ما أردت قوله كان شيئًا آخر

قصائد مختارة من ديوان "ما كنت أريد قوله كان شيئًا آخر" للشاعر مايكل بينيتيس أورتيس

ترجمة: أحمد محسن

* مايكل بينيتيس أورتيس، شاعر كولومبي معاصر ولد في بوجوتا عام 1991. نشر ديوانين: ما كنت أريد قوله كان شيئا آخر (2019)، أوراق (2020)، ومجموعة قصصية: ليس لدي أحلام ولكن لدي إعصار في جيب بنطالي الصغير (2020).

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


الشاعر من يموت مراتٍ أكثر بين البشر..

-1-

ولدت فقيرًا كما يولد المرء غنيًّا: دون استحقاق. في البيت كان النور ينقطع كثيرًا؛ تعلّمت أن الليل أيضا يجب إشعاله. لم أكن أستعمل الشامبو لكنّ صابون الملك[1] جعل شعري لامعًا وقويًّا. 

لا أشكو شيئًا من هذا. لكني أسأل سؤالًا واحدًا يا ربي: لماذا، فوق كوني فقيرًا، أرسلتني إلى العالم شاعرًا؟ لماذا كلُّ هذه اللعنات في الوقت ذاته؟

...

-2-

كتبت اسمك إلى جانب اسمي على سيارة أبيك المتسخة، وبين رمال الحديقة، وعلى حائط المخبز أمام بيتك، وعلى تختةٍ، وعلى زجاج حافلة المدرسة الذي يغطيه العرق وعلى أكبر طائرة ورقية عرفها الحي، حتى أنني وشمته على يدي اليسرى بحبر صيني وإبرة خياطة لأمي.

            رغم ذلك لم تريه قط. 

...

-3-

تسمع صلصلة المفاتيح في جيوب الظلال بجانبي، يزيد الليل ترددها. حين كانت تصعد إلى سريري كنت أصرخ.

وحدها أمي من كان بوسعها أن تُخرجهم من غرفتي بمكنسة حبها.

...

-4-

كان أبي يأخذني إلى حديقة برتقالية مرتديًا قميصًا مخططًا بخطوط حمراء وبيضاء. كنتُ أصابُ بالدوار في حافلة تتفادى الموت بين تصدّعات الإسفلت. كان قوس قزح ما يزال موجودًا، وكنت أنظر إليه من تلك الحافلة القديمة. مرّت الأيام من الخبز بالشيكولاتة إلى الاثنين زائد اثنين والألوان الأساسية التي نسيتها، رغم أنها نفس ألوان العلم الذي يُشنق به جيراني.

...

-5-

كان بيتو الطفل الوحيد في الحي الذي له لحية؛ أحيانا كان يقذف الكبار الذين يصرخون فيه بالحجارة.  كان بيتو دائما يحمل عصًا في يده، وكان -بالتأكيد- أطول من أي واحد فينا. كان بيتو يسأل أكلًا في المطاعم ثم يوزعه على أصدقائه. كان بيتو ينظر إلى السماء بذاكرة طائر.

            بيتو كان مجنون الحي


ندوب الليل.. 

إلى كريستيان خوليان كاييخاس،
في ذكراه.

كنا نسكر ونبول على الحياة
-على حياتنا-
بتواضع السجائر الرخيصة.
لم يفهم أحد معي بذلك العمق
قدر سخافة أولئك الشعراء
الذين يتصورون مع قططهم.

كان يقول لي:

         "أنت شاعر مقمّل
ولذلك فأنت الوحيد الخفيف على قلبي"

كان الليل يحمل في وجهه ندوبًا
ويبصق لنا بعض العملات
لنضعها في حصالة جيوبنا المخرومة.

أغض طرفي وأتشبّث بالطريق الأطول
إن رأيت الموت
يرقص عاريًا
في أي ناصية.

الذكرى تهدُّ الشوارع.
هنالك زلزال بؤرته في قلبي.
صدقني،
إنني توقفت عن الإيمان بالرب
حين بدأت الإيمان بأصدقائي.

لذلك أشعر بنفسي اليوم على ضفّة الوحدة
وآتي بك إليَّ
لتعلمني الطيران
بما أنني لم أتعلم قط ركوب الدراجة.


أشجار من جليد

1

لطالما أحببت
الأبطال الخارقين
كنت أشاهدهم كل سبت
في الثالثة مساء
على تلفاز البيت
التلفاز الوحيد في القرية كلها.

كم كان جميلًا:
كنا نجلس بعرقنا
بعد المباراة
أقاربي وجيراني والكرة
(إذ كنا نعلم أنها أيضًا صديقتنا).

يومًا ما، حين عدنا من اللعب،
لم يكن أبي ولا أمي في البيت
واندفع من التلفاز مطر من الذباب
غطّى وجوهنا.

لم نكن نعرف ماذا يحدث:

احمرّت السماء
ومن الغمام خرجت فقاعات دم
انفجرت في عيوننا
ومن الشارع ضوضاء سوداء
-ولا تقولوا لي ألا أبكي-
رفعت الستارة
وتركت الليل يبدو
هم أيضا كانوا يلعبون
لعبة الأطفال الخارقين.
والكرة،
صديقهم،
كانت رأس أبي.

2

في المدرسة
كنا جميعا على أتمّ وفاق
رغم أن البدين
الأضخم بين الجميع
كان متعاليًا بعض الشيء.
أحيانا لم نكن نحب رفقته
وكان يستحق ذلك جزئيًا
لما يكيل لنا من الضربات
حين كنا نلعب بالبلي
وكان يضرب أصغر من فينا.
لكننا في داخلنا كنا نحبه كثيرًا،
لذلك آلمنا كثيرًا
حين أخبرتنا امه
أنهم أخذوه إلى الجبل[2]

ذلك المساء الذي نسي فيه الرب
أنه أيضا كان طفلًا.

3

نعيش الآن في بوجوتا
ولمن لا يعرف كيف هي
سأقدمها له:
بوجوتا مدينة شديدة البرد
ولا أقصد الجوّ
لأنه -ولن تقولوا إنني أحمق-
لهذا منذ زمن اخترعوا
الملابس الثقيلة
والأغطية.
بوجوتا باردة
لأن الناس يحملون مقبرة كبيرة
في قلوبهم.


تشرُّد

يقولون
إنه يمضي وقته يقرأ أوراقًا
يجلبها من قمامة مستشفيات المجانين
ويكتب بحبر شفاف،
إنه يسكر بالليل
-لا في الليل-
وإنه يحبه باردًا جدًا.

يقولون أيضًا
إنه يعمل في حلم، أو أفضل، في كابوس
وأن الربّ، شخصيًا، توَّجَه بهالة مُلحد.

هذا ما يقولون
عن صديقي
الذي اتخذ
من الشِعر
شوالًا[3].


نباحات

*

رائحته الباردة: ظلال زرقاء
فمه
هذه الحافلة التي لا توصلني إلى أي مكان.

*

لم أكتب قطُّ أبياتًا لا تُنسى
لأنني حين فكّرت فيها
كنت سكرانًا
فنسيتها.

*

لأن استبدال المسيحية بسجائر الكوكايين والهروين
ليس تعافيًا
وإنما تغيير مورّد.  

*
الذكريات:
أطراف تصدأ
في ذاكرة الأشجار


 [1]   نوع صابون رخيص يستعمله الفقراء في كولومبيا.

  [2]   أخذوه إلى الجبل: تعبير كان يعني في كولومبيا خلال سنوات النزاع المسلح أنهم حملوا طفلًا لينضم إلى جماعة مسلحة ويحارب معهم، وكان ذلك لأن مقرات الجماعات المسلحة كانت في الجبال.

  الشوال هو ما يحمله ساكن الشارع يضع فيه ما يجمعه من أشياء أو يتخذ منه غطاءً في البرد [3]