مثلما في المرحلة الأولى من تطور الرأسمالية، كان أكثر من تأثّروا مباشرةً بتلك السياسات من النساء، وبالأخص النساء ذوات الدخل المنخفض والنساء الملونات

في التراكم الأوّلي، والعولمة، وإعادة الإنتاج 

مقال لسيلـﭭيا فيدريتشي 

ترجمة أحمد حسان 


سيلـﭭيا فيدريتشي عن مجلة The Commoner

إعادة التفكير في التراكم الأوّلي 

بدءاً من عدد عام 1990 من Midnight Notes حول "التطويقات الجديدة"1 الذي تلته نظرية ديفيد هارفي David Harvey عن "التراكم بنزع الملكية"2 والعديد من المقالات عن التراكم الأولي [البدائي] التي نشرت في The Commoner3، استكشف قدرٌ كبير من الكتابات المعنى السياسي لهذا المفهوم وطبّقه على تحليل ’العولمة‘. وقد أسهم الفنانون في هذه العملية. والمثال البارز هو معرض مبدأ بوتوسي الذي قدّمه فنانون ورعاةٌ ألمان، وبوليفيون، وإسبان4، عملوا على إظهار الاستمرارية بين المخيلة الموجودة في العديد من لوحات القرن السادس عشر الاستعمارية في إقليم الإنديز في ذروة التراكم البدائي في ’العالم الجديد‘ وبين المخيلة الناشئة عن ’التطويقات الجديدة‘ التي كانت محورية بالنسبة لبرنامج العولمة. كذلك كان بالغ الأهمية في هذا السياق عمل الكاتبات النسويات أمثال ماريا ميس Maria Mies، ومارياروزا داللا كوستا Maria Rosa Dalla Costa، وكلاوديا فون فيرهوف Claudia von Werlhof، اللاتي أقررن بـ"المدى الذي يرتكز به الاقتصاد السياسي الحديث، حتى الحاضر، على نزع الملكية والحرمان من السلطة الدائمين على نطاق عالمي للمنتجين، الرجال، والنساء بدرجة أكبر"5

بفضل هذه الدراسات والإسهامات الفنية نقرّ نحن الآن بأن التراكم الأولي ليس حدثا تاريخيا وحيدا مقتصرا على أصول الرأسمالية، باعتباره نقطة انطلاق ’التراكم بالمعنى المحدد‘. بل هو ظاهرة مؤسسِّسة للعلاقات الرأسمالية في كل الأزمان، تعاود الرجوع أبديا، "جزءٌ من السيرورة المستمرة للتراكم الرأسمالي"6 و"متزامنة دوما مع توسّعه". هذا لا يعني أن التراكم الأولي يمكن "تطبيعه" ولا أننا يجب أن نقلّل من أهمية تلك اللحظات في التاريخ ــ أزمنة الإخلاءات، والحروب، والحملات الإمبريالية "حين يجري، فجأة وبالقوة، فصل جماهير ضخمة من البشر عن وسائل بقائهم على قيد الحياة وإلقائهم في سوق العمل كبروليتاريين أحرار، كبروليتاريين بلا حماية وبلا حقوق"8

لكنه يعني، أننا يجب أن ندرك ’فصل المنتِج عن وسائل الإنتاج‘ -الذي هو بالنسبة لماركس جوهر التراكم الأولي- باعتباره شيئا يجب إعادة تفعيله باستمرار، خصوصا في أوقات أزمة الرأسمالية، حين يجري تحدّي العلاقات الطبقية ويتوجب منحها أسساً جديدة. وعلى نقيض رؤية ماركس أنه مع تطور الرأسمالية تظهر إلى الوجود طبقة عاملة تنظر إلى العلاقات الرأسمالية باعتبارها "قوانين طبيعية بديهية"، فإن العنف ــ سر التراكم الأولي عند ماركس10 ــ ضروري دائما لإقامة والحفاظ على انضباط العمل الرأسمالي. وليس مدهشا، كاستجابة لذروة دورة نضالات غير مسبوقة ــ مناهضِة للاستعمار، وبين ذوي الياقات الزرقاء، ونسوية ــ خلال أعوام الستينات والسبعينات، أن أصبح التراكم الأولي سيرورةً كوكبية ودائمة فيما يبدو11، بأزمات اقتصادية، وحروب، وعمليات نزع ملكيةٍ ضخمة تظهر الآن في كل أنحاء الكوكب بوصفها الشروط المسبقة لتنظيم الإنتاج والتراكم على نطاق عالمي. وميزة السجالات السياسية التي ذكرتها أن بإمكاننا الآن أن نفهم بصورة أفضل "طبيعة قوى التطويق التي نواجهها"12، والمنطق الذي يقودها، وعواقبها بالنسبة لنا. لأن التفكير في الاقتصاد السياسي العالمي من خلال موشور التراكم الأولي يعني أن نضع أنفسنا مباشرةً في ميدان معركة. 

لكننا كي نفهم تماما التضمينات السياسية لهذا التطور يجب أن نوسِّع مفهوم التراكم الأولي أبعد من وصف ماركس بأكثر من طريقة. يجب أولا أن نُقِرّ بأن تاريخ التراكم البدائي لا يمكن فهمه من منظور ذاتٍ كونية مجرَّدة. فقد تمثّل جانبٌ جوهري من المشروع الرأسمالي في نزع مَفصَلة الجسد الاجتماعي، من خلال فرض أنساقٍ انضباطية مختلفة تُنتج تراكما  ’للاختلافات‘ والتراتبات تؤثر بعمق على كيفية خبرتنا بالعلاقات الرأسمالية. ومن ثم، فإن لدينا تواريخ مختلفة للتراكم الأولي، يقدم كلٌ منها منظورا خاصا للعلاقات الرأسمالية ضروريا لإعادة بناء كلّيتها ونزع النقاب عن الآليات التي حافظت بها الرأسمالية على سلطتها. وهذا يعني أن تاريخ التراكم الأولي في الماضي والحاضر لا يمكن فهمه تماما حتى يُكتب ليس فقط من منظور العمال المأجورين المستقبليين أو الماضين، بل من منظور المُستعبَدين، والمستعمَرين، والشعوب الأصلية الذين تظل أراضيهم هي الهدف الرئيسي للتطويقات، ومن منظور الذوات الاجتماعية العديدة التي لا يمكن استيعاب دورهم في تاريخ المجتمع الرأسمالي ضمن تاريخ المأجورين. 

كانت هذه هي المنهجية التي استخدمتُها في كتاب كاليبان والساحرة لأحلّل التراكم الأولي من منظور تأثيراته على ’النساء‘، و’الجسد‘، وإنتاج قوة العمل، مجادلةً بأن هذه المقاربة تمنحنا فهماً للسيرورات التاريخية التي شكّلت صعود الرأسمالية أوسعَ بكثير مما يتيحه لنا عمل ماركس، حيث تتمحور مناقشة التراكم الأولي على الشروط المسبقة لتشكّل العمل المأجور.13 

كانت سيرورتان بالأخص أشد جوهرية من وجهة نظرٍ تاريخية ومنهجية: (أ) تأسيس عمل إعادة الإنتاج ــ أي عمل إعادة إنتاج الأفراد وقوة العمل ــ باعتباره ’عمل النساء‘ وباعتباره مجالا اجتماعيا منفصلا، يقع ظاهريا خارج مجال العلاقات الاقتصادية، وبوصفه كذلك، يجري التقليل من قيمته من وجهة نظرٍ رأسمالية، وهو تطورٌ متزامن مع فصل الفلاحين عن الأرض وتشكيل سوقٍ للسلع؛ (ب) مأسَسة سيطرة الدولة على جنسانية sexuality النساء وطاقتهن الإنجابية، من خلال تجريم الإجهاض وإدخال نظامٍ للمراقبة والعقاب ينتزعُ حرفيا ملكية أجساد النساء. 

كلا هذين التطورين، اللذين ميّزا توسع العلاقات الرأسمالية في كل فترة تاريخية، كان لهما عواقب اجتماعية حاسمة. فإقصاء العمل الإنجابي من مجالات العلاقات الاقتصادية ونفيِه الخادع إلى مجال ’الخاص‘، ’الشخصي‘، ’خارجا‘ عن التراكم الرأسمالي، و’أنثويا‘، في المقام الأول، جعله لامرئيا كعملٍ وطَبَّع استغلاله14. كما كان قاعدةً لتأسيس تقسيمٍ جنسي جديد للعمل وتنظيمٍ جديد للأسرة، يُخضِع النساءَ للرجال ويُمايز النساء عن الرجال اجتماعيا ونفسيا بدرجة أكبر. وفي نفس الوقت، كان تملُّك الدولة لأجساد النساء وطاقتهن الإنجابية بداية تنظيمها للـ’موارد البشرية‘، تدخّلها ’البيو-سياسي‘ الأول، بالمعني الذي وضعه فوكوه للكلمة15، وإسهامها في تراكم رأس المال بقدر ما يعني هذا جوهريا مضاعفة البروليتاريا.16 

وكما أوضحت، كانت أساسيةً في هذه السيرورة عملياتُ اصطياد الساحرات التي جرت في العديد من البلدان في أوروبا وأقاليم الإنديز خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، مما أدى إلى إعدام مئات الآلاف من النساء. وما كان لأيٍ من التغيرات التاريخية في تنظيم عمل الإنجاب التي رسمتُ خطوطها العامة أن تكون ممكنةً أو لتكون ممكنةً اليوم بدون هجومٍ واسع على السلطة الاجتماعية للنساء، مثلما لم يكن للتطور الرأسمالي أن ينجح بدون تجارة العبيد، أو غزو الأمريكتين بدون هجوم إمبريالي لا يلين مستمر حتى يومنا هذا وإنشاء شبكة من التراتبات العرقية التي قسّمت البروليتاريا العالمية فعليا. 

التراكم الأولي وإعادة هيكلة إعادة الإنتاج الاجتماعي في الاقتصاد الكوكبي 

انطلاقا من هذه الافتراضات وهذا الإطار النظري، أُحلّلُ ’العولمة‘، في هذا المقال، باعتبارها سيرورةً للتراكم الأولي، مفروضةً هذه المرة على نطاق كوكبي. هذه النظرة تتعارض بلا شك مع النظرية النيوليبرالية التي تحتفي بتوسّع العلاقات الرأسمالية باعتباره دليلا على ’مقرطة‘ الحياة الاجتماعية. لكنها تتعارض أيضا مع نظرة الماركسيين المستقلين ذاتيا لإعادة هيكلة الاقتصاد الكوكبي، التي، بتركيزها على الكومبيوتر والثورة المعلوماتية وصعود الرأسمالية الإدراكية، تصف هذه المرحلة من التطور الرأسمالي بوصفها خطوة باتجاه أتمتة العمل17. وأنا أقترح، بدلا من ذلك، أن دعامة إعادة الهيكلة هذه كانت هجوما مُنسّقا على وسائل إعادة إنتاجنا الأشد أساسية، الأرض، والمنزل، والأجر، بهدف توسيع قوة العمل الكوكبية وخفض كلفة العمل بصورة هائلة18. وتطلّب الأمر سياساتٍ مختلفة لتفعيل هجوم التراكم الجديد: التكيف الهيكلي، وتفكيك دولة الرفاه، وإضفاء الصبغة المالية على إعادة الإنتاج، مما أدي إلى أزمة الدين والرهن، وإلى الحرب. لكن استتبع ذلك في كل حالة تدمير ’ثروتنا المشتركة‘، ولم يختلف الأمر مع تضاعف مهندسيه عبر السنوات مع وصول الصين وغيرها من القوى الرأسمالية الصاعدة، التي تنضم إلى البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، والحكومات التي تدعم هذه المؤسسات كمنافسين في المهرجان. فوراء المظاهر والخصوصيات القومية، ثمة منطقٌ واحد فقط يقود الأشكال الجديدة من التراكم الأولي: هو تشكيل قوة عمل مختزلَة إلى العمل المجرّد، قوة عملٍ خالصة، بلا ضمانات، ولا حمايات، مستعدةٍ لنقلها من مكان إلى مكان ومن وظيفة إلى أخرى، يجري استخدامها غالبا من خلال عقودٍ قصيرة الأجل وبأدنى أجر ممكن. 

ما هو المعنى السياسي لهذا التطور؟ حتى لو قبلنا أن التراكم الأولي هو جزء مُتوطِّن من الحياة والعمل في الرأسمالية (كما أصرّ ماسّيمو دى أنجليس Massimo De Angelis، بين آخرين)19، كيف يمكننا تعليل حقيقة أنه بعد خمسمائة عام من الاستغلال الذي لا يرحم للعمال عبر الكوكب، ما زالت الطبقة الرأسمالية في تجسّداتها المختلفة بحاجة إلى إفقار حشود الناس في كل أنحاء العالم؟ 

ما من إجابةٍ بديهية على هذا السؤال. لكننا لو وضعنا في الاعتبار كيف تُغيّر ’العولمة‘ تنظيم إعادة الإنتاج الاجتماعي لأمكننا التوصل إلى بعض الاستنتاجات الأولية. لأمكننا أن نرى أن الرأسمالية لا يمكنها سوى تقديم جيوبٍ من الرفاهية لأعدادٍ محدودة من العمال لفتراتٍ محدودة من الزمن، وهي مستعدةٌ لتدميرهم (كما فعلت خلال العقود الماضية من خلال سيرورة العولمة) فور أن تتخطّى احتياجاتُهم ورغباتهم الحدودَ التي يفرضها السعي إلى الربحية. لأمكننا أن نرى، بالأخص، أن الرفاهية المحدودة التي استطاع تحقيقها العمال المأجورون في البلدان الصناعية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن مقصودا لها أن تُعمَّم أبدا. ومع انتشار التمرّد من المزارع الاستعمارية في إفريقيا وآسيا إلى الجيتوهات، والمصانع، والمدارس، والمطابخ، وحتى جبهة الحرب، ليُدمّر كلا من التبادل الفوردي بين الأجور الأعلى والإنتاجية الأعلى، واستخدام المستعمرات (الخارجية والداخلية) كمستودعاتٍ للعمل الرخيص وغير المدفوع، لجأت الطبقة الرأسمالية إلى الاستراتيجية التي طالما استخدمتها لمواجهة أزماتها: العنف، ونزع الملكية، وتوسيع سوق العمالة العالمية. 

سنحتاج إلى شخصٍ مثل ماركس ليصف القوى الاجتماعية المدمِّرة التي تم استنفارها لهذه المهمة. فلم يحدث أبدا أن هوجم كل هذا العدد من الناس وعلى كل هذه الجبهات في وقت واحد. ولابد أن نعود إلى تجارة العبيد لنجد أشكالا من الاستغلال في وحشية تلك التي ولّدتها العولمة في العديد من أجزاء العالم. فالعبودية لا تعاود الظهور في أشكال عديدةٍ فحسب، بل إن المجاعات قد عادت، وانبثقت أشكالُ استغلالٍ تلتهم لحم البشر لم يكن يمكن تصوّرها في الستينات والسبعينات، تشمل تجارة الأعضاء البشرية. وفي بعض البلدان، جرى إحياء حتى بيع الشَّعر، بما يذكرنا بروايات القرن التاسع عشر. وبصورةٍ أعمّ، في أكثر من ثمانين بلدٍ متأثرة بذلك، كانت العولمة حكايةً لأمراضٍ لا تُعالج، وأطفالٍ سيئي التغذية، وحيواتٍ ضائعة، ويأس. وقد بلغ الإفقار في الكثير من بلدان العالم حجما لم يُشاهَد من قبل قط، يصيب اليوم ما يقارب 70 بالمائة من السكان. وفي إفريقيا جنوب الصحراء وحدها بلغ عدد من يعيشون في فقر وجوع مزمن وسوء تغذية 239 مليونا عام 202010، بينما جرى ببشاعةٍ عبر القارة استنزافُ كمياتٍ هائلة من الأموال إلى بنوك لندن، وباريس، ونيويورك. 

ومثلما في المرحلة الأولى من تطور الرأسمالية، كان أكثر من تأثّروا مباشرةً بتلك السياسات من النساء، وبالأخص النساء ذوات الدخل المنخفض والنساء الملونات اللائي تفتقرن اليوم في المجتمعات المحلية عبر العالم إلى وسائل إعادة إنتاج أنفسهن وعائلاتهن أو لا تستطعن ذلك إلاّ ببيع قوة عملهن في سوق العمل الدولية وتُعِدن إنتاج عائلات أخرى وأطفال آخرين غير أطفالهن في شروطٍ تفصلهن عن مجتمعاتهن المحلية وتجعل عملهن في إعادة الإنتاج أشد تجريدا وخضوعا لأشكالٍ متعددة من التقييد والمراقبة. وكبديلٍ لذلك، تتنازل الكثيرات عن أطفالهن للتبنّي، وتعملن كأمهاتٍ بديلات، أو (في تطورٍ أحدث) تبِعن بويضاتهن للمعامل الطبية من أجل أبحاث الخلايا الجذعية. كذلك تُنجِبن أطفالا أقل، حيث أن الحاجة لضمان بعض الدخل لها تأثير تعقيمي. لكن قدرتهن على التحكّم في إعادة إنتاجهن الخاصة تتعرّض للهجوم في كل مكان. وللمفارقة ــ ونحن نوجِز من جديد ذاتِ الشروط التي شكّلت دخولَ النساء في المجتمع الرأسمالي وحفزت قرنين من اصطياد الساحرات ــ فإن نفس الطبقة السياسية التي تجعل من المستحيل تقريبا على النساء إعالة أنفسهن وعائلاتهن تجرِّمهن لمحاولتهن الحصول على إجهاض. وفي الولايات المتحدة فإن مجرد كون المرأة حاملا يضع النساء الفقيرات، وخصوصا النساء الزنجيات، تحت خطر الاعتقال الدائم21

كذلك فإن النساء مُستهدَفات بسبب نشاطات الكفاف التي تقُمن بها، خصوصا انخراطهن ــ في إفريقيا، في المقام الأول ــ في زراعة الكفاف، التي تقف في طريق محاولة البنك الدولي لخلق أسواقٍ للأرض ووضعِ كل الموارد الطبيعية في أيدي المشروعات التجارية. وكما كتبتُ في موضعٍ آخر22، تبنّى البنك الدولي عقيدة أن النقود وحدها مُنتجة، بينما الأرضُ مجدبةٌ وسببٌ للفقر إذا استخدمت ’فقط‘ في الكفاف. هكذا، فإن البنك لم يقم فحسب بحملةٍ ضد زراعة الكفاف، من خلال إصلاح قانون الأرض، والتمليك titling الفردي، وإلغاء حيازة الأرض المعتادة، بل إنه كذلك لم يدخر جهدا لوضع النساء تحت سيطرة العلاقات النقدية. مثلا، من خلال ترويج التمويل المتناهي الصغر، وهي سياسة حوّلت الملايين بالفعل إلى خدمٍ مؤقتين indentured للبنوك وللمنظمات غير الحكومية التي تُدير القروض23. وبهذه الطريقة، وبعد سنوات من ترويج تحديد النسل من خلال المبيعات الضخمة لموانع الحمل، يحصل البنك الآن على نفس النتيجة بمنع النساء من تدبير وسيلة عيشٍ بزراعة الكفاف، التي (على نقيض مزاعمه) تُعدّ بالنسبة للملايين بمثابة الفرق بين الحياة والموت24. ومن المهم أن نضيف أن العنف المؤسسي ضد النساء والتقليل من قيمة النشاطات التي بُنيت حولها حيواتهن تقابلهما زيادةٌ موثقة في العنف ضدهن من جانب الرجال في مجتمعاتهن المحلية. لأن الكثيرين، في مواجهة تضاؤل الأجور وتضاؤل الوصول إلى الأرض يرون في عمل النساء وأجسادهن، وحيوات النساء وجهودهن في حالات كثيرة، جِسرَهم إلى السوق الدولية، مثلما في حالة التهريب وجرائم القتل من أجل المهر. كذلك عاد اصطياد الساحرات مع العولمة، وفي الكثير من أقاليم العالم ــ إفريقيا والهند، بوجه خاص ــ يقوم به الرجال الشباب، العاطلون الذين يتوقون إلى الاستيلاء على أرض النساء اللائي يتهموهن بأنهن ساحرات25

يمكن مضاعفةُ الأمثلة على الطرق التي توجِز بها سيرورةُ العولمة أشكالاً أقدم من التراكم الأولي. إلا أن اهتمامي المباشر ليس أن أصف الأشكال النوعية التي اتخذتها عودة التراكم الأولي هذه بل فهم ما تكشفُه عن طبيعة النظام الرأسمالي وما يطرحه للمستقبل. 

اليقين الأول الذي تقدمه هذه المقاربة هي أن التراكم الرأسمالي يظل هو تراكم العمل، وبوصفه كذلك ما زال يتطلب إنتاج البؤس والندرة على نطاق عالمي. مازال يتطلب امتهان الحياة البشرية وإعادة بناء تراتبيات اجتماعية وتقسيمات على أساس الجندر [الجنوسة، نوع الجنسين]، والجنس، والعمر. والأهم، أن هذه ’الخطايا الأصلية‘، باستمرارها بعد خمسمائة عام من التطور الرأسمالي، تُثبت أنها جوانبُ بنيوية للنظام الرأسمالي، تستبعد أية إمكانيةٍ للإصلاح. والحقيقة، أن البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي أقامها رأس المال الدولي ليهزم حركاتِ تحرّر الستينات والسبعينات تضمن في حد ذاتها أن التجريدَ من الملكية (من الأراضي ومن كل الحقوق المكتسبة)، وتقلقُلَ الحصول على دخلٍ نقدي ووظيفة، والحياة تحت علامة عدم اليقين وعدم الأمن، وتعمّق التراتبات العرقية والجنسية سوف تكون شروطَ الإنتاج لأجيالٍ قادمة. فمن البديهي، مثلا، أنه بتدمير الاكتفاء-الذاتي لكل إقليم وخلق تبعيةٍ اقتصادية كلّية متبادلة، حتى بين بلدانٍ متباعدة، تُولِّد العولمة لا أزماتٍ غذائية متواترة فحسب، بل حاجةً إلى استغلالٍ لامحدود للعمل وللبيئة الطبيعية. 

ومثلما في الماضي، فإن أساس هذه السيرورة هو تطويق الأرض. وهذا يبلغ حاليا من الاتساع حدّ أنه حتى مساحات الحياة الزراعية التي ظلت لا تُمس في الماضي، لتُمكِّن المجتمعات المحلية الفلاحية من إعادة إنتاج نفسها، تمت خصخصتها الآن، واستولت عليها الحكومات والشركات من أجل استخراج المعادن وغيره من المخططات التجارية. وبينما تنتصر ’نزعة الاستخراج‘26 في أقاليم كثيرة، ويفاقمها انتزاع الأراضي من أجل الوقود الحيوي، تم القضاء قانونيا على ملكية المجتمعات المحلية للأرض، ويبلغ من اتساع نزع الملكية حدّ أننا نقترب بسرعة من المرحلة التي وصفها ماركس حيث "يطلب قسمٌ من السكان هنا جزيةً من القسم الآخر مقابل الحق في العيش على الأرض ذاته بينما تتضمن ملكية الأرض عموما حق المالكين في استغلال سطح الأرض، وأحشاء الأرض، والهواء ومن ثم الحفاظ على الحياة وتطويرها"27.  

وفي إفريقيا، على وجه الخصوص، يبيّن الحساب أنه إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فسيحيا 50 بالمائة من سكان القارة خارجها بحلول منتصف القرن. إلا أن ذلك قد لا يكون وضعا استثنائيا. ففي كل مكان، وبسبب الإقفار والتشريد اللذين أنتجتهما العولمة، أصبحت صورة العامل هي صورة المهاجر، المتجول28، اللاجئ. وتُسارِع من هذه العملية السرعةُ التي يمكن لرأس المال السفر بها، ليدمر في أعقابه الاقتصادات والنضالات المحلية، والهجوم الذي لا يلين لاعتصار كل قطرةٍ من البترول وكل معدن تحفظه الأرض في أحشائها. 

ليس مدهشا، إذن، في هذه الظروف أن يتناقص معدل العمر المتوقع للطبقة العاملة حتى في ’البلدان الغنية‘ مثل ألمانيا والولايات المتحدة، حيث من المتوقع أن يعيش ’الفقراء‘ عدة سنواتٍ أقلَ من آبائهم لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية29. وفي نفس الوقت، تقترب بعض بلدان ’العالم الثالث‘ من وضعٍ مماثل لذلك الذي ساد بين القرن السادس عشر والثامن عشر، وضعِ طبقةٍ عاملة قادرة بالكاد على إعادة إنتاج ذاتها. وفي الحقيقة، يتحقق الآن إمبيريقيا جدال ماركس في البيان الشيوعي بأن التطور الرأسمالي يُنتج الإفقارَ المطلق للطبقة العاملة. تشهد على ذلك الهجرة الدائمة من ’الجنوب‘ إلى ’الشمال‘ منذ أواخر الثمانينات، ودافعها الأكبر هو الاحتياج الاقتصادي والحروب العديدة التي تولّدها شهوةُ الشركات الكبرى للموارد المعدنية. يقال لنا أنه ما من علاجٍ لهذا الانتشار للبؤس. إن الطبقة الرأسمالية، المتأكّدة عن يقين بفضل ترساناتها العسكرية أن 99%، شئنا أم أبينا، ليس لهم بديلٌ عن الحياة في ظل الرأسمالية، والواثقةُ من أن سيطرتها الكوكبية ستقدّم أسواقا ضخمة وإمدادات وفيرة من العمالة، لا تتظاهر الآن كثيرا بالتقدم، معلنةً أن الأزمات والكوارث هي جوانبُ حتمية من الحياة الاقتصادية، بينما تندفع لإزاحة الضمانات التي حقّقها أكثر من قرن من نضالات العمال. 

لكنني سأجادل بأن هذه الثقة مُضلِّلة. ودون أن أتورط في أي تفاؤل، سيكون غيرَ مسئولٍ بالنظر إلى الخراب التي ينفتح أمام أعيننا، سأؤكد أن وعياً يتشكّل في كل أنحاء العالم ــ يُترجَم أكثر فأكثر إلى فعل ــ بأن الرأسمالية ’غيرُ قابلةٍ للبقاء‘ وأن خلق نظامٍ اقتصادي إجتماعي مختلف هو المهمة الأشد إلحاحا لأغلب سكان العالم. فأي نظامٍ غير قادرٍ على إعادة إنتاج قوة العمل فيه وليس لديه ما يُقدمه لها بخلاف المزيد من الأزمات محكومٌ عليه بالفناء. إذا كانت الرأسمالية، بعد استغلال كل جزءٍ من الكوكب لقرونٍ لا يمكنها تقديم حتى أدنى شروط إعادة الإنتاج للجميع ولابد أن تواصلَ إغراق الملايين في ظروف عيش بائسة، فإن هذا النظام قد أفلس ويجب استبداله. وفضلا عن ذلك، لا يمكن لأي نظامٍ سياسي الإبقاء على ذاته على المدى البعيد بالقوة الخالصة. إلا أن القوة هي كل ما في متناول النظام الرأسمالي ولا يمكنه الآن أن ينتصر إلا بسبب العنف الذي يحشده ضد معارضيه. 


هوامش: 

1 Midnight Notes Collective, The New Enclosures, Midnight Notes no. 10 (1990). 

2 David Harvey, The New Imperialism (Oxford: Oxford University Press, 2003). 

3 See The Commoner no. 2 (September 2001), accessed June 2, 2018, http://www.commoner.org.uk/?p=5

4 Alice Creischer, Max Jorge Hinderer, and Andreas Siekmann, ed., The Potosí Principle: Colonial Image Production in the Global Economy (Cologne: Verlag der Buchhandlung Walther König, 2010). 

5 See Mariarosa Dalla Costa, “Capitalism and Reproduction,” in Open Marxism, Vol. 3: Emancipating Marx, ed. Werner Bonefeld, John Holloway, and Kosmas Psychopedis (London: Pluto Press, 1995), 7–16; Maria Mies, Patriarchy and Accumulation on a World Scale (London: Zed Books, 1986); Claudia von Werlhof, “Globalization and the ‘Permanent’ Process of ‘Primitive Accumulation’: The Example of the MAI, the Multilateral Agreement on Investment,” Journal of World-Systems Research 6, no. 3 (2000): 731, accessed June 11, 2018, http://jwsr. pitt.edu/ojs/index.php/jwsr/article/view/199/211. 

6 von Werlhof, “Globalization and the ‘Permanent’ Process of ‘Primitive Accumulation,” 142. 

7 Maurizio Lazzarato, The Making of the Indebted Man: An Essay on the Neoliberal Condition, Semiotext(e) Intervention Series no. 13 (Cambridge, MA: MIT Press, 2012), 44. 

8 Karl Marx, Capital: A Critique of Political Economy, Vol. 1, ed. Frederick Engels, trans. Ben Fowkes (London: Penguin, 1990, 876. 

9 Marx, Capital, Vol. 1, 899. 

10 I am quoting von Werlhof, “Globalization and the ‘Permanent’ Process of ‘Primitive Accumulation,’” 733. 

11 See von Werlhof, “Globalization and the ‘Permanent’ Process,” 728–47. 

12 Massimo De Angelis, The Beginning of History: Value Struggles and Global Capitalism (London: Pluto Press, 2007), 134. 

13 Federici, Caliban and the Witch: Women, the Body and Primitive Accumulation (Brooklyn: Autonomedia, 2004). 

14 See Caliban and the Witch, especially Chapter 2; Leopoldina Fortunati, The Arcane of Reproduction: Housework, Prostitution, Labor and Capital, ed. Jim Fleming, trans. Hillary Creek (Brooklyn: Autonomedia, 1995). 

15. استخدم فوكوه مفهوم ’البيوسياسة‘ ليصف شكلا جديدا من السلطة نشأ في أوروبا في القرن الثامن عشر وجرت ممارسته من خلال تنظيم عمليات الحياة، مثل الصحة، والمرض، والإنجاب. 

16 Marx, Capital, Vol.1, 764. 

17. أشير هنا إلى القضية التي طورها هارت ونيجري في العديد من أعمالهما، من الإمبراطورية إلى الكومنولث 

 Empire (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2000) to 

Commonwealth (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2009) 

أنه في المرحلة الحالية من التطور الرأسمالي، المفترض أن تتميز بالميل إلى سيادة العمل اللامادي، ينسحب الرأسماليون من تنظيم سيرورة العمل، بحيث يحقق العمال درجة أعلى من الاستقلال الذاتي والسيطرة على شروط عملهم. هذه النظرية تتبع ماركس في التشديد على الطابع التقدمي للتطور الرأسمالي، المنظور إليه على أنه تفعيل (قسري) للأهداف التي تعبر عنها نضالات العمال، والتي لابد للرأسمالية، ضد مصلحتها الخاصة، أن تدخلها لإعادة تنشيط عملية التراكم. لنقد هذه النظرية وبالأخص لمفهوم الرأسمالية الإدراكية، راجع جورج كافنتزيس وسيلفيا فيديريتشي, George Caffentzis and Silvia 

Federici, “Notes on Edu-factory and Cognitive Capitalism,” in Toward a Global Autonomous University: Cognitive Labor, the Production of Knowledge, and Exodus from the Education Factory, eds. the Edu-factory Collective (Brooklyn: Autonomedia, 2009), 119–24; Federici, “On Affective Labor,” in Cognitive Capitalism, Education and Digital Labor, eds. Michael A. Peters and Ergin Bulut (New York: Peter Lang, 2011), 57–74. 

18 Federici, “The Reproduction of Labor-Power in the Global Economy,” in Revolution at Point Zero: Housework, Reproduction, and Feminist Struggle (Oakland: PM Press, 2012). 

19 De Angelis, The Beginning of History, 136–41. 

20. طبقا لإحصائيات نشرتها الفاو (منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة)، التي تحسب أيضا أن نحو مليار شخص يعانون اليوم من الفقر والجوع عبر العالم: 

 “Africa Hunger Facts,” Hunger Notes, accessed June 2, 2018, https://www.worldhunger.org/africa-hunger-poverty-facts/

21 See Lynn M. Paltrow and Jeanne Flavin, “Arrests of and Forced Interventions on Pregnant Women in the United States, 1973–2005: Implications for Women’s Legal Status and Public Health,” Journal of Health Politics, Policy and Law 38, no. 2 (April 2013); Lynn M. Paltrow and Jeanne Flavin, “New Study Shows Anti-Choice Policies Leading to Widespread Arrests of and Forced Interventions on Pregnant Women,” Rewire News, January 14, 2013, accessed June 2, 2018, https://rewire.news/article/2013/01/14/new-study-revealsimpact- 

post-roe-v-wade-anti-abortion-measures-on-women/. 

22 Federici, “Witch-Hunting, Globalization and Feminist Solidarity in Africa Today,” Journal of International Women’s Studies 10, no.  (2008): 21–35 reprinted in Federici, Witches, Witch-Hunting, and Women (Oakland: PM Press, 2018), 60–86. 

23 See Lamia Karim, Microfinance and Its Discontents: Women in Debt in Bangladesh (Minneapolis: University of Minnesota Press, 2011). 

24 Sharon Hostetler et al., ‘Extractivism’: A Heavy Price to Pay (Washington, DC: Witness for Peace, 1995), 3. 

25 Hostetler et al., ‘Extractivism,3. 

26. الاستخراجية هي السياسة التي بواسطتها تمول الحكومات برامجها الاقتصادية والسياسية عن طريق تصدير موارد البلاد المعدنية، وهي ممارسة، طبقا للنقاد، تنتج الفقر وعملية استعمار داخلي. يستخدم هذا المصطلح خصوصا المنظرون الاجتماعيون في أمريكا اللاتينية (مثلا ألبرتو أكوستا، ولويس تابيا، وراؤول زيبيتشي، وماريستيلا سفامبا) لوصف ونقد السياسات الاقتصادية للحكومات التقدمية المفترضة في بوليفيا، والإكوادور، والبرازيل. 

27 Karl Marx, Capital, A Critique of Political Economy, Vol. 3, ed. Frederick Engels, trans. Ben Fowkes (London: Penguin, 1993), 908–9. 

28 This is the term Randy Martin used to describe this process, in Financialization of Daily Life (Philadelphia: Temple University Press, 2002). 

29. كما ينقل ماوريزيو لاتزاراتو، في ألمانيا انخفض متوسط العمر المتوقع لذوي الدخل المنخفض من 77.5 عام في 2001 إلى 75.6 عام 2011، بينما انخفض في ألمانيا الشرقية من 77.9 إلى 74.1.  ويعلق لاتزاراتو أنه بهذا المعدل، ومع عشرين عاما أخرى من الاقتطاعات و"الجهود ’لإنقاذ‘ التأمين الاجتماعي" سيتطابق سن الاستيداع أخيرا مع سن الموت The Making of the Indebted Man, 177:.  

وفي الولايات المتحدة، أيضا، يحيا ’الفقراء‘ حيوات أقصر. وطبقا لعدد أغسطس من Journal of Health Affairs, ، من 1990 إلى 2008 حدث انخفاض فعلي في العمر المتوقع بين الزنوج والنساء والرجال البيض الذين لم يكملوا دراستهم الثانوية. وجدت الدراسة أن الرجال البيض الذين درسوا 16 عاما أو أكثر يعيشون 14 عاما أكثر من الرجال السود بأقل من 12 عاما من الدراسة، والفروق تتسع. وعام 1990، كان الأكثر تعليما من الرجال والنساء يعيشون 13.4 و7.7 أعوام أطول، على الترتيب،  من الأقل تعليما.الأمر الصادم في هذه الدراسة هو السرعة التي اتسعت بها هذه الفجوة. فمثلا، "عام 1990 كانت الفجوة في العمر المتوقع بين النساء البيض الأفضل والأسوأ تعليما 1.9 عاما؛ والآن تبلغ 10.4 أعوام. Deirdre Griswold, “Racism, Schooling Gap Cuts Years from Life,” Workers World, September 27, 2012, accessed June 2, 2018, https://www.workers.org/2012/09/27/racism-schooling-gap-cut-years-from-life/. 

وحول الانخفاض في العمر المتوقع بين البيض في الولايات المتحدة، راجع Linda Tavernese, New York Times, September 20, 2012 

تكتب تافرنيزي أن العمر المتوقع بين البيض الأقل تعليما قد انخفض أربعة أعوام بين عامي 1990 و2012. وقد تسارع انخفاض العمر المتوقع في الولايات المتحدة أيضا بسبب وباء تعاطي الأفيون. 

See Olga Kazan, “A Shocking Decline in American Life Expectancy,” Atlantic, December 21, 2017, accessed June 21, 2018, https://www.theatlantic.com/health/archive/2017/12/life-expectancy/548981/.