بلانشو لا يقول إن تدمير العالم سيكون غير ذي أهمية لأن لا يوجد عالم (مجتمعي) حقيقي حتى الآن؛ فهو لا يقول بسخرية: ”فليذهب كل شيء إلى الجحيم، فالعالم كما هو لا يستحق العناء على أي حال!“ بل على العكس، يقترح بلانشو أنه الآن وقد أصبح لدينا على الأقل فكرة مجردة عن العالم (الإنسانية) ككل، فإن الأمر يستحق العناء أكثر من أي وقت مضى.
الأبوكاليبس (لا يزال) خيبة أمل
مقال ألينكا زوبانجج
نشر في العدد الحادي عشر من دورية حلقة النقد الأيديولوجي اللاكانية Journal of the Circle for Lacanian Ideology Critique في أكتوبر 2018
ترجمة أحمد فتحي إسماعيل
نشرت ألينكا زوبانجج هذا المقال في أواخر عام 2018، بعد حوالي عامين من تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فترته الرئاسية الأولى. تتناول زوبانجج مقالة موريس بلانشو التي تحمل نفس العنوان تقريبًا والتي كتبها هو ردًا على كارل ياسبرز في ستينيات القرن الماضي. إذن هي متتالية بين ثلاثة كتاب تمتد بين حدث تاريخي وبين احتمالية تكراره؛ افتتاح العصر النووي في الحرب العالمية الثانية والخطر الوشيك لحرب نووية أخرى، وتمر عبر كتاب ياسبرز الأساسي الذي افتتح فيه تناول هذا الخطر ثم مقالتي بلانشو وزوبانجج. لا تكتفي زوبانجج بإعادة طرح بلانشو في الزمن الراهن وإنما تستكمل عليه إلى "أفق" جديد، أو نوع آخر من التفكير، لم يعد الأبوكاليبس أمامنا هناك، إنه هنا بالفعل، ولا يزال خيبة أمل.
المترجم

كلما عظم الإنسان ازداد امتلاء.
(صمت. متجهمًا)
وازداد خواء.
بيكيت، نهاية اللعبة (ترجمة بول شاوول)
***
كتب موريس بلانشو عام 1964 نصًا استثنائيًا بعنوان غاية في البراعة وهو ”الأبوكاليبس خيبة أمل".[1] هذا العنوان هو ما يمكن للمرء أن يصفه فعلًا بأنه ”محولٌ للقبلة": في خضم كل الأحاديث عن الأبوكاليبس والهلاك الوشيك المحتمل (المتعلق في الغالب، ولكن ليس حصريًا، بـ ’القنبلة‘)، فإن الإيحاء بأن نهاية العالم قد تكون ’مخيبة للآمال‘ يفتح بشكل فعال طريقة جديدة تمامًا للتفكير في الأمر. يتمتع العنوان بجودة النكتة الممتازة ذات الروح. تثير نهاية العالم شيئًا نهائيًا وهائلًا لدرجة أن وصفه بأنه مخيب للآمال يبدو بلا أدنى منطق. ومع ذلك، وكما هو الحال مع كل النكات الجيدة، فإن هذا الهراء يبدو بطريقة ما منطقيًا تمامًا. لا يناقش بلانشو مفهوم القضية الخاسرة، على الأقل ليس بهذه العبارات. لكن يمكن القول إنه يناقشه بمصطلحات أخرى مختلفة تمامًا. في الواقع، إذا كان للمرء أن يلخص العناصر الأكثر إقناعًا في حجة بلانشو فسيكون من الصعب العثور على صياغة أكثر ملاءمة وإيجازًا من التي استخدمها جيجيك في حديثه عن ”القضايا الخاسرة“:
الهدف هو أن نترك وراءنا، بكل ما يلزم من عنف، ما أشار إليه لاكان ساخرًا باسم ”نرجسية القضية الخاسرة“، وأن نقبل بشجاعة التحقق الكامل للقضية، بما يتضمنه من خطر حتمي لحدوث كارثة مروعة. (جيجيك 2008، 7)
بالفعل يمكننا اعتبار هذه الصيغة، وكما سيتضح فيما يأتي كما نأمل، بمثابة مخطط لحجة بلانشو، التي يطورها هو بمصطلحاته الخاصة - وغير المتوقعة في كثير من الأحيان - وفي سياق فلسفي و جيوسياسي محدد. سوف نلازم هذه الحجة، بشروطها وسياقها، ونعتبرها أيضًا كنقطة انطلاق للتفكير فيما يبدو وكأنه تكرار للأبوكاليبس، أو على الأقل ”للمزاج الأبوكاليبسي“ في الآونة الأخيرة.
ولكن دعونا نعود إلى الوراء أولاً، لأزمنة تميل أن تبدو لنا الآن - في شئ من للمفارقة - كأيام الماضي السعيد....
القنبلة
كانت ”القنبلة“ دالًا سيدًا حقيقيًا master signifier، اختزل في كلمة واحدة عالمًا تخيليًا speculative كاملًا يحيط بالتسلسل التاريخي للحرب الباردة. كانت الحرب ”باردةً"، ولكنها "برودةٌ" اعتمدت على تهديد بحرارة مطلقة يمكنها أن تذيب العالم بأسره. لم تعمل القنبلة كدال سيد فحسب، بل أيضًا كشكل مثالي لوظيفية functioning الدال السيد في حد ذاته. أي أنها عملت كتمثيل للعلاقة correlation، أو بالأحرى اللاعلاقة، بين الزر البسيط الغبي الذي يمكن أن يضغط عليه ”أي معتوه“، وبين سلسلة من العواقب الشاملة، التي قد تؤدي إلى اختفاء عالم بأكمله. إيماءة غبية بسيطة (علامة) في جانب، وكل (العالم) في الجانب الآخر - وهذا في الواقع شعار مثالي للدال السيد.[2]
وككل دال سيد (أو شعار ”قضيبي“) يستحق اسمه، فقد حظيت القنبلة أيضًا بما تستحقه من تناول كوميدي، في فيلم ستانلي كوبريك دكتور سترانجيلوف أو كيف تعلمت أن أتوقف عن القلق وأحب القنبلة (1964). من المثير للاهتمام في هذا الفيلم أنه رغم كونه فيلمًا كوميديًا مثاليًا، إلا أنه ينتهي بالضغط على الزر فعليًا، وانفجار الأسلحة الذرية في كل مكان، فيما يشبه مشهدًا متعاليًا للدمار الشامل، يُصور من أعلى... تنتهي الأحداث التشويقية بتحقيق كامل للتهديد الذي هدفت حبكة الفيلم إلى منعه، وهو ما أدى إلى ما يشبه ارتياح كوميدي ختامي. على الرغم من مشهد الدمار (ظهور حقل من ”الفطر“ الذري)، إلا أن شعورًا بالعجز/اللاقدرة impotence قد نُقل بكفاءة: إذن، أهذا كل شيء؟ وهو ما يشبه للغاية وضع السلطة التي تعتمد، كما قال ملادن دولار، على ألا يتحقق تهديدها التأسيسي أو ينفذ أبدًا.[3] في اللحظة التي يتحقّق فيها هذا التهديد المؤسس للسلطة فإنه يؤدي بالضرورة - بالرغم من عنفه المحتمل - إلى إظهار العجز. والعجز - أي فقدان القوة (أو إظهار القوة المفقودة) - يمكن أن يؤدي بالفعل إلى كثير من العنف.
يمكننا القول إن لدينا هنا أيضًا حالة أبوكاليبس ”مخيبة للآمال“، بمعنى أن حدوثه الفعلي لا يمكن أن يتطابق أبدًا مع القوة التي يمارسها بكونه محجوبًا - أي مع بقائه حيز التهديد. حتى لو أن تحقيق هذا التهديد سيقتلنا، فإننا، للمفارقة، لن نُغمر بقوته في الحقيقة، وإنما سنهلك بعجزه المستعر. يمكننا بالطبع أن نقول إن هذا لا يهم حقًا، في حالة أن قُتلنا، وأن هذا بالأحرى عزاء ضعيف. استحضار ”تفعيل“ قوة ما هو أمر خطير وغامض للغاية. لكن يمكننا مع ذلك أن نستوعب بأي معنى قد يكون هذا التفعيل ”مخيبًا للآمال“...
على كل حال، تتجه رؤية بلانشو حول كون الأبوكاليبس مخيبًا للآمال اتجاهًا مختلفًا إلى حد ما. تسير حجته، في شكلها الأبسط، على النحو التالي: إن تهديد القنبلة وإمكاناتها التدميرية أظهرت، ولأول مرة، فكرة وجود كلية (العالم) - كلية يمكن، على وجه التحديد، أن تضيع، أو تختفي إلى الأبد. يمكننا أن نفقد كل شئ؛ لكن فكرة الكلية (الكل الذي يمكن أن يضيع) لا تظهر إلا من خلال النفي؛ فهي لا تكوّن كلًا إلا من منظور احتمال ضياعه. بعبارة أخرى، ليس هناك كلية (موجودة)، أو ”الدنيا كلها"، يمكن ضياعُها في نهاية المطاف (فعليًا) في أبوكاليبس ذري؛ ولكن وحده منظور الخسارة (المحتملة) هذا، للمفارقة، هو الذي يشكلها أو يجعلها تظهر بوصفها كلٍ totality أو كلية whole.
يتبنى بلانشو موقفًا هيجيليًا للغاية: فهو لا يتراجع على الإطلاق عن فكرة الكل أو الكلية كما يفعل العديد من الفلاسفة المعاصرين، بل يجادل بأنه على الرغم من أن ظهور هذه الفكرة مهم للغاية، إلا أنها تظل فكرة مجردة، أي أنها تظل مرتبطة بقوة النفي المجردة (كقوة الفهم). وبعبارة أخرى، فإن القنبلة (الأبوكاليبس الوشيك) تؤدي إلى ظهور فكرة الكلية، لكنها تظل ”مخيبة للآمال“ بمعنى أن هذه الكلية في الواقع فارغة من أي محتوى وشكل ملموس. يرتبط البشر معًا، يتحدون، فقط من خلال اختفائهم المشترك، وليس بأي شكل حقيقي لمجتمع عالمي. الكلُ الذي على وشك أن يختفي (إذا انفجرت القنبلة) لا وجود له في الواقع حتى الآن ككل أو كلية ذات معنى فعلي، يستشهد بلانشو بهيجل في توضيح هذه النقطة بالذات:
ماذا يعلمنا هذا الحدث الإشكالي؟ هذا: أنه بقدر ما يضع هذا الحدث الجنسَ البشري في كليته موضع تساؤل، فبسبب هذا الحدث أيضًا تنشأ فكرة الكلية بشكل واضح ولأول مرة في أفقنا - كشمس، رغم أننا لا نعرف ما إذا كانت تشرق أم تغرب؛ وأيضًا أن هذه الكلية في حوزتنا، ولكن كقوة سالبة. وهذا يؤكد بشكل فريد مقدمةَ فينومينولوجيا الروح: قوة الفهم هي قوة نفي مطلقة. (...) وهكذا يُحمَل الإنسان على الكلّ أوّلاً بقوّة الفهم، ويُحمَل الفهم على الكلّ بالنفي. ومن هنا عدم ثبات كلية المعرفة [toute connaissance]— - أي المعرفة التي تُحمل على الكل [la connaissance qui porte sur le tout].
ولكن دعونا نتفكر أكثر قليلًا. لماذا يخيب هذا الحدث الإشكالي الذي يجب أن نفرح به لأنه يؤكدنا في علاقتنا بالكلية -وهو صحيح، ولكن بطريقة سالبة فقط- ويؤكدنا في سلطتنا على الكلية- وهو صحيح، سلطة، لكن فيما يخص التدمير فقط- لماذا يخيب هذا الحدث آمالنا؟ إنها بالفعل قوة، لكنها قوة تربطنا بها الخسارة [en défaut]. قوة ليست في قدرتنا، تشير فقط إلى إمكانية دون سيطرة، إلى احتمال (...) ولكننا في الوقت الراهن عاجزون عن السيطرة عليها بقدر عجزنا عن الرغبة فيها، ولسبب واضح: نحن لسنا مسيطرين على أنفسنا لأن هذه الإنسانية القادرة على أن تُدمر بالكامل، ليست موجودة بعد ككل. من ناحية، قوة لا يمكن أن تكون، ومن ناحية أخرى، وجود - أي الجماعة البشرية - يمكن أن يزول ولا يتأكد، أو يمكن أن يتأكد، بمعنى ما، فقط بعد زواله وبفراغ هذا الزوال، المستحيل إدراكه، وبالتالي هو شيء لا يمكن حتى أن يُدمر، لأنه غير موجود.
لتجنب أي سوء فهم، ربما ينبغي أن نؤكد أولاً على ما يلي: إن بلانشو لا يقول إن تدمير العالم سيكون غير ذي أهمية لأن لا يوجد عالم (مجتمعي) حقيقي حتى الآن؛ فهو لا يقول بسخرية: ”فليذهب كل شيء إلى الجحيم، فالعالم كما هو لا يستحق العناء على أي حال!“ بل على العكس، يقترح بلانشو أنه الآن وقد أصبح لدينا على الأقل فكرة مجردة عن العالم (الإنسانية) ككل، فإن الأمر يستحق العناء أكثر من أي وقت مضى. وهنا يأخذ الجانب السياسي لنص بلانشو مكانه، لأنه يحول ما سلف إلى ما لا يقل عن كونه حجة مدهشة وقوية لصالح الشيوعية (التي لا يزال يلزم اختراعها)، والتي هي أيضًا وثيقة الصلة للغاية بعصرنا وظروفنا الحالية.
لكن لنأخذ هذا خطوة بخطوة.
كتب بلانشو نصه كرد جدلي على كارل ياسبرز. ألقى ياسبرز عام 1956 حديثًا عن الخطر الذري، والذي بُث بعد ذلك عبر الراديو، مما أحدث ضجة كبيرة. وعليه اعتقد ياسبرز أنه من الضروري تناول المسألة مرة أخرى، بل وحتى إعادة النظر في كل المشاكل التي نشأت فيما يتعلق برد الفعل هذا. كان الناتج كتابًا نُشر باللغة الألمانية عام 1958، وتُرجم إلى الفرنسية في وقت ”رد“ بلانشو عام 1964 تقريبًا. جاء كتاب ياسبرز بعنوان ”القنبلة الذرية ومستقبل الإنسان: الضمير السياسي لعصرنا. يشير بلانشو إلى النطاق الطموح للغاية لمشروع ياسبرز، كما يتضح في الاقتباس التالي من كتاب ياسبرز ”إن موضوع هذا الكتاب هو، بصريح العبارة، الضمير السياسي لعصرنا. أن تهديد القنبلة الذرية ينبغي أن يقدم بالضرورة بنية أخرى للضمير السياسي من أجل المستقبل بأكمله: هذه الحقيقة هي التي حددت العنوان الرئيسي للكتاب“ (ياسبرز 1958، 3) إن جوهر حجة ياسبرز كما أوجزها بلانشو هو ما يلي: لقد جعلنا العلمُ أسيادَ الفناء. اليوم توجد القنبلة الذرية، ويمكن للبشرية أن تدمر نفسها بنفسها، وهذا التدمير سيكون جذريًا، وإمكانية التدمير الجذري للبشرية على يد البشرية تدشن بابًا جديدًا في التاريخ؛ أنه مهما حدث، ومهما كانت التدابير الاحترازية التي قد تكون موجودة، فلا يمكننا العودة إلى الوراء. فإمّا أن يختفي الإنسان وإما يحول نفسه. وهذا التحوّل لن يكون على مستوى مؤسّساتي أو اجتماعي فحسب، بل هو تحول يتطلب تغييرًا في الوجود بكليته، تبدلٌ عميق -وفردي بالكامل.
أولى الضربات القاضية في رد بلانشو هي في إشارته إلى وجود تناقض صارخ بين ما يعلنه نص ياسبرز وبين النص نفسه. الموضوع هو أننا يجب أن نتغير، يقول بلانشو. ولكننا نُفاجأ على الفور بشيء ما: في ما يتعلق بياسبرز، لم يتغير شيء - لا في اللغة، ولا في التفكير، ولا في الصياغات السياسية التي استبقاها. تضاربٌ مذهل. كيف يمكن أن تكون له سلطة تنبيهنا إلى تهديد عظيم، إلى حدٍ ينبغي أن يحطم وجودنا تمامًا كما يقول، بل وتفكيرنا أيضًا، بينما هو مصرّ، دون طعن أو تعديل، على نفس التصور العقلي الذي اتبعه قبل أن يعي هذا الحدث الفريد، الإمكانية الكامنة لكارثة عالمية؟
لماذا سؤال على هذا القدر من الخطورة، سؤال يفترض، للإجابة عنه، وجود تفكير جديد جذريًا، لماذا لا يجدد مثل هذا السؤال اللغةَ التي تنقله، ولماذا لا يؤدي إلا إلى ملاحظات إما متحيزة… عندما تكون على المستوى السياسي، أو مؤثرة وملحة عندما تكون على المستوى الروحي، ولكنها مطابقة لتلك التي نسمعها عبثًا منذ ألفي عام؟ (بلانشو، 103)
يتساءل بلانشو عن مصدر هذه الصعوبة. هل لأن السؤال جد خطير، بحيث ينصرف التفكير عنه فورًا إلى طلب المساعدة؟ أم لأنه، على أهميته، لا يقدم شيئًا جديدًا؟ أم لأن السؤال بعيد كل البعد عن الأهمية التي تُعزى إليه؟ أو، أخيرًا، لأن السؤال ليس إلا ذريعة أو وسيلة ضغط توعزنا بقرارات روحية أو سياسية صيغت منذ زمن بعيد وبشكل مستقل عنه؟
يبدأ بلانشو بالإجابة بالإيجاب على السؤال الأخير: ما يشغل ياسبرز هو نهاية البشرية، ولكن بشكل خاص ظهورُ الشيوعية. وهكذا يصل إلى هذا السؤال العملي: هل ينبغي للمرء أن يقول "لا" للقنبلة إذا كانت هذه الـ"لا" تنطوي على خطر إضعاف دفاعات "العالم الحر"؟ تنتهي هذه المعضلة بالنسبة لياسبرز إلى: إما إنقاذ أنفسنا من الدمار التام أو إنقاذ أنفسنا من الهيمنة التامة: إما القنبلة وتهديد الدمار الشامل أو "الشمولية الانفجارية" (الشيوعية). وقد أصاب بلانشو في إشارته كيف أن منطق الاختيار الذي اقترحه ياسبرز هو في الحقيقة أقدم الأفكار: لا ينبغي تفضيل الحياة على دوافع العيش (أفضل أن أموت على أن تُسلب حريتي)، ينبغي أن نفضل الموت على القهر…
و بلانشو محقٌ أيضًا في إصراره على أن شيئًا ما قد ضاع هنا بشكل واضح إذا كان كل هذا الحديث عن التغيير والتحول الأكثر جذرية يؤول إلى هذه الأفكار القديمة. لا نرى الجدة الجذرية التي يقدمها، زاعمًا، منظورُ القنبلة في أي مكان، ولا يأخذها ياسبرز بجدية في حجته. ينحاز ياسبرز ببساطة إلى جانب واحد في صراع الحرب الباردة: لكن، بينما يتحدث الفيلسوف الليبرالي -ومعه عدد لا بأس به من البشر- عن الشمولية دون تدقيق أو نقد، يتحدث آخرون -ومعهم عدد كبير من البشر- عن التحرر وتحقيق المجتمع البشري ككل. (بلانشو، 104)
مع هذا، لا ينحاز بلانشو ببساطة إلى الجانب الآخر في هذا الصراع - فوجهة نظره أكثر تبصرا بكثير. يواصل ويقول:
يتعطل الحوار مرة أخرى. فالحدث، مفصل التاريخ، لا يغيّر من الخيارات أو التعارضات الجوهرية على الإطلاق. لا يكون التأمل في الرعب الذري سوى ادعاء؛ فما نبحث عنه ليس طريقة جديدة للتفكير بل طريقة لتعزيز المعضلات القديمة؛ ويتضح أن الإنسانية ستستمر، عبر هذا "الاختيار"، في الدوران حول القيم القديمة، وليكن ذلك إلى أبد الآبدين. (104)
بدلًا من الجدة لدينا التكرار، بل وتتويج إمكانية تكرار أبدي. المشكلة ليست في اختيار ياسبرز الجانب السياسي ”الخطأ“؛ المشكلة هي في تنصله الفوري من جدة المنظور الذي قدمته القنبلة الذرية، وفي استخدامه تهديدها لتعزيز المعايير والمعارضات/الثنائيات القديمة ببساطة. ما هو إشكالي جوهريًا في حجة ياسبرز ليس الاختيار الذي يرسو عليه ولا الجانب الذي يختاره، بل بالأحرى هي الشروط والطريقة ذاتها التي التي يصوغ بها هذا الاختيار.
لئن ارتد الفكر من جديد إلى تأكيداته التقليدية، فذلك لأنه لا يريد أن يخاطر بشيء من نفسه في حضور حدث غامض لا يستطيع أن يقرر ما يعنيه، بوجهه الرهيب، بظهوره كمطلق، حدث بحجم هائل ولكنه فارغ بشكل هائل، لا يستطيع حياله أن يقول شيئًا سوى هذا الابتذال: أنه من الأفضل منعه. (بلانشو، 107)
يقول بلانشو إنه في مواجهة هذا الحدث الغامض يمكننا فعليًا ربما أن نجازف بالتفكير بشكل مختلف، أي أن نفكر حقًا، بدلًا من العودة فورًا إلى الصيغ والمعارضات/الثنائيات القديمة. هنا يقوم بلانشو، مُلهمًا بهيجل، بانعطافته العبقرية التي تؤدي في النهاية إلى نوع مختلف تمامًا من الاختيار والمعارضة. هنا المقطع الحاسم الذي يعتمد بقوة على التمييز الهيجيلي بين مفهومي الفهم والعقل:
يتيح لنا الفهم أن نختار. إما أن نقبل، من الآن فصاعدًا، هذه النهاية على ما ستكون عليه عندما تحدث: حقيقة بسيطة لا يوجد ما يقال عنها، سوى أنها تافهة في حد ذاتها - شيء لا يستحق التمجيد ولا اليأس ولا حتى الانتباه. أو العمل على الارتقاء بالواقع إلى المفهوم والنفي الفارغ إلى السلبية. ومن هذا المنطلق يتوجه الفهم -وهذا صحيح، بطريقة غير مباشرة، لأن الاختيار لا يعود إليه، والفهم في الواقع غير مبالٍ به- إلى العقل. فالعقل هو الكلية نفسها في حدوثها، ولكن ليس لأنه يتحقق عبر تأثير بعض النوايا الحسنة الصامتة، بل من خلال الخلاف والصراع والعنف، فهو يخاطر بأن يثير، بينما يحقق نفسه، الحدث غير المعقول الذي في تضاده معه، وبصورة ما أيضًا، بمساعدته، يبعث نفسه. ومن هنا يأتي الاضطراب الذي يُدخله هذا المنظور في طرق التفكير القديمة: ما زلنا لا نعرف ماذا نقول عنه. فإذا أوكل ياسبرز، على سبيل المثال، لنفسه مهمة التفكير في الخطر الذري، دون أن يتوقف أبدًا في الوقت نفسه عن التفكير في "الخطر" الشيوعي، فذلك لأنه يشعر أن الإنسانية، في توجهها إلى هذا الكل المدمر، تخاطر بأن تستيقظ على فكرة الكل وأن يُضغط عليها، إذا جاز التعبير، لكي تصبح واعية به من خلال إعطاء الكل شكلًا، أي من خلال تنظيم وتوحيد نفسها. (107)
وهكذا يغير بلانشو بمهارة معايير الاختيار ويدعونا إلى (إعادة) اكتشاف خيار آخر. الخيار الحقيقي ليس بين التسامح مع القنبلة (ومن ثم المخاطرة بفقدان كل شيء) من ناحية وبين منع دمار العالم الذي يلوح في الأفق (ولكن بالتالي المخاطرة بفقدان حرياتنا الليبرالية) من ناحية أخرى؛ فالاختيار الحقيقي هو بين ”خسارة كل شيء“ وبين خلق ما نحن على وشك أن نفقده (حتى لو فقدنا كل شيء في هذه العملية): هذا وحده هو ما يمكن في نهاية المطاف، وبمعنى عميق، أن ينقذنا. المشكلة في الخيار كما صاغه ياسبرز هو أنه يقدم الوضع القائم على أنه متجانس تمامًا، لا لبس فيه، منجز بالكامل. أما بلانشو، من ناحية أخرى، فيشير إلى وجود صدع في هذا الوضع، حلقة زمنية مفرغة منقوشة فيها. عندما نكون عالقين في التهديد والخوف من ”فقدان كل شيء“ فإننا في الواقع رهائن لشيء غير موجود - حتى الآن. أليس هذا النوع من الابتزاز هو في الواقع وسيلة للتأكد على أنه لن يوجد أبدًا؟ إنه يجعلنا نركز على الحفاظ على ما هو موجود، وعلى ما لدينا، لكنه يستبعد أي بديل حقيقي، أي وسيلة للتفكير حقًا بشكل مختلف.
لا يعني الصدع في هذا المصير الذي يلوح في الأفق أن هناك فرصة أو إمكانية أو أمل في ألا يحدث؛ بل يعني أن ما كتب له الحدوث (وسيحدث بالضرورة) ليس موجودًا بالكامل حتى الآن: هذا ولا شيء آخر. هذا يشبه إلى حد ما، لو استخدمت تصوير تقريبي من عالم هوليوودي آخر، ذلك المشهد، مستحق الشهرة، من فيلم ”العودة إلى المستقبل“، الذي يحاول فيه البطل باستماتة أن يقدم والديه لبعضهما، وأن يحثهما على الوقوع في الحب، ومن ثم الحمل به. لديه، في الماضي حيث أُرسل عن طريق الخطأ، صورة فوتوغرافية يختفي هو منها شيئًا فشيئًا، لأنه يفشل في حمل والديه على التعارف... ماضي المستقبل الذي نعيشه يتحدد بطريقة مماثلة إلى حد ما.
إن دعوة الاستيقاظ التي يُحتمل سماعها مع ظهور القنبلة ليست ببساطة ”دعونا نفعل كل ما في وسعنا لمنعها قبل فوات الأوان"، وإنما “دعونا أولاً نبني هذه الكلية (الوحدة والمجتمع والحرية) التي نحن على وشك أن نفقدها من خلال القنبلة".[4] لو أنه "بزغت" من خلال القنبلة "فكرةُ الكلية جليةً ولأول مرة في أفقنا“ (كما هو الحال مع فكرة أننا يمكن أن “نخسر كل شيء")، فربما علينا أن نبدأ من هنا ونشرع في البناء.
لا يدعو بلانشو إلى أن ننحاز إلى جانب ”الشيوعية القائمة“ (أو الكتلة الشرقية) ضد الغرب، بل يدعو بالأحرى إلى شكل أكثر لايقينية من الاتحاد والتنظيم بصفته أول شكل حقيقي للعالم. الخيار هو الكفاح ليس فقط من أجل الحفاظ على العالم كما هو، بل من أجل التوحد في خلق وتشكيل عالم، للمرة الأولى... لا يتعلق الأمر بـ تغيير العالم بقدر ما يتعلق بـ صنعه. إن الكل أو الكلية التي يدافع عنه بلانشو ويدعو إليها هنا ليست نوعًا من الكلية العضوية المتناغمة كما هو واضح، بل هي ببساطة كلية لا تتنصل من خصمها (خصومها) antagonism(s). المقطع الحاسم في الاقتباس أعلاه هو هذا: ”العقل هو الكلية نفسها في حدوثها، ولكن ليس لأنه يتحقق عبر تأثير بعض النوايا الحسنة الصامتة، بل من خلال الخلاف والصراع والعنف، فهو يخاطر بأن يثير، بينما يحقق نفسه، الحدث غير المعقول الذي في تضاده معه، وبصورة ما أيضًا، بمساعدته، يبعث نفسه". القنبلة هي جزء من هذه الكلية، وكذلك هو الحال بالنسبة للصراع والعنف. ولكن هذه هي طبيعة الكلية الحقيقية.
ومع ذلك فالأمور ما زالت بعيدة عن التحرك في هذا الاتجاه، فما هي المشكلة؟ يخبرنا وضع ”القنبلة“ أيضًا بشيء ما حول ما يُنظر إليه عادةً على أنه بُعدٌ مشجعٌ (محررٌ) لبعض التهديدات القاتلة. يفترض بوعينا الحاد بأننا قد نموت فعلًا في أي لحظة أن يحررنا من مخاوفنا اليومية الصغيرة التافهة، ويمنحنا الشجاعة للسعي وراء أمور كنا لنخشى السعي وراءها خلاف ذلك...
ما يحدث في الواقع هو شيء مختلف تمامًا: إمكانية حدوث كارثة عالمية لا تنتج انفتاحًا على أبعاد جديدة للممكن، ولكنها عادة ما تبعث إما على اللامبالاة والاكتئاب، أو على ميل ملؤه القلق ”لتحقيق“ الاحتمالات الموجودة (وبأكبر قدر ممكن منها، حتى لا يفوتك أي شيء). وهي احتمالات من الواضح أنها تتحدد بأُطر الأوضاع الموجود بالفعل (اتخذ عشيقة، اصرخ في رئيسك، اسرق من المتجر....). بعبارة أخرى، ولربط هذا بـ حجة بلانشو، عندما نواجه هلاكًا وشيكًا، فليس من المعتاد أن نقول لأنفسنا ”سوف نموت جميعًا في القريب العاجل على أي حال، فلننخرط إذن في النضال من أجل الشيوعية!“
تخبرنا حقيقة أن اقتراحًا كهذا غالبًا ما سيثير الضحك، بالكثير عن الترسيخ الأيديولوجي لـ ”الممكن“ باعتباره مبنيًا على ما هو موجود بالفعل. نسمع كثيرًا عن ضرورة التفكير الإبداعي، وأصبح ”التفكير خارج الصندوق“ شعارًا رائجًا في مجال ريادة الأعمال. ولكن لماذا لا يتناول أحدٌ ولو من بعيد المثالَ أعلاه كمثال توضيحي على ”تفكير-حقيقي- خارج الصندوق“؟ لو أن كل شيء ذاهب إلى الجحيم على أي حال، فلماذا لا نطرح الشيوعية أولاً؟ لماذا يشجع الهلاك الوشيك عادةً على العدمية الشائعة فحسب: كل شيء بلا معنى، ولا شيء يستحق القتال من أجله؛ أو ”شجاعة“ مثيرة للشفقة pathetic، أي ”شجاعة“ ملؤها المرض pathos-ridden في طلب بعض الانغماسات الذاتية الأخيرة في مواجهة المحتوم...؟
أعتقد أن لهذا علاقة وطيدة بأيديولوجية الموت والنهاية. المشكلة لا تكمن في أن الموت - على الأقل من منظورنا العلماني - يبدو نهائيًا ولا رجعة فيه؛ المشكلة هي أنه يبدو شديد الامتلاء (بذاته)، كثيفًا وهائلًا للغاية. مجتمعنا هو مجتمع الموت، لكنه مجتمع لا يتقبل الموت على حقيقته: حدث هائل (بالنسبة لنا)، ولكنه أيضًا فارغ بشكل هائل، ”التفاهة insignificance في حد ذاتها.“ أجل، الموت مثل الأبوكاليبس، مخيبٌ للآمال: لا شيء في الحقيقة يحدث هناك.
والآن نحو شيء مختلف تمامًا؟
بعد بضعة عقود من اعتقاد متفائل بتزايد الرخاء والرفاهية العامة، عاد المزاج الأبوكاليبسي ليطاردنا. كارثة بيئية تلوح في الأفق، انهيارات اقتصادية، حروب، ”إرهاب“، وملايين اللاجئين، بل وعودةٌ راهنة لظهور القنبلة الذرية. ليس أن القنابل الذرية لم تكن موجودة طوال هذا الوقت، على العكس تمامًا. إلا أن وجودها لم يكافئ وجود ”القنبلة“ أثناء الحرب الباردة، إلى أن تلقينا مؤخرًا تكرارًا هزليًا (بالمعنى الماركسي/الهيجيلي) لحالة القنبلة في شكل طفلين بالغين مدللين، يهددان باستخدام قنابلهم لأنه، أسمعوا، لم يخلق من يتمـنيك علينا! ورغم ذلك، لا ينبغي أن تعمينا المهزلة عن خطورة الأمر، ولا عن حقيقة كون التهديد حقيقي تمامًا.
على الرغم من أوجه التشابه هذه، إلا أن هناك أيضًا اختلافات مهمة بالنسبة إلى وضع الستينيات، وخاصة فيما يتعلق بما تمثله القنبلة. تتشوش هذه الاختلافات إلى حد كبير بفعل التفكير الأبوكاليبسي السائد ذاته، أي بفعل توقع الأبوكاليبس.
فقد أوحت حالة القنبلة بتدمير، فوري إلى حد ما، للعالم وانقراض البشرية، وهو ما كان يمكن أن يحدث لو أن شخصًا ما ضغط الزر الخطأ. اليوم، أكثر ذوي الرؤية من المحللين لا يحذرون مما سيحدث إذا ضغطنا الأزرار الخطأ؛ بل يصرون على أن الزر الخطأ قد ضُغط بالفعل. لقد بدأ الأبوكاليبس بالفعل وأصبح جزءًا نشطًا في حياتنا وعالمنا كما هو عليه. فهو لا ينتظرنا في وقت مستقبلي ما، ولكنه يشكل ظروفنا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية بينما نتحدث. لا يعلمنا درس اليوتوبيا السلبية (المسلسل التلفزيوني The Handmaid's Tale مثال حديث بارز) ببساطة أننا نقترب من الأبوكاليبس؛ بل يوجه انتباهنا إلى مدته أيضًا: يمكن أن يستغرق الأبوكاليبس وقتًا، وحتى الكثير منه؛ فهو ليس بالضرورة حدثًا فوريًا، بل يمكن أن يدوم... وقتًا يكفي لقيام عالم آخر وتاريخ آخر قبل أن ”ينتهي كل شيء“. ويمكننا أيضًا أن نقول: إن النتيجة النهائية للأبوكاليبس (الانقراض التام) هي اللاأهمية insignificance ذاتها. تكمن المشكلة في أن الأبوكاليبس ليس نهاية العالم بقدر ما هو، أولًا وأخيرًا، تكشّف عالم جديد.
ماذا يعني هذا؟ يمكننا أن نجد، على مستويات مختلفة من التحليل، حجة مقنعة مفادها أن المشكلة الأكبر اليوم ربما تكون في الاعتياد/التطبيع normalization السريع، وبالتالي القبول بأمور كانت لا تزال تعتبر، منذ لحظات ليس إلا، غير مقبولة إطلاقًا، ”مستحيلة“ (اعتياد ”التعذيب“ - في ظروف معينة - والعنصرية، التمييز، التهميش precariat، ”الأزمة“ وحالة الطوارئ...). ولا يتعلق الأمر هنا بالتحرك نحو مصائر جديدة؛ فهذه الأمور ليست ”غير مسبوقة“ بسبب جدّتها، بل تحديدًا لأنها تشكل خطوة إلى الوراء نحو نقطة كنا نعتبرها ”تعدت الحدود beyond the pale“، أي أنها ردة عن ”التقدم“ الذي اعتبرناه ”لا رجعة فيه“. فمن ”غير المألوف“، على سبيل المثال، أن يقدم شخص يشغل منصبًا عامًا دعمًا مستترًا لمسيرة متعصبين بيض تعرض علانية رموزًا وشعارات نازية، وكذلك دعوات علنية للعنف - ولكن لا جديد في ذلك. في الواقع، هذا تعريف محتمل للأبوكاليبس: تعليقٌ أو رجوعٌ لعين ما لا رجعة فيه.
†††
باختصار، كل هذا لا يوحي بأننا في مواجهة أبوكاليبس وشيك، بل أننا بالأحرى نقبع في داخله. الأبوكاليبس هنا بالفعل، فنحن لا يمكننا ”منعه“، أو لنصوغ ذلك بطريقة مختلفة قليلًا:
قال جيورجيو أجامبن في إحدى المقابلات إن ”الفكر هو شجاعة اليأس/فقدان الأمل“ - وهذا استبصار يلائم بشكل خاص لحظتنا التاريخية، حيث كقاعدة عامة ينتهي حتى أكثر التشخيصات تشاؤمًا بتلميح مشجع من نوعية أمثولة الضوء في نهاية النفق. لا تكمن الشجاعة الحقيقية في تخيل بديل، بل في قبول عواقب حقيقة عدم وجود بديل واضح المعالم: فالحلم ببديل هو دليلُ الجبن النظري، يعمل كفيتش يمنعنا عن التفكير إلى نهاية مأزقنا المتورطين فيه. باختصار، الشجاعة الحقيقية هي الاعتراف بأن الضوء في نهاية النفق هو على الأرجح كشاف قطار آخر يقبل علينا من الاتجاه المعاكس. (جيجيك 2017، xi-xii)
بعبارة أخرى، إلى أن نستوعب تمامًا غياب أي مخرج، لا شيء يمكن أن يتغير حقًا. يطرح قولُنا بأننا اليوم نقبع داخل الأبوكاليبس منظورًا مختلفًا عن ذلك الذي ينطلق منه بلانشو. يفترض منظور الكل، منظور ”الكلية“ التي يمكن أن نفقدها، وجودَ نقطة خارجية تظهر أمامها هذه الكليةُ كليةً. هذه النقطة الخارجية، في حالة الوضع الذي حلله بلانشو، هي نقطة زمنية: سنفقد كل شيء في الأبوكاليبس. يعتمد منظور الكلية على الفجوة الزمنية التي تفصلنا عن الكارثة: فحين نقف ونترقبها نكون في نقطة خارجية عن الأبوكاليبس. وبالتالي الكيفية التي يصوغ بها بلانشو دعوته إلى الاستيقاظ هي: بدلًا من انتظار أن نخسر كل شيء، يمكننا أن نتحد وننظم أنفسنا ككلية، ونبني العالم/الإنسانية ككلية - ومن ثم نقرر ما إذا كنا نريد ذلك أن يختفي أم لا. حيث أن بلانشو يبتعد كل البعد عن القول بأن تكوين الإنسانية (ككلية) يستبعد تدميرها.[5]
لم يعد المنظور الذي افتتحه الأبوكاليبس الراهن هو المنظور نفسه الذي يمكن وفقًا له أن نفقد ”كل شئ“ في حدث واحد عصي على الفهم. بالطبع لا يزال تخييل هذا الاحتمال حيًا: لا تزال التنبؤات والتوقعات الخاصة باصطدام هذا الكوكب أو ذاك بالأرض وتدميرها بالكامل مثيرةً للخيال. وعلى الرغم من طابعها الكارثي، إلا أن شيئًا مفرطًا في تفاؤله يتعلق بها ربما. لأننا نعرف جيدًا أننا لن نخرج من هذا الأمر بسهولة، وأن الموت سيكون على الأرجح تدريجيًا وطويلًا ومؤلمًا...
حلولنا في الأبوكاليبس هو بالتحديد ما يتيح ممارسة/عمل هذا الاعتياد في الوقت ذاته. ماذا يعني هذا؟ فقط فكر في تلك النصيحة التي نسمعها عادةً عندما نمر بظرف مروع، مثلا لنفرض أننا فقدنا حبيب. إذا فكرنا في كل ما فقدناه بفقدان هذا الشخص، فإن لهذا المنظور أن يحطمنا تمامًا (لن نفعل هذا مرة أخرى، ولا ذاك، و... - التصور بأكمله لا يطاق). لهذا السبب ننصح بعدم التفكير بهذه الطريقة، بل أن نحاول النجاة ليوم واحد أولًا ، ثم الذي يليه وهكذا كل على حدة، وأن نركز على المهام الحالية... وماذا يكون هذا خلاف أنه دعوة للبدء في عمل الحداد، أن ندخل في حدادنا، أن نسكنه، تحديدًا دون أن نحاول فهمه على كليته؟ يحدث كل يوم ما كنا لنعتبره، في اليوم الذي يسبقه، مستحيلًا أو غير محتمل، ولكننا نتأقلم ببطء مع الوضع الجديد. ولكن، في مثالنا هذا، إذا فقدنا أولاً الحبيب ومن ثم فتح هذا الفقدان (الملموس) منظورَ الكل الذي خسرناه معه، منظور الكل الذي نخطو إليه بعد ذلك ونبدأ عمل الحداد، يعمل الأبوكاليبس المعاصر بشكل مختلف. نبدأ بإستراتيجيات النجاة، نستوعب الخسائر واحدة تلو الآخرى، وفقط في ”النهاية“ سنكتشف ما الذي خسرناه ككل. نعتاد اليوم على هذا، وغدًا على شيء آخر؛ سنتدبر أمرنا بطريقة ما، طالما أننا لا نرى الصورة الكاملة، والتي تتخلق في الواقع بهذه الطريقة.
حقيقة أن الاعتياد يعمل بسلاسة هو تحديدًا الدليل على أننا بالفعل داخل الأبوكاليبس. وهذا يعني أن تلقائية الاعتياد ليست طريقًا إلى ولا وسيلة للتغيير البنيوي، بل هي بالفعل علامة ومؤشر وعَرَض من أعراض التغيير البنيوي الخطير - أي حقيقة أن الزر ضُغط بالفعل. لولا أن هذا التغيير قد حدث بالفعل، لما كان للاعتياد أن يعمل بمثل هذه السلاسة. ألفنا أن نقول ”يعتاد المرء، مع مرور الوقت، على كل الأمور حتى أسوأها". هذا ليس أمرًا سيئًا بالضرورة لو أننا عرفنا ما الذي فقدناه ومررنا بالحداد عليه. ولكن هذا هو بالضبط ما لا يمكننا معرفته لأسباب بنيوية، لأن هذا ”الشيء“ يتخلق بينما نمضي في حياتنا ومن خلال تكيفاتنا اليومية. الأبوكاليبس الراهن هو فقدٌ دون مفقود، حدادٌ يسبق الفقد وفعليًا يخلقه بعمله (أي عمل الحداد)، هو حداد بلا موضوع.
هل يعني هذا التغيير البنيوي أن ”حل“ بلانشو، أي دعوته أولًا إلى خلق الكل الذي نحن على وشك أن نفقده، يفقد أهميته هنا؟ على العكس من ذلك. إن موضع العقل ( الـ Vernunft الهيجلي) التي يدعونا إليها بلانشو هو تحديدًا موضع داخلي بالنسبة للكل وليس خارجي عنه في الواقع. حقيقة أن الأبوكاليبس هنا بالفعل، وأنه قد بدأ بالفعل، لا تعني أن كل شيء قد انتهى. تكمن المشكلة في أننا، في معظم الأحيان، لم نتقبل بعد أن هذا التغيير قيد العمل بالفعل - ما زلنا نفكر في العالم على أنه ما زال سابقٌ للأبوكاليبس، فنحن ننتظر الكارثة، ونخاف منها، ونأمل أنها ربما لن تحدث.... أو كما قال بلانشو على طريقته:
يبدو أن العقل، في ترقبه لنفسه، وفي شلله بهذا الترقب، يريد فقط أن يكسب الوقت، ولكي يكسب الوقت، فإنه يوكل إلى الفهم المهمةَ التي لم يتمكن هو من إتقانها بعد. (بحيث يكون أفضل ما يعبّر عن سبورة زماننا هو هذا التعليق ربما: ترقبُ/انتظار العقل يتواضع أمام الفهم). (108)
يتابع بلانشو، الفهم بارد وبلا خوف. إنه يحلل الخطر ويخضعه لمقاييسه، ويبحث عن الحلول والإستراتيجيات والتعديلات. هذا العمل مفيدٌ، فهو يزيل الغموض عن نهاية العالم، ويظهر إمكانية العيش معه (وهذا هو تحديدًا الاعتياد الذي تناولناه: لقد تعلمنا كيف نتعايش مع الأبوكاليبس). "إنه يُظهر أن خيار الكل أو لا شيء، والذي يحول السلاح الذري إلى قوة شبه غامضة/سحرية، هو أبعد شيء عن كونه الحقيقة الوحيدة لوضعنا… أجل، هذا الدرس الذي يعلمنا الفهم إياه درسٌ رزين. إلا أنه يكاد يكون مفرطًا في رزانته، لأنه يعرضنا لفقدان الخوف". (108)
لا يعني فقدان الخوف الذي يتحدث عنه بلانشو أننا أصبحنا جسورين لدرجة أننا لم نعد نخاف من أي شيء؛ فهو لا يتحدث عن شجاعتنا بل عن نظرتنا إلى العالم التي تفيد بأنه يمكن، بالتعديلات الضرورية، حلَ كل مشكلة فيه... فقدان الخوف لا يتحدث عن حضور الشجاعة، بل عن غيابها، بالمعنى الذي أضفاه عليها أجامبن وجيجيك: ”شجاعة اليائسين"، شجاعة الاعتراف بأننا لا نملك حلًا وأنه لا يوجد حل في الأفق. عوضًا عن هذا، نحن ”نفضل الموت“ حرفيًا على أن نعترف بذلك.
من أين يأتي هذا التأثير المُشِل للعقل في استباقه لنفسه؟ لا يشعر العقل بأنه على مستوى مهمته، أو على مستوى العمل الذي هو من صنيعة يده بالفعل. ربما كان السؤال هو ما إذا كان يمكن للعقل، في أي مرحلة من المراحل، أن يشعر بأنه على مستوى هذه المهمة؛ أو ما إذا كان الأمر بالأحرى هو أن اتخاذ المخاطرة والقيام بالخطوة الأولى هو الدليل الممكن الوحيد على أنه على مستوى هذه المهمة؟ هذه المخاطرة ”وجودية“ بالمعنى الصحيح، لأنها لا تكفلها أي ضمانة، أو أي تفويض/سلطة رمزية mandate. وهذه المخاطرة، هذه الخطوة نحو المجهول، ليست بالضرورة مسألة قرار (مُبيّت) - فيمكن دفعنا أيضًا إلى اتخاذها.
منذ سنوات عديدة، شاهدت على شاشة التلفزيون فيلم رعب[6] في بدايته حيث قررت امرأةٌ مكتئبة ٌالانتحارَ، كانت على وشك ابتلاع زجاجة كاملة من الحبوب المنومة عندما تسلق مستذئب جدار المنزل، ودخل من نافذة الحمام. وبدأت المرأة، التي كانت على وشك الموت على أي حال، في الصراخ طلبًا للنجدة وفعلت كل ما في وسعها للهروب من المستذئب. رأيت هذا مضحكًا للغاية في وقتها، من الواضح أنه لم يكن عليها أن تبالي إذا ما ماتت بطريقة أو بغيرها، كان يجب عليها أن تنظر إلى الوحش مباشرة في عينيه وتقول له: تعال كن ضيفي! لكن ربما كان رد فعلي خاطئًا بعد إعادة التفكير. المشهد مضحك بالطبع، ولكن هذا لأن الحقيقة مضحكة. ليس الأمر أنه عند رؤية المستذئب، أدركت المرأة فجأة أن حياتها، الخالية من المعنى، لها معنى رغم كل شيء. ولا ببساطة أن غريزة البقاء تغلبت على الاكتئاب والاعتبارات الميتافيزيقية حول غياب أي معنى في أي شيء. لا، كانت ببساطة في تلك اللحظة، وكما نقول، خائفة حتى الموت. وقد أيقظها ذلك.
يمكن أن يكون للمواجهة مع السلبية the negative، رغم ما تحمله من مباشرة immediacy وحشية، تأثيرٌ رمزيٌ عميق. اكتسب ”منطق البقاء المحض logic of sheer survival“ سمعة سيئة للغاية في الفلسفة التحررية المعاصرة (في أعمال آلان باديو على سبيل المثال): إنه يعني في الأساس أن تشبثنا بالحياة تشبث مجرد، في غياب أي فكرة أو حقيقة، وبالتالي يحافظ على الوضع الراهن. لكن ربما علينا أن نعود إلى هيجل في هذه النقطة، وأن نؤكد على الفرق بين لحظة صراع الحياة والموت التي تدشن جدلية السيد/العبد، وبين هذه الجدلية ذاتها.[7] في حالات الخوف حتى الموت mortal fear يختار العبدُ الخائف الحياةَ، ولكن هذا لا يعني أنه بفعله هذا يحكم على نفسه بسعي خاضع للبقاء إلى الأبد، دون أي فكرة أو حقيقة. السيد مستعد لقطع الطريق إلى آخره والموت، ولكن هذا لا يعني أيضًا أنه من الآن فصاعدًا محصنٌ من منطق- وقيود- السعي للبقاء. يرى هيجل أن الحرية الفعلية بالأحرى (فيما يتعلق على سبيل المثال بمتطلبات البقاء) لا يمكن اختيارها مباشرة، وبهذا المعنى فإن اختيار السيد ليس "صحيحًا" أكثر من اختيار العبد. فكلاهما خياران قسريان. وبالتأكيد لا يتعلق هذا الأمر فقط بحقيقة أن علينا أن نختار الحياة أولاً، إذا أردنا أن نصنع شيئًا بها؛ بل يتعلق بحقيقة أننا نحتاج أولاً أن نختبر رعشة السلبية الخالصة، خوفًا حتى الموت. إذا لم يكن اختيار الحياة اختيارًا قسريًا (قسريًا بسبب خوف حتى الموت mortal fear)، وإنما بدا طبيعيًا وفوريًا، فلا سبيل إذن للنفاذ إليه وتكرار الاختيار؛ إذ لا يوجد هنا ما نكرره، فلا يمكننا إلا أن نتشبث بحياتنا. ليست المشكلة أن عبدًا، في رعبه حتى الموت، ينحني أمام سيده- فبالنسبة إليه لا يزال أمامه مهربٌ ممكن، مستقبلٌ، أو حريةٌ حتى. المشكلة هي في فكرة ”الإنسان المحايد"، الذي ليس سيدًا ولا عبدًا، وإنما إنسان يخلق حياته "بحرية"، ويبدل الأدوار ... إلخ، وعلى العكس من ذلك، فإن ما يحكم علينا بمنطق البقاء دون أي فكرة أو حقيقة ليس تجربة الخوف حتى الموت، بل غياب هذه التجربة، وغياب القطع (الرمزي أيضًا) الذي تمثله، وغياب حلول الذاتية subjectivation- بطريقة أو بأخرى - في هذا القطع. أؤكد على حلول الذاتية، لأنه كما يعلمنا التحليل النفسي، أن هذا النوع من القطع يمكن أن يؤدي أيضًا إلى نبذه foreclosure، أي إلى الذهان، الذي هو بالتحديد طريقة لتجنب حلوله في الذاتي. بخلاف ”السيد” و“العبد"، "يختار" الذهاني الحرية مباشرة؛ لكن ثمن اختياره المباشر هذا هو أن يعيش عاجزًا أسيرَ حريته، مستعبدًا بها، إذا جاز التعبير. يشدد كل من هيجل ولاكان على أن اختيار الحرية الفعلية لا يمكن إلا أن يكون خيارًا ثانيًا مكررًا.
وبالعودة سريعًا إلى مثالنا السابق عن المنتحرة التي قاطعها مستذئب، يمكننا أن نربط هذا الموقف بالجدلية المنطقية والزمنية التي أكد عليها بلانشو. فالمرأة التي قررت الانتحار اتخذت قرارها هذا بناء على استبصار مبني على الفهم والذي بموجبه كان كل شيء بلا معنى. المفاجأة المتمثلة في ”اجتياح السلبي“ (المستذئب) تجعلها تبدأ بالقتال من أجل حياتها - الحياة التي لم تحظَ بها حقًا، وبالتالي كانت مستعدة للتخلي عنها. ولكن ربما ستحظى بها الآن من خلال هذا القتال، تحديدًا - ربما - لأنه لا توجد ضمانات هنا. في عالمنا الأبوكاليبسي، في سلاسة الاعتياد والتكيف مع الأمور الإشكالية واحدة تلو الأخرى، عندما يكون موقفنا تجاه العالم ”سليمًا“ لدرجة أن يكون في الواقع مفرطًا في سلامته، سيكون هناك بالطبع مستذئبون أيضًا يظهرون من وقت لآخر. فدونالد ترامب في الأخير هو مستذئب من نفس الشاكلة. لكن هل يمكنهم إخافتنا حتى الموت؟ هل يمكنهم إخافتنا لدرجة أن نبدأ في القتال من أجل حياتنا ونتحول من وضع البقاء على قيد الحياة والتعامل مع الأمور كل يوم على حدة (وبأكبر قدر ممكن من الراحة)، إلى صراع شغوف من أجل حياتنا؟ لأن الكفاح من أجل الحياة ليس مثل التشبث بها وبالوضع الراهن؛ إنه أكثر من هذا بكثير، وهو يستمد قوته من المواجهة مع السلبية، من الضيق الأقصى الذي يمكن أن يكون أيضًا مهدًا للأفكار وحتى الحقائق.
ما الذي يعنيه كل هذا بالنسبة للفرق الذي أشرنا إليه سابقًا - الفرق بين منظور الكل، الذي يظهر على هذا النحو من وجهة نظر خارجية، وكوننا نقع داخل هذا الكل، الأمر الذي بسببه لا يمكننا رؤيته ككل؟ وأيضًا، بما أننا ربطنا هذا الاختلاف بالفرق بين منظور الفهم ومنظور العقل (بالمعنى الهيجلي لهذين المصطلحين)، فهل يعني هذا ببساطة أن فكرة الكلية مفقودة من منظور العقل؟ يتناقض هذا بالتأكيد مع رأي هيجل. في الحقيقة، نحن نتعامل مع نوعين مختلفين من الكلي أو ”الكليات“، وتَصَور لاكان هذا الاختلاف على أنه الاختلاف بين ”الكل“ و”اللاكل“. أكثر ما يعوزنا لفهم هذا الاختلاف هو تحديدًا تجنب فكرة أن ”اللا-كل“ هو نقيض ”الكل" وبالتالي نقيض الكلية. لكن ”اللا الكل“ هو ”الكلُ“ يُضاف إليه شيء آخر، إنه ”الكل“ بالإضافة إلى وجهة النظر التي يظهر منها هذا الكل على أنه ”الكل“. تقع هذه النقطة الآن داخل ”الكل“/”الكلية“، والتي لهذا السبب بالذات تصبح لا-كل/لا-كلية؛ أي أنها تتضمن سلبيتها الخاصة. اللاكل اللاكاني هو نوع مختلف من الكل، وليس مجرد نقيضه. هذا يعني أيضًا أن هناك نقاط معينة داخل هذه الكلية، والتي من خلالها، ومن خلالها فقط، يمكن أن تظهر هذه الكلية على أنها كلية.
إذا أمكن إيقاظنا، من ناحية، على فكرة الكلي من خلال إمكانية فقدانه، أي إمكانية فقدان هذا الكل (حتى لو لم يوجد بعد), فيمكن، من ناحية أخرى، إيقاظنا عليها أيضًا من خلال ظهور الفقدان في حد ذاته as such، أي من خلال القطع الذي يضاعف - ويعمل كعلامة رمزية على - لا-أمن ولا-اكتمال كلية (الحياة).
يمكن أن يعمل التهديد المتجدد بالحرب النووية في الآونة الأخيرة كمثال على هذا القطع. الأبوكاليبس بدأ بالفعل، و”ضغط الزر“ سيلازم الأبوكاليبس من الآن: فهو يعمل كقطع يمكن أن يفتح منظور ”الكل“ من الداخل، ويجعلنا نقاتل من أجل حياتنا - وربما نبني عالمًا أثناء هذه العملية. أم أننا ما زلنا نفضل الموت على أن ندع هذا الشيء ”يجعلنا نشخ على أنفسنا“ كما يقول المثل؟ إذا كان الأمر كذلك، فنحن ما زلنا، كما هو واضح، في طور عمل الحداد دون موضوع (سلاسة عملية الاعتياد، التقبل التدريجي لما اعتبرناه حتى الأمس لا يمكن تصوره)، بدلًا من ”القفز عبر“ وبدء العمل على الموضوع (موضوع الحداد)، عملية لن نبني من خلالها الفقد، وإنما المفقود. نحتاج من أجل القيام بهذه القفزة إلى الشجاعة. إلا أنها ليست شجاعةً بالمعنى المعتاد؛ ليست شجاعةَ الفهم، التي لا يندر وجودها اليوم (كما سبق أن أشرنا: ”نفضل الموت“ أو الأسوأ من ذلك - أن نستمر في المعاناة، على أن نعترف ببعض الأمور الجلية). لا، ما ينقصنا هو بالتحديد ”شجاعة اليائسين“ - الشجاعة لرؤية غياب الأمل في مأزقنا. ما ينقصنا - وبكلمة واحدة، ولكي نتبع أجامبن في هذا - هو الفكر thought.
هذا الفكر ليس نقيض الفعل، بل هو الشرط الملازم لفعل شجاع حقًا، فعلٌ يُحدث فرقًا في نهاية المطاف.
قد يعني هذا أيضًا إعادة اكتشاف ”القضية الخاسرة“ بطريقة جديدة: لا توجد قضايا خاسرة، بمعنى القضايا التي خُسرت منذ بدايتها in the sense of causes that were originally lost. هناك فقط قضايا تكرر العثور عليها refound، قضايا عُثر عليها مرة أخرى، قضايا تبزغ محل شيء لم يكن أبدًا - لم يسبق له وجود - ومع ذلك باستطاعتنا التعرف عليه.
الأعمال المقتبسة
Blanchot, Maurice. “The Apocalypse is Disappointing.” Friendship. Trans. Elizabeth
Rottenberg. Stanford: Stanford UP. 101-108. الأبوكاليبس خيبة أمل.
Dolar, Mladen. “Moč nevidnega.” Problemi 1-2 (2004): 113-131.
Hegel, G. W. F. Phenomenology of Spirit. Trans. A. V. Miller. Oxford: Oxford University
Press, 1977.
Jaspers, Karl. Die Atombombe und die Zukunft des Menschen. Munich: Piper Verlag,
1958.
Lacan, Jacques. The Other Side of Psychoanalysis. Trans. Russell Grigg. New York: W.
W. Norton & Company, 2007.
Žižek, Slavoj. In Defense of Lost Causes. London: Verso, 2008.
Žižek, Slavoj. The Courage of Hopelessness. New York: Penguin Random House, 2017.
[1] بلانشو، موريس. ”الأبوكاليبس خيبة أمل“. في كتاب صداقة. ترجمة إليزابيث روتنبرغ، دار نشر جامعة ستانفورد، 1997، 101-108.
[2] ”في خطاب السيد، على سبيل المثال، يستحيل فعليًا وجود سيد يجعل العالم بأسره يعمل. حمل الناس على العمل هو أكثر إرهاقًا، إذا كان على المرء يقوم به، من اضطلاعه بالعمل بنفسه. فالسيد لا يفعل ذلك أبدًا. وإنما يعطي إشارة، دال السيد، فيقفز الجميع.“ (لاكان 2007، 174)
[3] راجع ملادن دولار 2004
[4] حاشية إضافية في ما يتعلّق بالجهود (السياسية) للمحافظة preservation: لا عيب بالطبع في محاولة الحفاظ على قيم وإنجازات معيّنة، لنقل دولة الرفاه مثلًا. لكن تكمن مشكلة السياسة اليسارية، باختزالها في النضال من أجل الحفاظ على البقايا الآخذة في التلاشي لدولة الرفاه، في أن معركتها خاسرة في ظل السياسات الاقتصادية المدمرة الراهنة، خاسرة ليس فقط بسبب نخبة الماليين المستفيدين من خسارتها، ولكن لأن هذه النخبة نفسها تعتمد على السواد المتنامي من أولئك الذين لم يتمكنوا أبدًا من الحصول على أي من هذه ”المزايا“، بل وبدلاً من ذلك يستنكرونها عليهم باعتبارها امتيازات (حديثي السن، عمالة هشة). إن الديناميكية الحالية كارثية، لأن الفقر المتزايد وانعدام الأمن، لا يبتعد فقط عن الإضرار بتلك الديناميكية، وإنما يصب في أيدي الـ ”1%“ سيئي السمعة أيضًا. يكافح الفقراء المدقعون لصالح فاحشي الغناء، وهو ما اتضح جليًا في انتخاب دونالد ترامب رئيسًا.
[5] ”من المحتمل جدًا ألا تخاف الإنسانية من قوة النهاية هذه إذا استطاعت أن تميز فيها قرارًا يخصها وحدها، بشرط أن تكون هي ذات الفعل الحقيقي وليس مجرد موضوع الفعل، ودون أن تضطر الإنسانية أن تعهد في هذه المبادرة الخطرة إلى رئيس دولةٍ غريبٍ عن الإنسانية اليوم بقدر غرابة السلحفاة، بالنسبة لإسخيلوس التعيس، التي سقطت من السماء وسحقت رأسه. ويحدثنا أحدهم باستمرار عن الانتحار، يقال لنا: لقد أصبحتم أخيرًا سادة أنفسكم وحكامها، فأنتم لا تملكون موتكم وحده بل أن فيكم موتَ الجميع. خطاب غريب يصور لنا بشكل طفولي آلاف البشر منقسمين على نموذج فرد واحد، بطل السلبية/النفي الأعلى، يتمارى، كهاملت في أواخر حياته، في أسباب تسليم نفسه للموت، أن يموت بيده هو ليحافظ على قوة الموت حتى النهاية. ولو افترضنا لخيال الانتحار العام هذا أي معنى على الإطلاق، فلن يكون كذلك إلا إذا أمكن لكل البشر أن يروا ما الذي ينقصهم لكي يصلوا إلى قرار موتٍ كهذا يُوصف بالطوعي، تكون ذاته الفاعلة هي العالم.“ (بلانشو، 106)
[6] لا أتذكر العنوان، لكن قيل لي أن الوصف ينطبق على فيلم ”الرصاصة الفضيةٍ Silver Bullet“.
[7] راجع هيجل 1977، 111-119.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه