تِركته التي ورثها عن أبيه، كانت هذه الرحلة اليومية التي خلفه فيها.

الموظف المثالي

قصة شيماء ياسر

من المجموعة القصصية "في منتصف الفراغ" عن دار روافد للنشر والتوزيع


صورة Antoine Beauvillain من Unsplash

بمجرد أن يفتح عينيه على ضوء الصباح إثر زن ناموس يصر على امتصاص دمه، يقفز إلى ذهنه السؤال: كيف يعيش المرء مع أخطائه وعذاباته؟! 

رحلته اليومية على خط السكة الحديدية هي رحلة عذابه الأبدية. إنها الضحى وهي الليل إذا سجى، ولكن ما من أحد يملك أن يطمئن قلبه، هل ودَّعه ربه؟ وهل ودَّعته الحياة؟ يلبث ذهابًا وإيابًا حاملًا كل هذه الأرواح على ظهره، ولا يملك دفع الضر عن نفسه، ولا يتبرع أحد بذلك. 

اعتاد أن يلعن لحظات الصباح الأولى التي يصل فيها الضوء إلى عينيه بعد نوم يطول ويقصر، يهدأ ويضطرب. هي اللحظات الأشد شقاءً لأنه يُواجَه فيها بيقظة عقله الذي لا يعرف النوم ولا يعطيه فرصة حتى لأن يقول لنفسه «نم قليلًا، لا يزال الوقت باكرًا على النهوض». لا مجال لأن يحايله أحد، حتى عقله.

لم تكن في حياته لحظات دراما مسرحية يستشهد على عتباتها باكيًا. وكذلك لم تكن فردوسًا ونعيمًا. هي حياة تحمَّل فيها خطأ وجوده الذي فرض نفسه عليها -الحياة- من دون إرادة منه. فليحاكموا إذن وجوده هذا الذي اختار، وليرحموه. 

تِركته التي ورثها عن أبيه، كانت هذه الرحلة اليومية التي خلفه فيها. ابن موظف قديم قِدم السماء في الأرض. ولذا له أحقية شغل وظيفة في المكان، وكانت من نصيبه، هي نفسها الوظيفة التي كانت للأب، سائق للقطار. 

حامل الأرواح، من وإلى، حتى تلك التي لم تُولَد بعد. سيُعاقَب ويُحاسَب عليها، وهي في بطون أمهاتها وأصلاب آبائها.

خُيِّل إليه أنه سيُحاسَب على رشوة أحدهم، الذي ركب القطار ومعه دليل جرمه، وقد أوصله هو ويسَّر له طريق الفرار، وأنه مسؤول عن رد أموال مختلس ركب القطار فحمله في زمرة الهاربين.

نعم، هو أيضًا ملاك الرحمة الذي يوفر ملاذ الهروب والتعافي لكل من يريد أن يغور في بقاع الأرض بعيدًا عن نقطة عذابه. هو فرصة للتائبين.

قديس هو أم مُيسَّر للضلال؟! فليحترقوا جميعًا في نار السماء. المهم هو؛ لا يريد أن يُقدَّس ولا أن يُرجَم، فلماذا يُحمِّلونه مشقة تلك الأبدية من أقصاها إلى أدناها؟ من وإلى، بلا توقف.

يظن الغافلون أن له في كل بلدة يمر بها خليلة تنتظره. صدقوا، هناك من ينتظره بالفعل، لكنها الجنيَّة، التي تمسك بالسوط وتجبره أن يكمل الرحلة دون توقف. شعرها أخضر وجسمها أحمر، وصدرها بحران من خمر ونار، وهو لا يشرب الخمر ولا يقوى على النار. يحاول أن يقنعها أنه مضطر للتوقف، ليلتقط القطار أنفاسه وليلفظ أخرى. لا تسمعه، تريد أن تأمره فيأتمر. 

كان عاقبة ذلك أن يسمع لها، فعُرِف بين أقرانه ورؤسائه بالانضباط، وحصل على مكافأة ولقب الموظف المثالي. لا يعرفون، إنما يحركه السوط فحسب لاستمرار رحلته الأبدية. قبلته الطريق، وليحمل مَن خلفه وليقُد كلًّا إلى وجهته، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر.