بَدين

قصة لريموند كارفر

ترجمة: محمد عبد النبي

اقرأ المزيد من قصص ريموند كارفر على هذا الرابط

يحتفظ المسؤول عن الملف بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بالترجمات دون إذن منه.


Raymond Carver, Ridge House, Port Angeles, Washington. 1987.
عن raymond carver review

إنني جالسة في بيت صديقتي ريتا و أمامنا القهوة و السجائر أحكي لها.

هُنا ما أقوله لها.

في وقتٍ متأخر من يوم أربعاء بطيء يُجلِس هيرب الرجل البدين في القِسم الخاص بي مِن المطعم.

هذا الرجل البدين هو أكثر شخص بدانة رأيتُه طول عمري، رغمَ أنَّه حَسن المظهر وأنيق الثياب بما فيه الكفاية. كل ما فيه كبير. لكنها الأصابع هي ما أتذكَّره جيدًا. حين أتوقف إلى المائدة المجاورة له لأخدم الرجل والمرأة المُسنَّيْن، ألاحظ الأصابع لأول مرة. تبدو ضعف حجم أصابع الشخص العادي بثلاث مرات- أصابع طويلة، ثخينة، ودَسمة كالقِشدة.

أهتم بموائدي الأخرى: جماعة من أربعة رجال أعمال، طلباتهم كثيرة، و جماعة أخرى من أربعة، ثلاثة رجال وامرأة، والزوجان المُسنان. كان ليندر قد صبَّ الماء للبدين، وأنا أترك له الوقتَ الكافي حتّى يقرّر ثُم أذهب إليه.

أقول، مساء الخير. أتسمحُ لي بخدمتك؟

كان ضخمًا يا ريتا، ضخمًا بجد.

يقول، مساء الخير. مرحبًا. نعم أظن أننا مستعدون لنطلب الآن.

له هذه الطريقة في التحدث- أليس غريبًا؟ وبين برهة وأخرى يصدر صوت نفخة صغيرة.

يقول، أظن أننا سنبدأ بسلطة سيزر. و بعدها سلطانية شوربة مع بعض الخبز و الزبد الإضافيين، إذا سمحتِ. يقول، شرائح ضأن على ما أعتقد، وبطاطس مشوية مع اللبن الرائب. و سوف نفكر في أمر الحلوى فيما بعد. شكرًا جزيلًا لك، هكذا يقول ويناولني القائمة.

و لكن، رباه يا ريتا من تلك الأصابع.

أهرع إلى المطبخ و أحوِّل الطلب إلى رودي، الذي يتلقاه بتكشيرة. تعرفين رودي. هكذا هو رودي في العمل. و فور خروجي من المطبخ تقول لي مارجو - ألم أحكِ لك من قبل عن مارجو؟ تلك التي تلاحق رودي؟ تقول لي مارجو، من هو صاحبك البدين؟ إنه سمين بجد.

الآن، ذلك جزء من الأمر. أظن أنه جزء من الأمر حقًا.

أضع سلطة سيزر على مائدته، و هو يتابع كل حركة من حركاتي، بينما يغطّي قطع الخبز بالزبد ويكومها على الجانب نفسه، نافخًا طوال الوقت بتلك «البوف». المهم، لأنني متوترة أو شيء كهذا، أتسبب في سقوط كوب مائه.

أقول، أنا آسفة جدًا. هذا ما يحدث دائمًا عندما يكون المرء متعجلًا. إنني آسفة للغاية. أقول، هل أنت على ما يرام؟ سأنادي الولد لينظف فورًا.

يقول، لم يحدث شيء. لا بأس في هذا. يقول، و ينفخ. لا تنزعجي، فنحن لا نهتم.

يبتسم و يلوح بينما أنسحب لأحضر لندر، و حين أعود لأقدِّم له السلطة، أرى أنَّ الرجل البدين قد تناول كلَّ الخبز و الزبد.

بعدها بقليل، حين أحضر له المزيد من الخبز، يكون قد أتى على سَلَطته. أتعرفين ما حجم سلطات سيزر تلك؟

يقول، أنت طيبة للغاية، و هذا الخبز خُرافي.

أقول، شكرًا لك.

يقول، بجد، إنه جيد جدًا و نحن نعني ما نقول. فقليلًا ما نستمتع بخبزٍ كهذا.

أساله، من أين أنت؟ لا أظن أني رأيتك من قبل.

فهو ليس من النوع الذي يسهل نسيانه، هكذا تقاطعني ريتا بضحكة مكبوحة.

يقول، من دينفر.

لا أزيد كلمة حول هذا، برغم فضولي.

أقول، دقائق و تجد الشوربة أمامك يا سيدي. و أنسحب لأضع لمساتي الأخيرة على مائدة جماعة رجال الأعمال الأربعة، كثيري الأوامر.

وأنا أقدم له الشوربة، أرى أن الخبز قد اختفى مرة أخرى. لم يكن قد انتهى بعد من وضع آخر قطعة خبز في فمه.

يقول، صدقيني، نحن لا نأكل هكذا طوال الوقت. يقول و ينفخ «بوف»، لا بدَّ أنكِ سوف تعذريننا.

أقول، لا تفكر في شيء مِن هذا، أرجوك. يطيب لي أن أرى رجلًا يأكل وهو مستمتع.

يقول، لا أدري. لعل تلك هي رؤيتكِ للأمور.

و «بوف». يضع منديل المائدة. ثم يتناول مِلعقته.

يقول ليندر، يا إلهي كم هو بدين!

أقول، لا ذنبَ له، فَاخرس أحسن.

أضع له سلة أخرى من الخبز و المزيد من الزبد. أقول، كيف وجدتَ الشوربة؟

يقول، شكرًا لك. جيدة. جيدة جدًا. يمسح شفتيه ويمس ذقنه خفيفًا. يقول، أتظنين الجو دافئ  هنا أم أنني فقط مِن يشعر بهذا؟

أقول، لا، إنه دافئ هنا.

يقول، ربما سنخلع معطفنا.

أقول، اخلعه على الفور. يجب على المرء أن يأخذ راحته.

يقول، صحيح، هذا صحيح جدًا جدًا.

غير أنني بعد برهة أراه لا يزال مرتديًا معطفه.

مضت الآن المجموعات الكبيرة التي كنت أخدمها وكذلك غادر الثنائي العجوز. يخلو المكان. وإذ أقدم للبدين شرائح اللحم و البطاطس المشوية، جنبًا إلى جنب المزيد من الخبز و الزبد، كان هو الوحيد المتبقي.

أضع الكثير مِن القشدة الرائبة على طبق البطاطس، و أرقش اللبن الرائب بقطع اللحم المقدد والكرَّاث. أجلب له المزيد من الخبز و الزبد.

أقول، كل شيء على ما يرام؟

رائع، يقول و ينفخ «بوف». ممتاز، شكرًا لكِ. يقول ثُم «بوف» من جديد.

أقول، استمتع بعشائك. أرفع غطاء وعاء السكر الخاص به وألقي نظرة في داخله. يومئ برأسه ويظل مُتطلعًا إليَّ حتَّى أبتعد.

أعرف الآن أنني كنت أسعى في أثر شيء ما. لكنني لا أدري ما هو.

يقول لي هاريت، كيف حال جوال الأحشاء العجوز؟ سوف يبري قدميكِ مشيًا. أنت تعرفين هاريت.

أقول للرجل البدين، بالنسبة للحلوى يوجد طبق الفانوس الأخضر الخصوصي، وهو كعكة بودنج مع صوص، و هناك كعك الجبن أو آيس كريم فانيليا أو شربات الأناناس.

يقول، إننا لا نؤخركِ عن موعدك، أليس كذلك؟ نافخًا، ويبدو عليه القلق.

أقول، على الإطلاق. بالطبع لا. أقول، خذ وقتك. سأحضر لك المزيد من القهوة ريثما تقرر.

يقول، سنكون صرحاء معكِ. وتحرَّك في كرسيه. نودّ أن نأخذ الطبق الخصوصي، ولكن ربما نأخذ معه أيضا طبقا من آيس كريم الفانيليا. ألم نخبركِ بأننا جوعى؟

أتوجَّه صوب المطبخ لأعتني بأطباق الحلو الخاصة به، ويقول لي رودي، هاريت يقول إن لديكِ بالخارج رجل بدين كأنه من عجائب السيرك. صحيح ذلك؟

رودي الآن بدون مريوله أو قبعة الطهاة، أكيد تفهمين قصدي.

أقول، إنه بدين يا رودي، لكن ذلك ليس هو كل الحكاية.

يكتفي رودي بالضحك.

يقول، يبدو أنها تهيم حبًا بالبدناء.

أحسن لك تنتبه عليها يا رودي، هكذا تقول جوان التي تدخل المطبخ في تلك اللحظة.

يقول رودي لجوان، أنا غَيران جدًا.

أضع الحلوى قبالة الرجل البدين وسلطانية كبيرة من آيس كريم الفانيليا مع شراب الشوكولاتة بجانبه.

يقول، شكرًا لكِ.

أقول، العفو، تحت أمرك – ويعتريني شعورٌ ما.

يقول، صدّقي أو لا تصدّقي، نحن لا نأكل دائمًا هكذا.

أقول، بالنسبة لي فإنني آكل و آكل، حتى لا يمكنني أن أزيد. ولَكم أود لو أستزيد.

يقول، كلَّا. لو كان لنا الخيار لقلنا كلَّا. لكنَّ الأمر ليس بأيدينا.

ثم يتناول ملعقته ويأكل.

تقول ريتا، وماذا بعد؟ تشعل واحدة من سجائري، وتجر كرسيها أدنى مِن المائدة. تقول ريتا، هذه القصة تزداد تشويقًا الآن.

هذا كل ما هنالك. لا شيء بعد. يتناول حلواه، ثم يغادر ثُم نذهب أنا ورودي إلى المنزل.

يقول رودي، يا له مِن رجل سمين، وهو يمطّ أطرافه كما يفعل عندما يكون متعبًا. ثم يضحك وحسب ويرجع لمشاهدة التليفزيون.

أضع ماء في الغلّاية من أجل الشاي وآخذ حمامًا. أضع يدي على بطني وأتساءل عما سيحدث لو صار لي أطفال، و أصبح أحدهم بتلك الصورة، بدين للغاية.

أصب الماء في الإناء الكبير، أحضر القدحين، وعاء السكَّر، علبة لبن ورقية ممتلئة لنصفها، و آخذ الصينية إلى حيث رودي.

و كأنما كان يفكر في الأمر، يقول رودي، لقد عرفت فتى بدينًا ذات مرة، بل اثنين منهم، بدينان جدًا، عندما كنت صبيًا. لقد كانا مثل بالونين، رباه. إنني لا أذكر اسميهما. البدين، هذا هو الاسم الوحيد الذي كان لهذا الفتى، كنا ندعوه بالبدين، كان يسكن في المنزل المجاور. كان جارًا لنا. الولد الآخر جاء فيما بعد. كان اسمه الرجراج. كان الجميع ينادونه بهذا ما عدا المعلمين. كان بدينًا. يقول رودي، كم أرجو لو أن لديَّ صورًا لهما.

لا أستطيع أن أجد شيئًا قد يقال، وهكذا نشرب الشاي وسرعان ما أنهض إلى الفراش. ينهض رودي كذلك، يطفئ التليفزيون، و يحكم رتاج الباب الأمامي، و يشرع في حل أزرار ملابسه.

أدخل إلى الفراش وأوسع له فأتحرَّك نحو الحافة وأرقد هناك على وجهي. لكن، في الحال، ما إن يطفئ الضوء و يدخل للفراش، حتَّى يبدأ رودي. أستدير وأرقد على ظهري وأسترخي قليلًا، مع أن ما يجري رغم إرادتي. ولكن هَهُنا الموضوع. عندما يعتليني، أشعر فجأة أنني بدينة. أشعر أنني بدينة بدانة رهيبة، بدينة إلى حد أن رودي كان مجرد شيء ضئيل الحجم للغاية، بالكاد موجود.

تقول ريتا، تلك قصة غريبة. لكنني أدرك أن ريتا لا تعلم ماذا تستنتج منها.

أشعر بخيبة. لكنني لن أخوض في ذلك معها.

لقد قلت لها بالفعل أكثر مِن اللازم.

إنها تجلس منتظرة، وتمر بأصابعها الرقيقة بين شعرها.

ما الذي تنتظره؟ أود أن أعرف.

إنه أغسطس.

سوف تتبدل حياتي. أشعر بذلك.


*ملاحظة مِن المترجم: كل أفعال القصة تقريبًا في الزمن المضارع، من بينها الفعل أقول الذي يتكرر في كل جملة قول تقريبًا، وقد احتفظتُ به كما هو في الأصل، رغم ما قد يكون فيه من ثِقل، إخلاصًا لصوت الكاتب واختياره.