أنا أكره الناس. لا، بل أخافهم. كلما قابلت الناس، رددت عبارات التحية المعتادة  بفتور. "هل من جديد؟" "لقد أصبح الجو باردًا حقًا". عبارات لا أريد أن أقولها، تجعلني أشعر كأنني أكبر كذابة في العالم. 

الانتظار

قصة قصيرة لأوسامو دازاي

صدرت عن 1954

ترجمتها عن اليابانية: رنا سيف

وُلد أوسامو دازاي في عام 1909 وتوفي في عام 1948. يُعد أحد أهم الأدباء اليابانين في القرن العشرين. تتميز رواياته بأسلوبه الساخر والكئيب المستوحى بشكل كبير من تجاربه الشخصية. من أشهر أعماله روايتي "لم يعد إنسانًا" و"الشمس الغاربة".


أوسامو دازاي، عن asian review of books

أذهب كل يوم إلى محطة القطار الصغيرة لاستقبال الناس، ناس لا أعرفهم.

 بعد انتهائي من التسوق أمر في طريق عودتي على المحطة دائمًا، أجلس على المقعد البارد، أضع سلة المشتريات على ركبتي وأحدق في بوابة التذاكر شاردة الذهن. كلما وصلت القطارات المختلفة إلى المحطة، اندفعت جموع الناس من أبوابها متدفقة نحو بوابة التذاكر. يبدو على الجميع الغضب وهم يبرزون اشتراكات القطار أو يسلمون التذاكر. يمشون في عجلة دون الالتفات حولهم، يمرون أمام المقعد الذي أجلس عليه في طريقهم إلى الميدان المطل على محطة القطار،  ثم يتفرقون كلٌّ منهم إلى سبيله. أجلس شاردة الذهن. يضحك أحدهم مخاطبًا إياي. آه، يا له من أمر مرعب. أوه، يا له أمر مربك. يخفق قلبي بسرعة وأرتعش كما أن ماء بارد صُب على ظهري، وأشعر بصعوبة في التنفس لمجرد تخيل حدوث مثل ذلك الموقف. على الرغم من ذلك فأنا أنتظر شخصًا ما. يا ترى لمن آتي كل يوم وأجلس على هذا المقعد منتظرة إياه؟ يا ترى ما شكله؟ لا، ربما ما أنتظره ليس بشخص، ربما هو شيء ما. أنا أكره الناس. لا، بل أخافهم. كلما قابلت الناس، رددت عبارات التحية المعتادة  بفتور. "هل من جديد؟" "لقد أصبح الجو باردًا حقًا". عبارات لا أريد أن أقولها، تجعلني أشعر كأنني أكبر كذابة في العالم. كم يشعرني ذلك بضيق يقودني إلى الرغبة في الموت. وهكذا يشعر الشخص الذي أحدثه بالحذر مني بشكل غير ضروري، ويرد بالمجاملات الفارغة والملاحظات المصطنعة الزائفة. يحزنني استماعي للتحفظ الشديد لهذا الشخص ويزيدني ذلك ضيقًا بهذه الدنيا بصورة لا تطاق. ألا يقضي الناس في هذا العالم حياتهم كلها في تبادل التحيات الجامدة والتحفظ وإرهاق بعضهم؟ أنا أكره مقابلة الناس. لذلك فأنا لا أذهب لزيارة الأصدقاء إلا عند الحاجة القصوى. كانت الأوقات التي أقضيها في المنزل مع أمي نحيك في صمت هي أكثر الأوقات التي أشعر فيها بالراحة. ولكن بعد أن بدأت الحرب الكبرى، سادت حالة من التوتر في الأرجاء وأصبحت أشعر بالذنب الشديد لأنني الوحيدة الجالسة في بيتي شاردة الذهن. أصابني ذلك بنوع من الاضطراب وعدم الارتياح. أردت أن أفني نفسي في العمل وأن أكون رهن المساعدة بشكل ما.  فقدت ثقتي في أسلوب حياتي التي عشتها حتى الآن.

لا أستطيع المكوث في البيت دون فعل شيء. ولكنني فور ما أخرج، لا أجد مكانًا يمكنني الذهاب إليه. أتسوق وأمر على المحطة في طريق العودة، أجلس على المقعد البارد عند المحطة شاردة الذهن. آه لو يظهر شخص ما فجأة! ولكن يا لها من ورطة لو تحققت أمنيتي وظهر!  أخاف من عدم معرفة ما عليَّ فعله وقتها. ولكن حين يظهر، سيكون كما لو أن مصيري قد تقرر حينها، لن يكون أمامي أي خيار، سأمنحه حياتي. يمتزج هذا الخوف والتصميم الذي يشبه اليأس وغيرهما من الخيالات المشينة، وتتصارع في صدري بشكل عجيب وتملأه حتى أُصاب بضيق يمنعني من التنفس. أحس بالعجز، لا أدري إن كنت حية أم ميتة، كأنني أعيش أحلام يقظة. أري الناس يمرون أمام المحطة كأنني أحدق فيهم من الجهة المعاكسة لعدسة التليسكوب، أشعر كأنهم صغار وبعيدون، ويسود العالم السكون. آه، يا تري ما الذي أنتظره؟ ربما أكون امرأة خليعة للغاية. كلامي عن قلقي ورغبتي أن أفني نفسي في العمل وأن أساعد بشكل ما بعد أن بدأت الحرب الكبرى كذب. ربما في الحقيقة اصطنعت هذا العذر الذي يبدو نبيلًا نوعًا ما في محاولة مني لاقتناص فرصة لتحقيق خيالاتي الطائشة. أجلس هنا وأبدو شاردة الذهن ولكن تخفق نيران خططي اللئيمة بصدري.  

يا ترى من أنتظر؟ لا يوجد أي شيء واضح. ولكنني أنتظر. منذ أن بدأت الحرب الكبرى، أذهب كل يوم كل يوم للتسوق وأمرّ على المحطة في طريق العودة، أجلس على المقعد البارد وأنتظر، شخصًا ما يضحك مخاطبًا إياي. آه، يا له من أمر مرعب. أوه، يا له أمر مربك. لست أنت من أنتظر. إذن من أنتظر يا ترى؟ زوج؟ لا. حبيب؟ لا أظن. صديق؟ مستحيل. مال؟ لا يمكن. شبح؟ يا إلهي! مستحيل.

أمر ما أكثر لطفًا. أكثر إشراقًا. أمر ما رائع. لا أعرف ما هو تحديدًا. أمر ما كالربيع مثلًا . لا، ليس بالضبط. كالأوراق الخضراء اليانعة. كشهر مايو. كمياه الينابيع التي تجري في حقول القمح. لا، ليس ذلك أيضًا. آه، وبالرغم من ذلك أنتظر. يرقص قلبي من شوق الانتظار. تمر جموع الناس أمام عيني. لا، ليس ذلك الشخص ولا ذاك. أرتعش قليلًا وأنا أحضن سلة المشتريات وأنتظر بإخلاص من كل قلبي. أرجوك لا تنسني. أرجوك تذكر الشابة ابنة العشرين التي تذهب كل يوم كل يوم لملاقاتك وتعود إلى منزلها خالية الوفاض. لم أذكر اسم تلك المحطة الصغيرة عمدًا. حتى وإن لم أذكرها، ستجدني يومًا ما.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها