كلنا بكينا

قصص لليديا ديفيس*

ترجمة: سارة شاهين

ليديا ديفيس: (1947) كاتبة قصة قصيرة، وروائية، ومترجمة. كتبت ست مجموعات قصصية من بينها: «لا أستطيع ولا أريد»، و«الأعمال المجمعة لليديا دافيس»، ورواية واحدة بعنوان «نهاية القصة». تتميز دافيس بقصصها شديدة القصر والإيجاز، يطلق على ذلك اللون الميكرو بورتريه أو القصة «الخاطفة». معظم قصصها عبارة عن جملة واحدة فقط، أو فقرة قصيرة. ترجمت عن الفرنسية عدة روايات وأعمال فلسفية، أهمها «مدام بوفاري» لفلوبير، و«طريق سوان» لبروست. حصلت على منحة من مؤسستي جوجنهايم وماكآرثر، وكذلك جائزة المان بوكر الدولية عن سائر أعمالها. تزوجت من الكاتب الأميركي بول أوستر، وهي الآن متزوجة من الفنان آلان كوت.

الترجمة خاص بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.

***

ليديا ديفيس
ليديا ديفيس، عن باريس ريفيو

كلنا بكينا

ليس من السهل أن تعيش في هذا العالم. الجميع منزعجون على الدوام من تلك الأمور الصغيرة التي تمضي بصورة خاطئة: فأحدهم أهانه صديقه، وإحداهن لا تعيرها عائلتها اهتمامًا، بينما تشاجر آخر مع زوجته أو ابنه المراهق.

يبكي الناس –أحيانًا- عند شعورهم بالتعاسة، وهو أمر طبيعي. في شبابي، عملت لفترة قصيرة في أحد المكاتب. فإذا اقترب وقت الغداء، تزايد شعور الناس بالجوع والتعب والضيق؛ وانخرطوا في البكاء. كنت إذا أعطاني مديري مستندًا لأطبعه، أدفع المستند بعيدًا بحدة. يصيح المدير: «اطبعيه!»، فأصيح بدوري: «لن أطبعه!». حتى هو تجتاحه العدوانية وهو يتحدث في الهاتف، ويضرب السماعة بعنف. وعندما يحين وقت مغادرته لتناول الغداء، تكون دموع الغيظ قد بدأت بالفعل بالانحدار على خديه. إذا مر أحد معارفه بالمكتب لاصطحابه للغداء، فإنه يدير ظهره متجاهلًا الرجل. وحينئذ، تمتلئ عينا هذا الأخير بالدموع.

عادة ما يتحسن شعورنا بعد الغداء. فيمتلئ المكتب بضوضائه المعتادة؛ يحمل الموظفون الملفات وينتقلون بحيوية هنا وهناك، وتنبعث نوبات الضحك المفاجئة من الحجيرات المتجاورة. ثم يمضي العمل بصورة طيبة حتى ساعة متأخرة من الظهر، نبدأ عندها في الشعور بتعب يفوق ما أحسسنا بالنهار. ونشرع في البكاء مرةً أخرى.

واصل معظمنا البكاء بينما كنا نغادر المكتب. في المصعد كنا ندفع بعضنا البعض بالمرافق، ونمشي إلى المترو ونحن نرمي من يسيرون عكس اتجاهنا بنظرات غاضبة. وأثناء هبوطنا السلالم المؤدية للمترو، نشق طريقنا بعنف وسط زحام الأشخاص الصاعدين.

كنا في فصل الصيف. وفي تلك الفترة، لم تكن عربات المترو مكيفة. وبينما كنا وقوفًا ومكدسين جنبًا إلى جنب، نتمايل بينما نقطع المسافة من محطة إلى أخرى، كانت وجناتنا تبللها الدموع، والعرق يجري على ظهورنا وأرجلنا، كما تورمت أقدام النساء في أحذيتهن الضيقة.

يتوقف البعض عن البكاء تدريجيًا في رحلتهم إلى المنزل، خاصة إذا وجدوا مقعدًا، فيطرفون برموشهم الرطبة، ويقرأون كتبهم وجرائدهم بينما يمصون أصابعهم بقناعة، وعيونهم ما زالت ملتمعة.

ربما لم يعاودوا البكاء مرة أخرى خلال ذلك اليوم. أنا لا أعرف لأنني لم أكن معهم، بإمكاني فقط أن أفترض. فيما يتعلق بي: ففي الغالب، لم أكن أبكي في المنزل، عدا وقت العشاء، أمام المائدة، إذا كان عشائي محبطًا للغاية، أو مع اقتراب موعد نومي، لأني لم أرغب حقًا في أن آوي إلى فراشي. لأني لم أرد الاستيقاظ في اليوم التالي والذهاب للعمل. لكن ربما بكى آخرون –بالفعل- في منازلهم. ربما بكوا بكاءً متقطعًا طيلة المساء، يتوقف ذلك على ما كان ينتظرهم في المنزل.

المريضة

في اليوم التالي لإيداع المريضة بالمستشفى، أجرى الطبيب الشاب جراحة في قولونها العلوي، حيث كان متأكدًا أن من ذلك الموضع نشأت حالتها المرضية.

لكن تدريبه العملي كان رديئًا، ومعلموه من الأطباء رجال مستهترون، كما أنه دُفع لإنهاء دراسته في الكلية على عجل، لأنه كان متفوقًا، ولأن البلاد في أمس الحاجة إلى أطباء. أما المستشفى فقد كانت تفتقر إلى العمالة الكافية، بل إن مبناها نفسه كان يتداعى بسبب الإهمال الحكومي، واختنقت الممرات بأكوام الجص المتهشم. ولكل هذه الأسباب –أو ربما لسبب آخر- لم تتحسن حالة المرأة، بل بدأت تتدهور بسرعة كبيرة. بذل الطبيب الشاب كل ما في وسعه، وفي النهاية اعترف أن ليس باستطاعته فعل المزيد، وأن المريضة كانت على وشك الموت. تمكن منه الأسى وذلك الشعور بالذنب المصاحب لاختبار أول وفاة لمريض. ثم ملأه في الوقت نفسه شعور غريب بالإثارة، وبأنه قد أصبح في مصاف الرجال الجادين في هذا العالم، الرجال الذين يتحكمون بأيديهم في حيوات الآخرين، رجالٌ كالآلهة. فيما بعد –ولسبب غير مفهوم- لم تمت المرأة. لقد دخلت بهدوء في غيبوبة. وكلما مر يوم دون أي تغير في حالتها، يتنامى غضب الطبيب العارم من جمودها. فقد قدرته على النوم، واحتقنت عيناه بالدم. أصبح يعاني من صعوبة في الأكل وهزل وجهه. وأخيرًا، لم يستطع احتمال غيظه، وقف إلى جانب سريرها وأخذ يسدد اللكمة بعد اللكمة إلى وجهها المصفر والمتشنج، حتى فارقها مظهرها الإنساني. تسلل نفس أخير من فمها، ثم –وقد غطتها الكدمات والرضوض- ماتت.

خوف

في كل صباح تقريبًا، تندفع امرأة بعينها –من سكان منطقتنا- خارجة من منزلها بوجه ممتقع، بينما يرفرف معطفها الشتوي بعنف. تصيح: «حالة طوارئ، حالة طوارئ»، فيهرع أحدنا إليها ويحتضنها حتى تهدأ مخاوفها. ونحن نعرف أنها تختلق الأمر، هي –في الواقع- لم تصب بسوء. لكننا نتفهم، لأنه ليس من النادر أن يضطر أحدنا في وقت ما، أن يفعل تمامًا مثلما فعلت. وفي كل مرة نحتاج إلى كامل قوتنا، بل وإلى قوة أصدقائنا وعائلاتنا –أيضًا- لتهدئتنا.

يا للصعوبة

ظلت أمي تخبرني لسنوات أنني أنانية، ومهملة، وغير مسؤولة، إلى آخره. غالبا كانت منزعجة، وإذا حاولت مناقشتها فإنها تغطي أذنيها بكفيها. حاولت قدر استطاعتها أن تغيرني، لكن لسنوات بقيت على حالي، وحتى لو كنت قد تغيرت، فليس بإمكاني التأكد من ذلك، أبدًا لم تأت اللحظة التي تخبرني فيها أمي: «لقد توقفت عن كونك أنانية، ومهملة، وغير مسؤولة، إلى آخره».

أنا الآن من أحادث نفسي قائلة: «لماذا لا تفكرين في الآخرين، لماذا لا تنتبهين لما تقومين به، ولماذا لا تتذكرين ما ينبغي عليك القيام به؟». أنا منزعجة. وأتفهم موقف أمي. كم أنا صعبة المراس! لكن ليس بإمكاني أن أخبرها بذلك. ففي ذات الوقت الذي أرغب في أن أخبرها فيه بالأمر، فإنني أيضًا طرف في مكالمة تجمعني بها، أستمع إليها بينما أستعد للدفاع عن نفسي.