إذا مت يا أم الحنكيل فانكحي ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا
فإن الذي حدثته من لقائنا أحاديث طسم تترك العقل واهيا
جينالوجيا الزندقة
مقال بهاء سمير
"يا أمير المؤمنين، إن هذا الأعمى الملحد الزنديق قد هجاك بما لا ينطق به لساني، ولا يتوهمه فكري". فألح عليه الخليفة ليخبره الهجاء، ولكن ابن داود أصر على تشويق الخليفة فقال، "والله لو خيرتني بين إنشادي إياه وضرب عنقي، لاخترت ضرب عنقي". ظل الخليفة يلح عليه حتى توصلا إلى حل وسط: أن يكتب له ما قاله الشاعر على ورقة. ففعل، فكاد الخليفة ينشق غيظًا، فذهب إلى البصرة للنظر في أمرها. فسمع أذانًا في ضحى النهار، فسأل عن ذلك، فإذا بالشاعر الذي هجاه في سكرته، فقال له، "يا زنديق أتلهو بالأذان في غير وقت الصلاة وأنت سكران"، ثم أمر بضربه سبعين سوطًا. وعلى إثرها قُتل بشار بن برد. بتهمة ظاهرة وهي "الزندقة" وحقيقتها هي وشاية ابن داود وتعظيمه من أمر هجاء الخليفة الذي منع العطايا عنه "خليفة.. يلعب بالدبوق والصولجان". وكان اسم أحمد بن أبي داود مرتبطًا بمحاكم التفتيش التي أقيمت في محنة خلق القرآن، أو بالأحرى المستغلة لتلك المسألة لتمرير تصفيات الخارجين على السلطة أو المعتزلة.
قبل تلك الحادثة، وفي عام 724م، خشي الخليفة والقائد السفاح على ابنه في الكوفة، حين وصله خبر شاعر جهمي ينشر أفكارًا يدعي أنها لتعظيم الله وتنزيهه، فنفى عنه الصفات وحديث موسى وقال بخلق القرآن، فعين في الكوفة ولي عليها هو خالد بن عبد الله القسري، فقبض عليه يوم عيد الأضحى وقال، "أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم". وكانت التهمة هي لأول مرة تستخدم وهي تلك التي قتل بها بشار من بعد الجعد وقتل بها الآلاف من بعدهم.
في تلك الأثناء كان العرف هو وشاية البصاصين عن أي معارض للسلطة أو لأي غرض سياسي للخليفة على أنه "ملحد" فيأمر بإهدار دمه، كما حدث مع ابن برد وابن درهم وابن حائط وغيرهم. ثم في التأريخ عن أخبارهم يتبعوا باللعن والتأكيد على تبوؤهم موضع في النار، مثلما نجد في كتاب "فتنة الوراق" لعبد المنعم المحجوب (ص. 112) أن المعتزلة انقلبوا منقلب المسيحيون على الهراطقة بعد تمكنهم في أوروبا، فأخذوا يقصون وينفون عنهم كل من يختلف معهم، وتحَول الترهيب والوشاية إلى ممارسة مسوغة عقائديًا لديهم وتحول في تلك المرحلة مصير خصوم المعتزلة لقاضي القضاة الذي كان من عتاة المعتزلة الذي كان مصدره الأساسي البصاصين منهم.
الخطورة في هذا الموضوع هي أن تهمة الزندقة لم يتم استخدامها بدوافع برجماتية فحسب، لكن في كون هؤلاء المتسلطين والاستقطابيين تم التعامل مع كتابتهم كونها "مرجعًا" للدين والعقيدة، وهو الأمر المميز للهرطقة المسيحية عن الزندقة الإسلامية، فلا يكمن أس الخلاف في جوهر كلاهما، لكن يتحدد هذا الخلاف نتيجة التعامل الاجتماعي مع تراث كلاهما. فالهرطقة وإن تم التعامل معها بدوافع سياسية ووصولية كذلك، لكن المتلقي المعني بتلك الأفكار أدرك فيما بعد الغاية الفلسفية المرجوة منها، وفصل بشكل أساسي الغاية الفلسفية عن غاية المفكر المتماسة مع أصل العقيدة. كذلك فارتباط الهرطقة بتهمة "السحر" سهل من تقبل المتلقي الحضاري للهرطقة وإعادة النظر في شيطنتها، حيث سهلت لامعقولية وعدم تبرير تهمة السحر والمبالغة فيها للمواطن اﻷوروبي المسيحي إدراكه بالمقاصد السياسية والخرافية خلفها، وهو ما فتح له الطريق لإعادة النظر بمعقولية في كلام الهراطقة كحجج. وهذا ما لا نجده في تراث الزنادقة، حيث لم يرتبط إلا بإنكار معلوم من العقيدة بالضرورة وأصل من أصولها.
كذلك هو طغيان رواية المؤرخ الجاحد على المؤرخ الموضوعي في التراث الإسلامي من حيث شهرة وموثوقية الرواية، فمثلًا في أثر أبو الحسن الرواندي نجد تباينًا واضحًا في رواية ابن كثير الذي يصفه بالملحد الزنديق الجاهل السفيه والأقل من أن ينظر إليه ويختم بـ "لعنه الله وقبحه" وبين رواية ابن خلكان عن نفس الشخص حيث يذكر ما يفيد من سيرته بموضوعية تليق بمؤرخ ومثقف عصره، فيذكر عدد كتبه المئة وأربعة عشر، وانفراده بمذهب أصيل في علم الكلام. أو رواية ابن النديم حيث يذكره بكونه أحذق المتكلمين في زمانه، وبالطبع فرواية ابن كثير تعتبر الرواية الرسمية للمتلقي الحضاري المعين هنا.
كذلك فالمتأمل في الردود على الزنادقة تفتقر إلي فهم صفتهم التجريدية في التعامل مع المعطيات المنطقية والقواعد القيمية، وعدم فهم أو استيعاب لطموح الزندقة في التوسع في تحليل الأمور الشرعية والفقهية بما يجاوز تعاليم الشريعة والفقه وبالتالي الخروج عن حدود الدين والعقيدة، وهَو ما تم في الردود والجدالات مع المهرطقين الناجين، فكانت النتيجة الحفاظ على الدين ملبٍ لحاجات عصره وليس إجبار عصره على الخضوع له، لذلك فأوروبا مسيحية نتيجة هرطقات. وهو ما لا تجد له مثالًا في تراث الزندقة، فمثلًا مناظرة أبي عيسى الوراق –وهو معلم ابن الرواندي الملحد الأشهر في التراث– مع أبي منصور الماتريدي السمرقندي، فمرى سطحية ردود الماتريدي والتزامها بالعقلية الشرعية وحدود التحريم ولم يتمكن من مجاراة الوراق في التحرر من القيود اللاهوتية ونقد الأساسات والأصول المنطقية وعدم الاعتبار للسمعي والنقلي لحساب العقلي، ويظهر هذا جليًا في الجزء الخاص بالرد على نباتية الوراق والمعري.
من الأسباب المؤكدة على تخلف التراث الزندقي عن الهرطقي هو التكثف الأكاديمي وعدم الانفتاح للإنتاج الأدبي وخاصة التهكمي، فتكليل تراث الهرطقة كان عن طريق فلاسفة الأنوار بالتحديد والمتميزين بشكل عام بكتاباتهم التهكمية والساخرة من كل ما هو مقدس ومحرم. كفولتير في خالدته "كانديد" حيث الكاهن اليسوعي المرحب به ينقلب عليه بسبب طلبه يد أخته ذات سبع درجات النسب فيقتله كانديد وبشكل عجيب يكون قتل كاهن يسوعي سببًا في نجاته، السبغة الساخرة من المحرم هي الوسيلة الأمثل للثورة عليه أو حتى النظر فيه. وهنا نجد أن الرعيل الأول من الزنادقة في التراث الإسلامي كانوا سابقين عصرهم في هذا السياق.
فابن الرواندي في كتاب الدماغ يصف الجنة فيقول "فيها أنهار من لبن لا يتغير طعمه، ولا يكاد يشتهيه إلا الجائع، وذكر العسل ولا يُطلب صرفًا، والزنجبيل وليس من لذيذ الشراب، والسندس يفرش ولا يلبس كذلك الاستبرق وهو الغليظ من الديباج ومن تخيل انه في الجنة يلبس هذا الغليظ ويشرب الحليب والزنجبيل صار كعروس الأكراد والنبط". وهنا مثال آخر ممن رموا بالزندقة هو الوليد بن يزيد، وهو القائل لزوجته:
إذا مت يا أم الكنحيل فانكحي ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا
فإن الذي حدثته من لقائنا أحاديث طسم تترك العقل واهيا
الامتداد لتلك الأفكار كان خاليًا من كل تهكم أو سخرية، فاتسم بالجمود في مناقشة الموضوع، حيث التهكم يكون قاسيًا وفاضحًا عن نية صاحبه، وهو للأسف ما غاب عن جل المشاريع التنويرية العربية، فاتبعت في معظمها التقية وكان ميلها إلى الإصلاح أكثر من ميلها إلى التنوير فكان نتيجة طبيعية تحقيقها الحد الأدنى من التأثير تحقيقًا لطموحها.
المصادر:
- فتنة الوراق، عبد المنعم المحجوب طـ1، 2016، تانليت للنشر والدراسات.
- قصة بشار بن برد: هل كان زنديقاً يستحق القتل؟، وائل الشيمي، موقع مّنثور 10 نوفمبر 2021.
- بشار بن برد وسلاطة لسانه، خالد الشنقيطي، جريدة الشرق الأوسط 15 ديسمبر 2017.
* المقال خاص بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه