيد اكتشاف حقيقتها الكاملة وأن نحققها.
5
لم يكن للكوميونة أية قادة، وقد حدث هذا وقتما كانت فكرة ضرورة القادة مقبولة عمومًا في أوساط الحركة العمالية. بهذه الطريقة يمكن أن نشرح، في المقام اﻷول، نجاحاتها وإخفاقاتها المتناقضة. كان المرشدون الرئيسيون للكوميونة غير أكفاء (مقارنة بماركس أو لينين أو حتى بلانكي)، لكن على الجانب اﻵخر من القضية، كانت اﻷفعال «المستهترة» المختلفة لتلك اللحظة هي الشيء المطلوب تحديدًا لاستمرار الحركة الثورية لعصرنا (حتى لو معظم تلك اﻷفعال قصرتها الظروف على حالة تدميرية خالصة، ويضرب المثال اﻷكثر شهرة بالثوري الذي أجاب على برجوازي مشبوه أصر على أنه لا علاقة له بالسياسة مطلقًا، «ولهذا السبب تحديدًا سوف أقتلك!»)
6
تجلت اﻷهمية الحيوية للتسليح العام للشعب عمليًا ورمزيًا منذ بداية الحركة وحتى نهايتها، فبشكل عام، لم يسقط الحق في فرض اﻹرادة الشعبية بالقوة ويترك ﻷي فصائل متخصصة، كانت القيمة النموذجية للاستقلال الذاتي للجماعات المسلحة وجه آخر مؤسف في افتقارها للتنسيق: لم تحقق القوى الشعبية في أي لحظة في صراعها الهجومي أو الدفاعي ضد الفرساي كفاءتها العسكرية، لكن يجب أن نضع في أذهاننا أن الثورة اﻷسبانية هُزمت -كما هُزمت الحرب الأهلية في التحليل اﻷخير- تحت دعوى تحويلها إلى «جيش جمهوري». يبدو أن التناقض بين الاستقلال الذاتي والتنسيق متعلق بصورة كبيرة بالمستوى التقني للعصر.
7
تمثل الكوميونة التحقيق الوحيد للتمدين الثوري حتى حينه، مثل الاعتداء الفوري على الرموز المتحجرة للمنظمة المهيمنة على الحياة، واستيعاب الفضاء الاجتماعي بمفاهيم سياسية، وإنكار براءة أي نصب تذكارية. كل من يستنكر هذا الاعتداء بصفته «عدمية البروليتاريا الرثة» و«استهتار البتروليات»(2) عليه أن يحدد في المقابل ما يعتقده قيمة إيجابية ويستحق الحفاظ عليه في المجتمع السائد (ولسوف نجد أنه يبقي على كل شيء تقريبًا). «لقد شغل العدو كل الفضاءات بالفعل.. سيظهر التمدين الحقيقي عندما نقيم هذا اﻹحتلال بمعاني محددة. ما نسميه تشييدًا يبدأ من هناك، ويمكن توضيحه بمفهوم الفراغ اﻹيجابي الذي طورته الفيزياء الحديثة». (العدد السادس من اﻷممية المواقفية - مقال برنامج أولي للعمران الحضري الموحد)
8
لم تهزم كوميونة باريس بقوة السلاح بقدر ما هزمت بقوة العادة. كان رفض استخدام المدافع لاحتلال البنك الوطني الفرنسي عندما ظهرت الحاجة إلى اﻷموال بشدة المثال العملي اﻷكثر خزيًا. ظل البنك طوال السلطة الكاملة للكوميونة وكرًا تابعًا لفرساي في باريس ولا يحرسه شيء سوى بضعة بنادق وأسطورة الملكية والسرقة. اتضحت كارثية العادات اﻷيدولوجية اﻷخرى في كل جانب آخر على السواء (مثل: بعث اليعقوبية والإستراتيجية الانهزامية للمتاريس في ذكرى ثورة 1848، إلى آخره..).
9
تظهر الكوميونة الطريقة التي يستفيد بها المدافعون عن العالم القديم دومًا بطريقة أو بأخرى من تواطؤ الثوريين -خصوصًا أولئك الثوريين الذين لا يفكرون سوى في الثورة فقط، وهي مسألة يفكر الثوريون فيها مثل المحافظين. يحافظ العالم القديم على قواعده (اﻷيدولوجيا واللغة والعادات واﻷذواق) داخل تطور أعدائه، ويستخدم تلك القواعد كي يعيد احتلال اﻷرض التي فقدها (وحده التفكير في الأفعال الطبيعية للبروليتاريا الثورية هو ما يفلت منها بلا رجعة: مثل إشعال النيران في إدارة الضرائب). يكمن «الطابور الخامس» الحقيقي في عقول الثوريين.
10
إن مزحة مشعلي الحرائق الذين ذهبوا لتدمير كنيسة نوتردام خلال اﻷيام اﻷخيرة للكوميونة، ثم وجدوا كتيبة مسلحة من فناني الكوميونة منتصبون لحمايتها، لهي مثال محفز وثري على الديمقراطية المباشرة، وتبين أيضًا المشكلات التي ما زال يجب أن تحل من منظور سلطة المجالس. هل كان هؤلاء الفنانون محقون في الدفاع عن الكاتدرائية باسم قيم جمالية ثابتة نهائية، وفي التحليل اﻷخير باسم ثقافة المتاحف، بينما أراد اﻵخرون وقتها بالضبط أن يترجموا بهذا الهدم تحديهم لمجتمع في هزيمته الراهنة يلقي بكامل حياتهم في العدم والصمت؟ إن الفنانون أنصار الكوميونة، بينما تصرفوا مثل المتخصصين، قد وجدوا أنفسهم في صراع مع نمط متشدد من النضال ضد الاستلاب. يجب علينا انتقاد أعضاء الكوميونة بسبب عدم تجرأهم على الرد على الرعب الشمولي للسلطة بشمولية استخدام أسلحتهم. يشير كل شيء إلى محو الشعراء الذين عبروا عن شعر الكوميونة الضمني وقتها بالفعل، وسمحت كتلة اﻹجراءات غير المنجزة للكوميونة لأفعالها المخططة أن تتحول إلى «أعمال وحشية» وأن تبتر ذاكرتها. تفسر أيضًا ملاحظة سان جوست «من يصنعون نصفَ ثوراتٍ لا يفعلون سوى حفر قبرهم» سبب صمته.(3)
11
يمكن بسهولة للمنظرين الذين يشكلون تاريخ هذه الحركة من منظور إلهي عليم (مثل الذي نجده في الروايات الكلاسيكية) أن يبرهنوا بسهولة على أن الكوميونة كان محكومًا عليها موضوعيًا ولم ليكن يتحقق لها التجاوز، لكنهم يغفلون أنها بالنسبة لمن عاشوها حقًا، فالتجاوز كان من نصيبهم بالفعل.
12
يجب قياس جسارة تجربة الكوميونة وابتكاريتها، لا بمعايير عصرنا بوضوح، بل بالابتذالات السياسية والثقافية واﻷخلاقية السائدة حينها، وبالنسبة إلى التضامن بين كل الابتذالات التي من أجلها حملت الكوميونة السلاح. يعطينا التضامن العميق للابتذالات السائدة (من اليمين واليسار) فكرة عن الابتكارية التي يمكن توقعها ﻹنفجار مماثل اليوم.
13
تظل الحرب الاجتماعية التي كانت الكوميونة إحدى حلقاتها قائمة حتى اليوم (رغم تغير ظروفها السطحية إلى حدٍ بعيد). تبقى الكلمة اﻷخيرة معلقة بالنسبة إلى مهمة «جعل الميول اللاواعية للكوميونة واعية» كما قال إنجلز.
14
لحوالي عشرين عامًا في فرنسا تقريبًا، اتفق الستالينيون والمسيحيون اليساريون إحياء لذكرى تشكيل الجبهة القومية المعادية للألمان على التأكيد على الاضطراب القومي والوطنية المهانة في الكوميونة (طبقًا للسياسة الستالينية الراهنة، «فالشعب الفرنسي اجتمع على أن يحكم بصورة أفضل»، ثم دفعته أخيرًا خيانة الجناح اليميني من البرجوازية غير الوطنية نحو اليأس). من أجل أن ندحض هذا الهراء الكاذب، سنكتفي بذكر الدور الذي لعبه اﻷجانب الذين أتوا للنضال من أجل الكوميونة. فكما قال ماركس، لم تكن الكوميونة سوى برهانًا لا يدحض على القوة التي كان يجب أن تحكم كل أفعال «حزبنا» في أوروبا منذ 1848.
(1) اقتباسات ماركس وإنجلز من كتاب «الحرب اﻷهلية في فرنسا»
(2) البتروليات: نساء من الكوميونة أشيع عنهن (ربما كذبًا) أنهن أحرقن العديد من المباني الباريسية خلال اﻷيام اﻷخيرة للكوميونة بإلقاء زجاجات من البترول عليها.
(3) لويس أنطون دي سان جوست، أحد القادة اليعاقبة خلال الثورة الفرنسية، وقد أعدم مع ماكسميليان روبسبير في 1794.