أحد أنجح التكتيكات التي استخدمتها الطبقة الحاكمة لفترة من الزمن وحتى الآن هي تحميلنا بالمسؤولية

مارك فيشر: لا يصلح لشيء

ترجمة حسين الحاج وأحمد بكر وأحمد منجي

سبق نشره في موقع مدى مصر بتاريخ 12 يونيو 2020


لقد عانيت من الاكتئاب لفترات متقطعة منذ أن كنت مراهقًا. أنهكتني بعض نوبات هذا الاكتئاب بشدة، لتقودني إلى إيذاء النفس والانسحاب، حيث كنت أقضي شهورًا طويلة في غرفتي، وأغامر بالخروج فقط لأسجل حالة بطالتي أو لأشتري الحد الأدنى من الطعام لأتناوله، ولأوقات أمضيتها في المصحات النفسية. لا أدعي أني قد تعافيت من هذه الحالة، لكن يسعدني القول إن مدى تكرار نوبات الاكتئاب ومدى حدتها قد انخفض كليهما بشكلٍ كبير في السنوات الأخيرة. كان ذلك، جزئيًا، نتيجة لتغيرات في وضع معيشتي، لكن الأمر يتعلق أيضًا بأني قد توصلت إلى فهم مختلف لاكتئابي وأسبابه. أعرض تجاربي الشخصية مع التعب النفسي، ليس لأني أعتقد بأن هناك أي شيء خاص أو فريد بشأنها، لكن لأدعم الفرضية التي تقول إنه يمكن فهم -ومقاومة- الكثير من أشكال الاكتئاب بشكل أفضل من خلال أطر سياسية ولا شخصية بدلًا عن الأطر الفردية و«النفسية».

أن يكتب المرء عن اكتئابه أمرٌ صعب. يتألف الاكتئاب بدرجة ما من صوت ساخر «داخلي» يتهمك بالانغماس في ذاتك -أنت لست مكتئبًا، أنت تشعر فقط بالأسف على نفسك، وعليك أن تتماسك- ويمكن للحديث عن حالة الاكتئاب علانية أن يحفز هذا الصوت. بالطبع، ذلك الصوت ليس صوتًا «داخليًا» على الإطلاق، بل إنه التعبير المستبطن لقوى اجتماعية حقيقية، وبعضها لديه مصلحة راسخة في إنكار أي صلة بين الاكتئاب والسياسة.

دائما ما كان اكتئابي مرتبطًا باعتقادي أنني حرفيًا بلا فائدة. لقد قضيت معظم حياتي حتى سن الثلاثين معتقدًا أنني لن أجد عملًا أبدًا. انجرفت في العشرينيات من عمري بين الدراسات العليا وفترات من البطالة والوظائف المؤقتة. لم أشعر بانتماء حقيقي في أي من هذه الأدوار؛ في الدراسات العليا، لأني هاوٍ قد شق طريقه بالخداع ولست باحثًا حقيقيًا، وفي البطالة، لأنني لم أكن عاطلاً حقًا، مثل أولئك الذين يبحثون عن عمل بأمانة، بل متهرب من العمل، وفي الوظائف المؤقتة، لأني رأيتني عاملًا غير كفء ورأيت أني لا أنتمي على أي حال إلى وظائف المكاتب أو المصانع تلك. ليس لأني أكثر كفاءة من هذه الوظائف، بل -على العكس- لأني متعلم بشكل زائد وعديم الفائدة، وقد سرقت وظيفة شخص آخر يحتاجها ويستحقها أكثر مني. حتى عندما كنت في المصحة النفسية، شعرت أنني لم أكن مكتئبًا، بل فقط أدعي الاكتئاب حتى أتجنب العمل، أو -بحسب المنطق الجحيمي المتناقض للاكتئاب- كنت أحاكيه لأخفي حقيقة أنني لم أكن قادرًا على العمل، وأنه لا مكان لي على الإطلاق في المجتمع.

عندما حصلت أخيرًا على وظيفة محاضر في كلية التعليم العالي، كنت لفترة مسرورًا، لكن سروري بهذه الوظيفة أظهر أنني لم أتخلص من الشعور بانعدام قيمتي الذي أدى بي إلى فترات أطول من الاكتئاب، وافتقدت الثقة الهادئة لشخص مقدر لهذا الدور. ظللت أنكر بقدر لا يمكن إخفاءه تمامًا أنني قادرٌ على وظيفة كالتدريس، لكن من أين أتى هذا اﻹنكار؟ تضع المدرسة الفكرية المهيمنة في الطب النفسي جذور هذه «المعتقدات» في اختلالات كيمياء المخ التي يمكن أن تصححها اﻷدوية والتحليل النفسي وأشكال العلاج النفسي المتأثرة به، حيث تبحث في جذور الاضطراب العقلي في الخلفية اﻷسرية، بينما يهتم العلاج السلوكي المعرفي باستبدال المعتقدات السلبية بمجموعة من القصص اﻹيجابية ببساطة أكثر من تحديد مصدرها. واﻷمر أن ليست تلك الطرق خاطئة كلية، بل أنها يفوتها -ويجب أن يفوتها- العلة اﻷكثر ترجيحًا في وجود مشاعر الدونية تلك: السلطة الاجتماعية. إن أكثر أشكال السلطة الاجتماعية تأثيرًا عليَّ كان السلطة الطبقية، رغم أن العرق والنوع الاجتماعي واﻷشكال اﻷخرى للقهر تعمل بالطبع عن طريق إنتاج نفس الشعور بالدونية اﻷنطولوجية، التي يمكن اختبارها بوضوح في الفكرة التي ذكرتها مسبقًا: أنني لست من الذين يستطيعون تنفيذ مهمات مخصصة للمجموعة المهيمنة.

أثناء نقاشاتي مع أحد قراء كتابي «الواقعية الرأسمالية»، بدأت في البحث في أعمال ديفيد سمايل. سمايل طبيب نفسي، لكنه يضع مسألة السلطة في القلب من ممارسته الطبية، ويؤكد فرضيتي بخصوص اﻹكتئاب التي تعثرت في وصفها. يصف سمايل في كتابه المهم «جذور التعاسة» كيف أن آثار الطبقية مصممة بحيث ألا يمكن محوها، فبالنسبة إلى من يتعلمون التفكير في أنفسهم بدونية منذ الطفولة، نادرًا ما تكفي حيازة الثروة أو التقديرات في محو الشعور اﻷصلي بانعدام القيمة الذي يصيبهم مبكرًا في الحياة إما من عقلهم أو عقل اﻵخرين. يشعر المرء الذين يخرج إلى المساحات الاجتماعية التي «يفترض به» احتلالها بالخطر دائمًا من أن تجتاحه مشاعر الدوار والهلع والرعب، وتصبح: «… منعزلًا، ومنفصلًا، لا شيء يسند ظهرك أو يثبت أقدامك، هناك خيال مدوّخ ومثير للغثيان يستولي عليك، وتصبح مهددًا بفقد تام للهوية والشعور بالاحتيال المطلق، وأنه لا حق لك في التواجد هنا واﻵن، وأنت في جسدك هذا وبطريقتك في اللبس تلك، أنت لا شيء، واللاشيء حرفيًا ما تشعر أنك ستؤول إليه».

أحد أنجح التكتيكات التي استخدمتها الطبقة الحاكمة لفترة من الزمن وحتى الآن هي تحميلنا بالمسؤولية، بحيث يصبح كل فرد من الطبقات الخاضعة لديه شعور داخلي بأن الفقر وقلة الفرص والبطالة أخطاؤهم الفردية وهم وحدهم المسؤولون عنها، فيلقي الأفراد اللوم على أنفسهم بدلًا من توجيهها إلى البنى الاجتماعية التي أقنعتهم الطبقة الحاكمة في كل الأحوال بأنها غير موجودة (فهي مجرد أعذار يلجأ إليها الضعفاء). ما يطلق عليه سمايل «الإرادية السحرية» هو الإيمان بأن كل الأفراد لديهم القدرة لجعل أنفسهم ما يريدون، وتلك هي الأيديولوجيا المسيطرة، والديانة غير الرسمية للمجتمع الرأسمالي المعاصر التي يدفع بها «خبراء» تلفزيون الواقع ورجال الأعمال بقدر ما يغذيها السياسيون. تصبح الإرادية السحرية نتيجة وسببًا للوضع الحالي من انخفاض مستويات الوعى الطبقى بشكل تاريخي، وهي الجانب الآخر من الاكتئاب الذي باطنه أننا جميعًا مسؤولون وحدنا عن تعاستنا، ولذلك فنحن نستحقها. يُفرض على العاطلين عن العمل لمدة طويلة في المملكة المتحدة حاليًا التعامل مع مأزق مزدوج، فتلك المجموعة التي لطالما استقبلت الرسائل بأنها لا تصلح لأي شيء يقال لها في الوقت ذاتها إنها قادرة على فعل أي شيء تريده.

يجب أن نستوعب هذا الاستسلام القدري لإجراءات التقشف الاقتصادي من قبل سكان المملكة المتحدة باعتباره نتيجة لاكتئاب مغروس فينا عمدًا. يتجلى هذا الاكتئاب في التسليم بأن الأشياء ستكون أسوأ (على الجميع ما عدا نخبة قليلة)، وأننا محظوظون إذا وجدنا وظيفة (فلا ينبغي علينا توقع رواتب مواكبة للتضخم)، وأننا غير قادرين على تحمل التكاليف الجماعية لدولة الرفاه. ليس الاكتئاب الجماعي سوى نتيجة لمشروع الطبقة الحاكمة لإعادة الإخضاع. ولبعض الوقت الآن فإننا قد تقبلنا فكرة عدم قدرتنا على الفعل، وهذا ليس فشلًا للإرادة، بقدر ما لا يمكن لفرد مكتئب أن «يخرج نفسه من حالته» فقط من خلال «العمل على تطوير ذاته». إن إعادة بناء الوعي الطبقي مهمة صعبة بالتأكيد، ولا يمكن تحقيقها من خلال الحلول الجاهزة لكنه أمر يُمكن تحقيقه، بالرغم مما يقوله لنا اكتئابنا الجماعي. يمكننا التفكير في أشكال جديدة للانخراط السياسي وإحياء مؤسسات متدهورة وتحويل حالة عدم الرضا الشخصية إلى غضب مسيس: كل ذلك يُمكن أن يحدث وحينما يحدث، من يدري ما سيكون ممكنًا؟