الأمهات عندما يجلسن ضيوفًا على مائدة العشاء يأكلن جيدًا، مثل الأطفال ولكنهن يبدين غائبات. ذلك ربما لأنهن لا يستطعن مجاراة ما نقوله ونفعله.
ليديا ديفيس: ثلاث قصص
ترجمة: محمد جميل
ليديا ديفيس مؤلفة أمريكية اشتهرت بقصصها شديدة القصر، وهي أيضًا مترجمة عن الفرنسية، تُعد ترجماتها للمجلد الأول من عمل بروست، «البحث عن الزمن المفقود»، وترجمتها لرواية فلوبير، «مدام بوفاري»، من الترجمات المعتمدة في الإنجليزية.
أختان
على الرغم من أن أحدًا لم يكن ليتمنى ذلك، وبالرغم من أنه كان من الأفضل لو أن ذلك لم يحدث، فإنه يحدثُ أحيانًا أن تولد ابنة ثانية ويصبح هناك أختان.
بالطبع فإن أي ابنة تبكي في ساعة ميلادها هي بمثابة إخفاق، وتُستَقبل بقلبٍ مُثقَل من قِبَل والدها، ذلك لأن الرجل أراد أولادًا. لقد حاول مِرارًا وتكرارًا: لكنها جاءت فتاة أيضًا. في هذه الحالة كان الأمر أسوأ، لأنه جاءت ابنة ثانية؛ ثم جاءت الثالثة، وحتى جاءت رابعة. لقد أصبح بائسًا كونه يعيش وسط الإناث، يعيش بيأسٍ، وسطَ إخفاقاته.
إن الرجل ليحالفه الحظ عندما يكون لديه ولد واحد وابنة واحدة، على الرغم من ذلك فإن هناك مخاطرة عالية فى محاولته إنجاب ولد آخر. أما الأكثر حظًا فهو الرجل الذي لديه أبناء ذكور فقط؛ فهو يستطيع المُضِي في إنجاب ابن بعد آخر حتى تأتي الابنة، التي فقط سَتُزَيِّن شكل المائدة وسط أبنائه الذين تمناهم. وإن لم تأتِ الفتاة فلديه امرأة بالفعل، زوجته أم أبنائه. أما في حالته فليس لديه رجل، فقط لامرأته رجل. ولكن لأن ليس لديها امرأة، فبإمكانها أن تتمنى ابنة، إلا أن رغباتها بالكاد يتم سماعها؛ فهي أيضًا ابنة، حتى لو لم يكن ابواها على قيد الحياة.
إن الابنة الوحيدة، الأخت الوحيدة لأولادٍ كُثُر، دائما خاضعة لكلمة العائلة وسعيدة وراضية بذلك. ما ينال الإعجاب، هو لينها في مقابِل وحشية إخوتها، وهدوءها في مقابِل تخريبهم. ولكن سيكون الأمر مختلفًا إذا كان هناك فتاتان؛ سيكون هناك واحدة أقبَح وأكثر حماقة عن الأخرى، سيكون هناك واحدة أقل ذكاءً، سيكون هناك واحدة أكثر انحلالًا. حتى عندما تجتمع كل الخصال الجيدة في أخت واحدة، مثلما يحدث في الغالب، فلن تكونَ سعيدة لأن الأخرى، كشبحٍ، ستطارد نجاحاتها بعيون تملأها الغيرة.
تنشأ أختان في وقتين مختلفين وتتبادلان الاحتقار كونهما طفلتين، وتتشاجران حتى ينقلب لونهما للأحمر. إذا كان هناك ابنة واحدة فقط فسيظلُ اسمها «أنجيلا»، أما إن كان هناك اثنتان فسيُنزع اسميهما، وستصبحان قويتين نتيجة لذلك.
تتزوج الأختان، فتجد واحدة زوج الأخرى فظًا، بينما تستخدم الأخرى زوجها كدرع يحميها من أختها وزوج أختها، الذي تخشى منه سرعة بديهته. وعلى الرغم من محاولتهما الحفاظ على الرباط القوي بينهما، ليكون لأولادهما أبناء خالة، فإنهما تجدان أنفسهما في النهاية يتباعدان.
يكون زوجاهما مصدر إحباط دائم لهما، وأولادهما فشلة يهدرون حب أميهما في المدن الفقيرة. لا يشتد كالحديد الآن إلا الكراهية بين الأختين. تقاسيان الكراهية بينما يشيخ الزوجان ويرحل الأولاد.
في قفص واحد معًا، تكبح كل واحدة منهما غضبها. أصبحت ملامحهما واحدة.
تتلحّفان بالسواد وتذهبان للتبضع معًا. مات الزوجان، وكذلك الأبناء ماتوا في حرب ما. كراهيتهما متشابهة لدرجة أنهما لم تعودا تدركانها. أحيانًا تكونان حنونتين مع بعضهما، لأنهما تنسيان.
لكن في موتهما، تطفو المرارة على وجه الأختين بحكم العادة القديمة.
الأخ غير الشقيق
كان هادئًا جدًا، صغيرًا ونحيلًا لدرجة أنه بالكاد ملاحَظ. الأخ غير الشقيق. لم يعرفوا نسبه ولا من أين أتى أو إذا كان سوف يغادر أم لا.
لم يعرفوا أين كان يقضى الليل، رغم أنهم بحثوا عن آثاره على الأريكة وتفحَّصوا المناشف. لكنه لم يترك أي أثر وراءه.
لم ينزف ولم يبكِ ولم يتعَرَّق. كان جافًا. حتى بوله كان ينطلق منه إلى المرحاض كالرصاصة التي تنطلق من مسدس، قبل أن يريد هو إفراغه بنفسه.
نادرًا ما كانوا يرونه: فبمجرد أن يدخلوا الغرفة يكون قد اختفى مثل ظلٍ، كالذي يزحف حول إطار الباب أو ينزلق من فوق العتبة. صوت أنفاسه كان كل ما يُسمع منه، وحتى وقتها لم يكونوا متأكدين لو لم يكن ذلك صوت نسمة بسيطة تعبر فوق الحصى في الخارج.
لم يكن باستطاعته أن يدفع لهم المال. كان يترك لهم بعضه كل أسبوع، لكن حين يدخلون غرفته بطريقتهم البطيئة المزعجة يكون المال قد أصبح سرابًا باللون الأخضر والفضي على طبق الجدة، يختفى بمجرد وصولهم إليه.
إن وجوده معهم بالكاد يكلفهم فلسًا واحدًا، حتى أنهم لم يكونوا متأكدين إذا كان يأكل أم لا، فالطعام تقريبًا كان كما هو، فهو يأخذ القليل جدًا بالقياس إلى الكميات الكبيرة التي يأكلونها. في منتصف الليل خرج من مكان ما في البيت متسللًا إلى المطبخ حاملًا في يده البيضاء النحيله شفره حادة ثم أخذ يقطع اللحم إلى شرائح وحضَّر بعض المكسرات والخبز ثم ملأ كوبه الصغير بالحليب، الكوب الذي لا يسع أكثر من أونصة أو اثنتين فقط.
أكل بهدوء، ومن دون أن يسمعه أحد، حتى إن قطرة من الحليب لم تسقط من فمه. كان يمسح فمه في المنديل بحيث لا تجد أثرًا للطعام او للشراب عليه، ولا حتى على الطبق الذى كان يأكل فيه، لم يوقع حتى أي فتات حيث كان يقف، ولم يكن هناك أى أثر للحليب على الكوب بعدما انتهى.
كان من الممكن أن يبقى معهم لسنوات لولا قسوة برودة أحد الشتاءات عليه والتي لم يتحملها، فبدأ يختفي. لفترة طويلة لم يكونوا متأكدين إذا كان بالمنزل أم لا. لم تكن هناك طريقة لديهم لمعرفة ذلك، لكن بحلول أيام الربيع الأولى وعندما قاموا بتنظيف حجرة الضيوف، التي كان ينام بها والتي أصبح بالنسبة لها مجرد بخار. هزّوه من بين الملاءات، مسحوه من فوق الأرضية، نظفوه من فوق زجاج النافذة، ولم يدركوا أبدًا ماذا فعلوا.
أمّهات
في كل مكان في الدنيا الجميع لديه أم. هناك أم تجلس معنا على العشاء. امرأة صغيرة ترتدى نظارة بعدسات سميكة لدرجة أن العدسات تبدو قاتمة حينما تدير رأسها بعيدًا. وهناك أم المضيف التي تتصل بينما نأكل. يتسبب ذلك في إبعاد المضيف عن الطاولة أكثر مما توقعنا. هذه الأم موجودة على الأحرى فى نيويورك. وهناك أم الضيف التي تُذكر في حديث ما: تعيش هذه الأم في ولاية أوريجون، التي لا نعرف عنها سوى القليل، بالرغم من أن أحد أقاربنا قد عاش هناك. مصمم الرقصات يُشار إليه بعدئذ، ونحن في السيارة. إنه يقضي الليل في المدينة في طريقه إلى أمه، والتي هي أيضًا في ولاية أخرى.
الأمهات عندما يجلسن ضيوفًا على مائدة العشاء يأكلن جيدًا، مثل الأطفال ولكنهن يبدين غائبات. ذلك ربما لأنهن لا يستطعن مجاراة ما نقوله ونفعله. ربما فقط يدخلن معنا في الحديث عندما ننتقل إلى الكلام عن أيام شبابنا، أو يجاملن حين تكون المجاملة غير مطلوبة، يبتسمن ويُساء فهمهن. لكن تظل الأمهات تحت الأنظار، وجهة الحديث، حتى لو كان فقط وقت العطلات. لقد عانين من أجلنا، وعادة في مواضع حيث لم نتمكن من رؤيتهن.
اقرأ المزيد لليديا ديفيس: كلنا بكينا
الترجمة خاصة بـBoring Books.
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا ما تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.