سئمتُ من كوني فقيرًا، سئمتُ من المدفوعات الشهرية، من نفقة طليقتي، من الشقةِ الضيقةِ، من الصراصيرِ الموجودة في حوض الاستحمام، من قطار الأنفاق في ساعة الذروة، لقد سئمتُ من كل شيء.
غطاس صغير[1]
قصة لهاروكي موراكامي
ترجمة: أفيفان بَدَل
عن ترجمة جاي روبين إلى الإنجليزية
حينما وصلتُ إلى نهاية السلم الضيق، وجدتُ نفسي في ممرٍ طويلٌ مستقيم بلا نهاية و لهذا الممر سقفٌ عاليٌ للغاية، حيثُ يبدو كقناة تصريف مياه جافة للشخص الذي يمشي فيه. كان الممرُ عاديًا بلا أي تصميم، إذ لم يكن يوجد فيه أي شي مميز، سوى أنهُ ممر. كانت الإضاءة خافتة و مُتقاطعة، كأن الضوءَ قد وصلَ إلى وجهتهِ أخيرًا بعد عدة معاركٍ طاحنة. كان يجب على الضوء أن يخترق طبقة الغبار السوداء التي اكتسحت أنابيب الفلورسنت المركبة بشكل غير منظم على طول السقف، و ثلاثًا من هذه الأنابيب كانت معطلة. بالكاد أستطيعُ رؤية يدي أمامي، كانَ المكانُ هادئًا، الصوت الوحيد المسموع في هذا الممر الكئيب كان صوتَ حذائي المخصص للتنس ماشيًا على الأرض.
استمررتُ بالمشي، مئتا ياردة، ثلاثمئة ياردة، ربما نصف ميل.. أمشي فقط بلا أي تفكير، بلا تفكير في الوقت ولا في المسافة، أمشي إلى الأمام بلا أي أحساس. و لكني فجأة وجدت نفسي واقفًا في تقاطع على شكل حرف T.
تقاطع على شكل حرف T؟
***
أخرجتُ بطاقةً بريديةً مجعدة من جيبِ سترتي وتركتُ عيناي تسرحان في الرسالة: «امشِ باستقامة إلى نهاية الرواق وستجدُ نقطة تقاطع مع رواقٌ آخر، هناك ستجدُ الباب».
تقصيتُ الحائط الذي أمامي ولكن لم تظهر أي علامة على أن هناك بابٍ أو حتى بأنه كان هناك بابٌ في وقتٍ ما. كان الحائطُ خاليًا بلا أي مميزات، لم يكن كجُدران الممرات الأخرى المزينة. لم توجد أبواب ميتافيزيقية أو أبواب رمزية أو أبواب مجازية، لا شيء على الإطلاق. مررتُ كفي على طول الجِدارِ ولكن لم يكن هناك شيء سوى جدارٍ عادي، أملس وفارغ.
لا بد أن يكونَ هناك خطأ، كنتُ متأكدًا. دخنتُ سيجارةً بينما كنتُ متكئًا على الجدار، والآن ماذا؟ هل يجب أن أمضي إلى الأمام أم أعود أدراجي؟
لم تكن العودة خيارًا جديًا، لأنهُ بكل بساطة لم يكن لدي خيارٌ آخر سوى التقدم. لقد سئمتُ من كوني فقيرًا، سئمتُ من المدفوعات الشهرية، من نفقة طليقتي، من الشقةِ الضيقةِ، من الصراصيرِ الموجودة في حوض الاستحمام، من قطار الأنفاق في ساعة الذروة، لقد سئمتُ من كل شيء. على الأقل، الآن وجدتُ وظيفة محترمة. سيكونُ العمل سهلًا، الأجرُ رائع، علاوتان في العام، عطلة صيف طويلة. لم أكن لأستسلمَ الآن فقط لأنني لم أجد هذا الباب الخسيس. إذا لم أجِد البابُ هنا، سأظل أبحثُ عنه حتى أجدهُ.
أخرجتُ قطعة معدنية بقيمة عشرة ين وألقيتها في الهواء ثم تلقفتها: الرسم.
جعلني الجو أفكرُ بقهوة «جيل أو»، حيثُ كانت القهوة كثيفة بشكل غريب. وأيضًا فكرتُ في مدى روعة حصولي على راتب، والهواء البارد في المكتب المكيف. يالروعة أن يملكُ الشخص وظيفةً. أسرعتُ خطواتي وتوجهتُ أسفل الرواق، في الأخير كان هناك بابٌ. من هذا البُعد، كان يبدو كأنهُ قطعة ثياب رثة، أو طابع بريدي قديم، ولكن كلما اقتربت منه أصبح يشبهُ البابَ أكثر. حتى وصلتُ ولم يكن هناك مجالٌ للشكِ. تنحنحتُ، وبعدَ دقة خفيفة على الباب تراجعتُ وانتظرت إجابةً. انتظرتُ خمسين ثانية ولكن لا إجابة. طرقتُ الباب مرةً أخرى ولكن بطرقةً أقوى من المرةِ السابقةِ ثم تراجعتُ. ولكن مرةً أخرى لا شيء.
كنتُ أشعر أن الهواء أصبحَ أقلُ من حولي. كنتُ أحثُ نفسي على أن أطرقَ الباب للمرة الثالثةِ حينما فُتح الباب بهدوء وبشكل عادي وكأن نسمة هواء قد فتحته. على الرغم من ذلك، وللتأكيد فإن الطبيعة ليس لها علاقة بفتح الباب، لأن صوت إدارة مفتاح الباب قد جاءَ أولًا. بعد ذلكَ ظهرَ رجلٌ أمامي.
كان الرجل في متوسط عشرينياتهِ وعلى الأغلب أقصر مني ببوصتين، وكانَ الماءُ يتقطر من شعرهِ، ولم يكن يرتدي شيئًا سوى رداء الحمام. ساقاه كانتا بيضاويتين بشكل غريب، وكانت قدماه صغيرتين كقدمي طفل، بالإضافة إلى ملامحهِ الباردة والخاوية ككراسة التدريب على الخط ولكن كانت هناك ابتسامة اعتذار على شفتيهِ. لم يكن رجلًا خبيثًا على الأغلب.
قال لي بينما يجففُ شعرهَ بالمنشفةِ: «آسف، لكنك جئتَ عندما كنتُ أستحم».
نظرتُ إلى ساعتي كردةِ فعل وقلتُ: «استحمام؟»
أجابني: «إنها قاعدة، نحنُ نستحمُ بعد الغداء».
«أرى ذلك».
«هل لي أن اسألك عن طبيعة عملك؟»
سحبتُ البطاقة البريدية من معطفي وأعطيتها للرجلِ. أخذَ الرجلَ البطاقة بأصابعهِ ليتفادى أن يبللها ثم قرأها عدة مرات.
قلتُ له: «أعتقدُ إني متأخرٌ بخمسِ دقائق، آسف».
أومأ و أعادَ البطاقةَ لي ثم قال: «هممم، إذن ستبدأ بالعملِ هنا؟».
أجبتهُ بأنهُ محق.
«مُضحك، لم أسمع أخبارًا عن موظفين جدد، يجب أن أبلغَ رئيسي عنك أولًا، فهذا عملي. أنت تعلمُ هذا، فكل ما أفعلهُ هو فتحُ الباب وإخبار رئيسي عن الوافدين».
«حسنًا، هذا رائع. هلا تبلغ رئيسك عن وجودي؟»
«بالطبع، إذا أخبرتني كلمة السر».
«كلمة السر؟».
«ألم تعلم بأنه توجد كلمة سر؟»
هززتُ رأسي نافيًا: «لم يخبرني أحدٌ عن كلمة سر».
«إذن، أنا لا أستطيع مساعدتك، فرئيسي صارمٌ للغاية بهذا الشأن. ألا أدعو أي غريب لا يملكُ كلمة السر للداخل».
كان كل هذا جديدًا بالنسبة لي، أخرجتُ الطابع البريد من جيبي مرةٍ أخرى وتمعنتُ فيهِ جيدًا ولكن لم يكن يوجد أي شي عن كلمة السر.
أبلغتهُ: «لقد نسوا كتابته على الأغلب، فحتى اتجاهات الوصول إلى هنا لم تكن دقيقة. لو أنك تبلغُ رئيسكَ عني فأنا متأكدٌ بأن كل شيء سيكونُ بخير. من المفترض أن أبدأ العملُ هنا اليوم، ورئيسكَ يعرف عن كل هذا بالتأكيد، لو أنك تبلغ رئيسك عن حضوري..».
أجابني: «هذا بالضبط ما أحتاج كلمة السر لأجلهِ»، بدأَ يبحث عن سيجارة ليكتشفَ أن رداء حمامهِ بلا جيوب لذا أعطيته إحدى سجائري وأشعلتها له.
قالَ لي: «شكرًا، هذه بادرةٌ لطيفةٌ منك». ثم أكملَ: «الآن، هل أنت متأكد أنك لا تستطيع تذكر أي شيء قد يكون كلمة السر؟».
لم أقم بشيء سوى هز رأسي نافيًا.
قالَ: «اسمع، أنا لا أحب هذا العمل الدقيق أكثرَ منك، ولكن رئيسي قال بأن لديهِ أسبابه. أتفهم عم أتحدث؟ أنا لا أعرف أي نوع من الأشخاصِ هو، فأنا لم ألتقِ به أبدًا. أنت تعلم ذلك النوع من الأشخاص الذين لديهم أفكار كثيرة، لذا لا تأخذ الأمر على محمل شخصي».
«لا، بالطبعِ لا ».
«الرجلُ الذي سبقني طُردَ لأنهُ أدخل شخصًا ادعى نسيانهِ لكلمة السر، وأعتقدُ أنك أنت من بين جميع الناس تعرفَ صعوبة إيجاد عمل هذه الأيام».
أومأتُ برأسي قائلًا: «إذن ما العمل؟ ألا يمكنك أن تُلمِّحَ لي؟ لمحةٌ صغيرة فقط».
زَفرَ الرجل غيمةً من الدخان متكئًا على الجدار: «آسف ولكن هذا ضد القوانين».
«بربكَ، ما الضرر الذي قد يتسبب بهِ تلميحٌ صغيرٌ؟»
«بالفعل، و لكن أن علمَ شخصٌ ما بهذا، فقد يسببُ لي هذا مشكلة كبيرة».
«لن أخبر أحدًا، ولن تفعل أنتَ هذا أيضًا، فكيف يمكن للآخرين أن يعلموا؟»
كانت هذه مسألة شديدة الأهمية بالنسبة لي، لذا لم أكن مستعدًا للاستسلام.
بعد بعض التردد، اقترب الرجلُ نحو أذنيَّ وهمس لي: «هل أنتَ مستعدٌ لهذا، حسنًا إنها كلمة بسيطة ولها علاقة بالماء، ويمكن أن توضع في يدكَ، لكنها لا تؤكل».
الآن كان هذا دوري لأفكر مليًا. سألتهُ: «ما الحرف الأول؟»
أجابني: «الغين».
قلتُ: «غواصة»؟
نفى وقالَ: «اثنتان».
«ما هما الاثنتان؟»
«تبقت لك محاولتان، إن فشلتَ فيهما فأنا آسف، لكنني أخاطرُ بالكثير بكسري للقواعدِ بهذا الشكل، لذا لا أستطيع الاستمرار بجعلك تحزر».
«أنا أقدِّرُ هذا حقًا، ولكن ماذا لو أعطيتني المزيد من التلميحات؟ مثل كم حرف يوجد في الكلمة؟»
عبس قائلًا: «المرة القادمة ستطالبني بإخباركَ الكلمة كلها».
«كلا، لن أفعل شيئًا كهذا أبدًا، فقط أخبرني بعدد حروف الكلمة».
تنهدَ وقالَ: «ثمانية، دائمًا ما قال لي والدي: مد يدك لشخص وسيأخذُ بذراعك كذلك».
«أنا آسفٌ حقًا».
«إنها ثمانية بكل الأحوال».
«شيء لهُ علاقة بالماء، بحجم اليد ولكن لا يمكنك أكله».
«هذا صحيح».
«يبدأ بحرف الغين و لهُ ثمانية أحرف».
«هذا صحيح».
ركّزت في اللغز وقلتُ له أخيرًا: «غطاس صغير».
«كلا، كما أنه يمكنك أكل الغطاس الصغير».
«هل أنت متأكد؟».
«على الأغلب. قد يكون مذاقهُ غير طيب، ولكنه أيضًا يفوق حجم يدك».
«هل رأيتَ غطاسًا صغيرًا من قبل؟»
أجابني: «كلا، لا أعرفُ شيئًا عن الطيورِ، خاصة الطيور المائية. لقد نشأتُ في وسطِ طوكيو. أستطيعُ إخباركَ عن جميع المحطات في خط يامانوت بالترتيب ولكني لم أر طائرَ غطاس».
و لم أر واحدًا أيضًا، و بالطبع لم أكن أعلم عن هذه الكلمة حتى سمعتُ نفسي أقولها. ولكن كلمة غطاسٌ صغير من ثمانيةِ أحرف. ولم أستطع التفكير في شيء آخر يطابق التلميحات.
أصررتُ: «لا بد أن تكونَ الكلمة (غطاسٌ صغير)، فهو بحجم الكف وأيضًا طعمه سيء للغاية لدرجة أنك لن تستطيع جعل كلب يأكُله».
قال لي: «تمهل قليلًا، ما تقولهُ غير مهم لأن الغطاس الصغير ليس كلمة السر. تستطيعُ المجادلة كما تشاء إلا أنك تقول كلمة السر الخاطئة».
«ولكنها توافق جميع الشروط، الغطاس الصغير مرتبط بالماء، وبحجم اليد، ولا تستطيع أكله، وثمانية أحرف. إنها الإجابة المثالية».
«يوجد شيء واحد خاطئ».
«ما هو؟»
«أن الغطاس الصغير ليس كلمة السر».
«إذن ما الكلمة؟»
كان عليه أن يحافظ على رباطة جأشه: «لا أستطيعُ إخبارك».
قلتُ له بأبرد نبرة أستطيعها: «لأنه لا توجد كلمة سر، لا توجد كلمة من ثمانية أحرف لها علاقة بالماء، وتناسب حجم اليد ولكن لا تستطيع أكلها سوى الغطاس الصغير».
قالَ وكأنه يتضرع، ويوشك على ذرف الدموع: «ولكن توجد هذه الكلمة».
«كلا، لا توجد».
«بل توجد».
«إذن، أثبت ذلك، إن الغطاس الصغير يطابق جميع الشروط».
«أعلمُ ذلك ولكن في مكانٍ ما قد يكونُ هناكَ كلبٌ يحب أكل الغطاس الصغير الذي يبلغ حجم كف اليد».
«حسنًا، لو أنك ذكيٌ للغاية، أخبرني أين أجدُ كلبًا بهذهِ المواصفات؟ أي نوع من الكلاب؟ أريد دليلًا ماديًا».
تنهدَ وحركَ عينيهِ.
أكملتُ كلامي: «أنا أعرفُ كل شيء يستحقُ المعرفة عن الكلاب، ولكنني لم أر أبداً كلبًا يحبُ أكل الغطاس الصغير الذي يبلغ حجمِ الكف».
قال متذمرًا: «هل طعمه سيء لهذه الدرجة؟»
قلتُ لهُ: «طعمه مريعٌ للغاية».
«هل ذقت واحدًا من قبل؟»
«أبدًا، هل تتوقع مني أن أضع شيئًا بهذه القذارة في فمي؟»
«حسنًا، لا أتوقعُ هذا».
كررت طلبي: «بكل الأحوال، أريدك أن تبلغ رئيسك عني، غطاس صغير».
قال لي ماسحًا شعرهُ بالمنشفةِ مرةً أخرى: «أنا أستسلمُ، سأحاولُ ذلك ولكنني متأكد أن النتيجة لن تكون طيبة».
قلتُ له: «شكرًا، أنا مدينٌ لك».
قالَ: «ولكن أخبرني، هل الغطاس الصغير الذي يبلغ حجم الكف موجود حقًا؟»
قلتُ له: «أجل بكل تأكيد، يعيشون في مكانٍ ما». على الرغم من أنني لم أكن أدري كيف قفزت الكلمة إلى رأسي.
***
مسحَ الغطاسُ الصغير نظاراتهِ بقماشً مخملي مربع وتنهدَ. ضرسهُ الأيمن السفلي كان يؤلمه، أخبرَ نفسه: رحلة أخرى إلى طبيب الأسنان؟ لا أستطيع تحملُ هذا أكثر. يالهذا العالم المتعب: أطباء أسنان، عائدات الضرائب، أقساط السيارة، مبرد السيارة العاطلِ عن العمل. تركَ رأسهُ ليستندَ على يد الكرسي المكسو بالجلدِ، أغمض عينيه وفكرَ بالموت. كان الموت هادئًا كهدوء أعماق المحيط، وحلوًا كحلو الأزهار في شهر مايو، كان الغطاس الصغير يفكر في الموت كثيرًا في الأيام الأخيرة. تخيل نفسه يستمتع براحتهِ الأبدية.
«هنا يرقدُ الغطاس الصغير بحجمِ الكف»، هذا ما كان مكتوبًا على شاهد قبرهِ.
عندها رن جهاز الاتصال الداخلي.
وسمع صوت الحارس يقول: «يوجد شخص يريد مقابلتك سيدي. يقول إنه من المفترض أن يبدأ العمل هنا اليوم وهو يعرف كلمة السر».
نظر طائر الغطاس الصغير الذي يبلغ حجم الكف إلى ساعتهِ عابسًا وقال: «متأخر خمسون دقيقة».
[1]الغطاس: هو جنس من الطيور يتبع الفصيلة الغطاسية من رتبة الغطاسيات.