يرى البعض أنّ رواية مدام بوفاري رواية مزعجة تغرق في الملل، فأحداثها بطيئة بسبب الإسهاب في الوصف، ففلوبير إذن يهوى هذا الفنّ، لكن في أحيان كثيرة لم يقم هذا الأخير بالتفنّن فيه.

مدام بوفاري: بحثًا عن الحياة الحديثة

مقال سارة عمري 


لوحة جوزيف ديزاير كورت

وبينما كان بوفاري يستسلم للنعاس، لم تكن إيما تنام، بل كانت تتصنّع النوم، وتصحو لأحلام أخرى، فإذا أربعة جياد تحملها راكضة بها نحو بلاد جديدة، لا عودة منها!

ليست رواية مدام بوفاري حكاية عن الخيانة وحدها، فالخيانة فيها عرَض منبته جوهرٌ آخر أشدّ وطأةً، ولن يرى القارئ «إيما»؛ شخصيتها الرئيسية، وقد خلع عليها فلوبير هذا الرداء الأخلاقي إلَّا بعد صفحات كثيرة، يترقّب عبرها اللحظة الحاسمة.

يفتتح هذا العمل نفسه عبر تقديم شخصية «شارل بوفاري»، الطبيب وزوج إيما المستقبلي، فيسرد معالمَ حياته منذ طفولته، وتُصوَّر شخصيته وهي تتأرجح بين الطيبة والسذاجة. وفي شبابه عندما تمكّن أخيرًا من إنهاء تعليمه ليزاول مهنته، تختار له والدته أرملةً تكبره في السن زوجةً له، ليبدأ حياةً جديدة سرعان ما ينفر منها، فزوجته لم تكن غير امرأة متسلّطة تحاول بقدر المستطاع الحدّ من حريّته والتنغيص عليه. ولكن في إحدى الأيام يستلم شارل مهمة طارئة لعلاج ساقٍ رجل عجوز، فتوشك علاقة غرامية على الوقوع بينه وبين ابنة هذا الرجل التي تدعى إيما، فبعد زيارة منزلها، يتعرّف عليها ويعجب بها لتُبادله الإعجاب، ويصبح من عادته التردّد على منزلها بحجة زيارة والدها حتى يراها، وعندما تكتشف زوجته السبب الحقيقي الذي يدفعه إلى تجديد هذه الزيارات، يقرّر بوفاري التوقّف عن هذه العادات السيئة، لينشغل بأموره العملية والزوجية، إلّا أنّ وفاة زوجته تعود به إلى حيث إيما، ليعقد قرانه بها أخيرًا.

بعد زواجهما، تتّضح لنا طبيعة إيما التي سنعرفها أيضًا باسم مدام بوفاري؛ السيدة المختلفة عن غيرها، المأخوذة بنوع من التصوّف الديني بعد أن قضت عدّة سنوات في دير للراهبات تمرّدت عليه في النهاية، والفتاة التي تطالع الكتب، وتعزف البيانو، وترسم اللوحات، والمرأة الجميلة التي يعجب بها كل شخص تقع عيناه عليها. وسرعان ما تملّ من هذا الزواج الذي يضعها في مأزق، فالقرية تخنق روحها التي تتوق إلى الانطلاق في رحاب أوسع، فهي تسعى خلف الحرية، ناهيك عن الحالة الاجتماعية التي وجدت نفسها عالقة فيها، فقد كان بالكاد على زوجها الارتقاء إلى البرجوازية الصغيرة، ثم هو عينه، الذي لم يكن لا منظره ولا شخصيته كفيلان بأن يمدّانها بالقوّة لتتحمّل حياتها، ومضت أبعد من ذلك وأصبحت لا تطيقه رغم الحب الذي يغدقه عليها، فهو الزوج المحب الجاهز للقيام بكلّ ما يشتهيه قلبها.

صراع مع القرية

لقد شغفت إيما بالحياة الحضرية، ولاسيّما حياة القصور، فراحت تحلم بها وبشخصياتها من رجال نبلاء ونساء راقيات، وقد اِشتد عليها ذلك بعدما جرّبت شيئًا من هذا القبيل، عندما وُجّهت لزوجها دعوة من الماركيز، فقضت أكثر أوقات حياتها سعادةً في قصر هذا الأخير، وهي منتشية بالاحتفال، ومناظر السيدات والسادة الذين ينحدرون من عائلات أرستقراطية، بل وخيّل إليها أنها باتت واحدة منهم، ونستطيع أن نستشفّ ذلك عندما ذكر فلوبير وجود عدد من الفقراء أو العوام الذين يتطفّلون عليهم، ويختلسون النظر عبر النوافذ إلى هذا الحفل الذي راحت فيه إيما تنظر إليهم بترفّع، بل ونقرأ أيضًا كيف أنّ كل الفترة التي قضتها قبل هذه الدعوة ما فتئت تتبدّد وتصبح في طيّ النسيان، وكأنّها لم تعشها، كما أنّ الوقت في القصر يمرّ سريعًا، مما يجعل الحياة متسارعة ومحمومة.

وبعد أن انتهى كلّ شي، رجعت إلى قريتها، وإلى حياتها الريفية التي تسير على وتيرة متباطئة، تحلم بما عاشته، وتأمل مستقبلًا أن يدعوهما الماركيز مرّة أخرى، الشيء الذي لم يحدث، وهذا ما جعل نفسيتها تزداد سوءًا فلا شيء جديد يقع في هذا المكان غير الملل الذي يتجدّد باستمرار ليبلع سنوات حياتها، ناهيك أنها استطاعت بلوغ الوعي الذي أتاح لها إدراك حجم الهوة التي تفصلها عن هؤلاء، فمن ذاق طعم الغنى مرة يشقّ عليه أن يحتمل الفقر بعد ذلك. وبسبب مرضها قام زوجها بتغيير إقامتهما فانتقلا إلى قرية أخرى أملًا في أن تشفى. ولم تكن إيما فقيرة على كلّ حال، لكنها رأت نفسها تستحقّ أفضل من ذلك، وليس هي فحسب من ظنّت هذا بل حتى الصيدلي هوميه رفيق الأسرة اعترف بهذه الحقيقة حين ذكر مرّة أنها امرأة عظيمة، جديرة بالعيش في المدن لا في القرى. 

وفي هذه القرية الجديدة، أحبت إيما شابًا يدعى ليون وقع بدوره في حبها من دون أن يبوح أحدهما للآخر بمشاعره، فقد غادر قاصدًا مدينة روان للدراسة، لتسوء حالتها مرة أخرى، إلّا أنها تشفى بعد فترة وتتكيّف مع حياتها المتواضعة، لكن في أحد الأيام ذهبت في رحلة مع زوجها إلى المدينة لحضور عرض فني، ليظهر ليون الذي بات منذ ذلك الحين عشيقها، وعندها صارت تتردّد على المدينة للقائه، غير أنّ ما التقت به هو شيء آخرَ أيضًا، فلقد كانت إيما في الحقيقة تعيش الحداثة، الحداثة ذاتها التي يعرّفها شارل بودلير في كتابه «رسام الحياة الحديثة» الذي ألفه بعد سبع سنوات من الرواية، بأنها «العابر والمؤقّت والزائل..».

وهكذا، مضت تذوب في هذه المظاهر، فرواية فلوبير في الواقع تصوّر الحياة الحديثة بأحداثها الحافلة وتطوّراتها، كما تناولت مجالات عديدة ازدهرت وقتها مثل العلوم الذي عدّها الصيدلي هوميه هدفه الأسمى، بينما انغمست إيما في ما رأته من فنون وحياة اجتماعية متحرّرة، وثمة فرانسوا صاحبة الفندق مع التاجر روليه اللذين يمثلّان الجانب الاقتصادي، ناهيك عن محصّل الضرائب بينيه الذي يجسّد نوعًا ما الجانب العملي أو الإداري، أما الدين فانزوى في ركنه وحيدّا يمثّله الأب بورينسيان، صاحب الفكر البسيط الذي لا يختلف عن العوام. ولم يتغاض فلوبير حتى عن استحضار العربات، التي اعتبرت حينها وسيلة متطوّرة لنقل الأشخاص، حيث راحت مدام فرانسوا تتنافس مع روليه بعربتها التي تقلّ المسافرين إلى المدينة، وهو ما نجده في كتاب بودلير الذي أفرد فيه جزءًا كاملًا يتحدّث عنها.

كما لم ينس فلوبير تناول الموضة الفرنسية، حيث راح يصف ما ساد وقتها من مظاهر عند كلا الجنسين، مثلما لم يغب هذا عن بودلير الذي خصّص في كتابه جزءًا عنونه بـ«الثناء على التبرّج». وقُدِّمت إيما في الرواية بوصفها امرأة تتّصف بنزعة استهلاكية بالغة، مقارنة بوضعها، حتى في عصر مثل عصره، فلم تكن تترك شيئًا تاقته نفسها إلّا واقتنته، حتى لو عُدَّ تافهًا، أو أنّه قابل للاستعمال مرة واحدة أو لن يُستعمل أبدًا، فقد كان الاستهلاك ببساطة أسلوب حياة، أمدّ وجودها بالمعنى ولو مؤقتًا. وهذه النزعة الاستهلاكية تقوم على التفضيل الجمالي، والرغبة، رغبتها في أن تكون سيدة راقية ليس عبر نسب شريف أو مركز اجتماعي، بل «صورة» ترسمها لنفسها، فهي تؤثّث نفسها بأشياء مادية، ومعنوية أيضًا، وقد مضت على سبيل المثال في الاشتراك في المجلّات والصحف حتى تعرف أخبار المدن، وتحفظ طريقة عيشهم بتفاصيلها وكأنّها معهم، وتتورّط بذلك في النميمة ولو من بعيد. وهي فوق ذلك نزعة تتمحور على التعويض، فهي تعويض على حالتها الطبقية ومحاولة لتجاوزها.

كما أنّ شخصيتها تتبع عادات أو ذوق الطبقة الراقية، فهي تمثّل حالة فريدة، تشذّ عن مسارها الطبقي الذي حُتّم عليها، رغم أنّ القارئ لن يجد هذه الطبقية متجلّية في العلاقة بين قريتها والمدينة فحسب، وإنما في القرية نفسها، التي لا يتساوى فيها الأشخاص بين بعضهم بعضًا، فهي تتغلغل في أعماق كلّ شخص، حتى في إيما نفسها التي تراهم أدنى منها، وهي علاوة على ذلك تضفي على هذا الاستهلاك والمظهر المادي نوعًا من الأخلاق والمشاعر التي لا تتّسق إلّا معه، فنقرأ: «واختلطت في أحاسيسها لذّات البذخ المادية بمسرّات القلب، ورقي العادات برقة المشاعر، أفلا يحتاج الحب كما تحتاج نباتات الهند الى تربة معينة ودرجة حرارة خاصة؟ فالزفرات في ضوء القمر، والعناق الطويل، (...) كل هذه أمور لا انفصال لها عن شرفات القصور الكبيرة المليئة بأوقات الفراغ، ولا عن المخادع ذات الستائر الحريرية...». وهكذا نفذّت إيما ما فكًرت فيه، فلم تكن ترضى على سبيل المثال بأن تقيم مع عشيقها إلّا في فندق محترم يناسب حبهما، أو تشتغل في أعمال البستنة.

الحرية والسعادة والأحلام الورقية

إنّ الحريّة التي سبقت الإشارة إليها باقتضاب، عنصر مهم في هذا العمل فهي تلوح لنا منذ البداية، منذ أن صار شارل يتخلّف عن مدرسته ليقضي وقته بالخارج في الحانات ليمتّع نفسه، مما أدّى به إلى الرسوب. ثم تفاؤله عند زواجه من تلك الأرملة إذْ اعتقد أنّ هذه الزيجة ستمكّنه من تدبير شؤونه الشخصية والمالية بنفسه ليقع العكس بعد ذلك. أما حرية إيما، فتتشعّب إلى عدّة اتجاهات، فهناك الحرية التي تريد أن تعيشها بعيدًا عن قريتها المثيرة للضجر، وثمة حريتها القديمة حين كانت فتاة غير متزوّجة، فقد استطاعت أخيرًا أن تستوعب تلك الحرية التي تقلّبت في نعيمها تحت كنف والدها، والتي فقدتها بمجرّد أن ارتبطت بشارل. أما الحرية التي قد تبدو مناقضة لجوهرها فهي في الدير، عندما كانت بريئة ومتّحدة مع الله بالرغم من كلّ القيود التي فُرِضت عليها، فالحرية هنا ليست مجرّد مفهوم عن التحرّر من أعباء أو أخلاقيات أو تقاليد معيّنة بل حالة وجودية من الترف النفسي والعثور على معنى للحياة، والانغماس فيما نرغب، فالحرية ببساطة هي رغبة، وقد صاغتها الرواية في قالبين؛ الإيجابية منها التي تتعلّق بالبراءة، والسلبية التي يستسلم صاحبها للأهواء وملذّات النفس.

وهذه النزعة من التحرّر، التي نجدها في شخصية إيما الحالمة، قامت بنحتها الكتب التي قرأتها منذ طفولتها، والتي استطاعت التأثير فيها، فحينما غادر ليون إلى روان، واستولى عليها الحزن، راحت والدة زوجها تدعوها بالمرأة العاطلة عن العمل، بعد أن زعمت أنّ حالتها النفسية المتدهورة تعود إلى عطالتها التي تشغلها بقراءة الكتب، وهو ما يذكّرنا ببودلير مجددًا وجزئه الذي عنونه بـ«الداندي»، والداندي هو الرجل الذي يولي مظهره عناية كبيرة ويتكلّف في انتقاء أزيائه، وقد صوّره بودلير أشبه بشخص عاطل عن العمل، يعيش على نفقة أسرته الأرستقراطية أو ثروته.. إلخ، فهو يقول: «إنّ الحب هو الشغل الطبيعي الشاغل للعاطلين عن العمل».

إنّ المواضيع التي وجدتها متقاربة بين رواية فلوبير وكتاب بودلير الذي ألفه بعد سبع سنوات من الرواية قادتني إلى إلقاء نظرة على مقال كتبه هذا الأخير سنة 1857 في مجلة «الفنان - L'artiste» بعنوان «مقال نقدي عن رواية مدام بوفاري - Critique de Madame Bovary» متناولًا الرواية التي أعجب بها أيما إعجاب، وكان مدركًا على سبيل المثال انقياد شخصيتها الرئيسية خلف الموضة، رغم أنه فسّر نزعتها الجمالية هذه على أنها وسيلة للإغراء، بل وذكر عنها أنها تماثل «الداندي»، بل وخلع عليها صفات ذكورية فهي حسب اعتقاده امرأة بمواهب الرجال أو أشبه برجل كما وصفها، ورغم أنني لا أتّفق مع بودلير، غير أنني أودّ الإشارة إلى حقيقة استيعاب إيما وجود هوّة جندرية تتيح للرجل سعادة أكبر من المرأة مثلما أعلنت أكثر من مرّة، وتقليدها للرجال عندما راحت تدخّن على مرأى الناس، وترتدي صداريهم، أو تدير ثروة زوجها نيابة عنه*، ناهيك عن تنكرّها في إحدى الحفلات حيث كان من جملة ما ارتدته بنطلونًا وشعرًا مستعارًا، وهي أمور اعتبرت مستهجنة في ذلك الوقت لا سيّما في المجتمعات الريفية. وما من ريب أنّ مثل هذه السلوكيات هي التي دفعت بودلير إلى رؤيتها بشكل ذكوري، أضف إلى ذلك فرادة شخصيتها وتميّزها الذي عدّه خاصًا بالرجل.

وعلى أي حال، لقد اعتادت إيما التفتيش في الكتب عن ذاتها، والتماهي مع شخصياتها التي سكنتها، حتى غدت شخصيتها الواقعية مجرّد شخصية أدبية أو ورقية تحاول بقدر المستطاع بناءها، وبذلك بحثت عن السعادة مثلما نراها تتحدٌث عنها، فوجدت أنّ سعادتها تكمن في حريتها. وصحيح أنها بحثت عن الحب الذي فقدته بزواجها، وهو يتمثّل في رجل أنيق وميسور الحال غير أنّ الحب ما هو غير جزء من سعادتها، فهي ما فتئت ترى هذه العاطفة متحوّلة وعابرة مثلما ذكرت في إحدى المرات، بعد أن اختبرت ذلك بنفسها عندما راح هذا الحب يفتر مرات كثيرة مع عشيقيْها، فقضية مدام بوفاري متعلّقة هنا بالبحث عن سعادتها أو حريتها في المكان المناسب مع الشخص المناسب أكثر من مجرّد حب.

الفساد الروحي

قبل أن تصبح إيما عشيقةً لليون، تعرّفت على رودولف، زير النساء الذي استسلمت له بسهولة، ومن هناك تغيّرت طباعها، وكأنّ الخيانة لعنة توصم روحها، فأصبحت علاقتها برودولف ليست مجرّد نزوة عابرة بل تحوّل مخيف يتشبّث بروحها، فاكتسبت طبعًا جديدًا، مثل الجرأة، والتمرّد على الحسّ المشترك لقريتها كما نستشفّه من قول فلوبير، فقد غدت تتصرّف بشكلٍ غير مقبول يتنافى مع دورها كامرأة مثلما ذكرنا من قبل، وتحتقر سكان القرية التي هي منهم، وتشتم حماتها، كما وجدت ضالتها في قراءة الكتب الإباحية ذات الصور الخليعة، أما بالنسبة لشخصيتها منذ البداية فقد اعتُبِرت امرأة حادّة الطباع ونزقة وقاسية أيضًا حتى على زوجها، الذي راحت تدعوه في إحدى المناسبات بـ«الفلاح» أو تعلن مرّة بأنها ندمت سابقًا على حفظ عفتها له قبل خيانتها له.

وبسبب النهم الاستهلاكي الذي عرفته إلى الحدّ الذي وصفها فلوبير بالأرشيدوقة، ما انفكّت الديون تتهاطل عليها، التي تجاهلتها لفترة طويلة، غير حافلة بها، وكأنّها تقمّصت شخصية الأرشيدوقة بالفعل متناسية موقعها الحقيقي، مما تسبّب بحجز ممتلكاتها بعد أن رفع عليها أحدهم دعوى قضائية بايعاز من روليه؛ التاجر المرابي الذي تبدو شخصيته أقرب إلى شخصية شايلوك الذي عرفناه في تاجر البندقية، إذْ تلاعب هذا الأخير بها، ورفع عليها بدوره دعوى قضائية حتى تسدّد ديونها. وهنا تصحو إيما، فالشيء الذي يمدّها بالمعنى ويجعلها من مصاف السيدات الراقيات يضيع منها، ويتفاقم الوضع بعد الحجز على بيتها وكلً ما لديها، ليكون مآلها التشرّد، وهو وضع لم تستطيع تقبّله إلى أن قرّرت في يأس وضع حدٍ لحياتها.

وخلال مرضها بعد محاولة إقدامها على الانتحار يصف فلوبير المشهد الذي أقيم فيه طقس التناول بطريقة شاعرية، بعد أن قبلت تمثال المسيح كحبيبة تقبّل حبيبها وكأنّها أخيرًا قد عادت إلى طهرها، لكنه ينقلب إلى وصف أعضائها وهي تُمسح، وهي الأعضاء نفسها التي سخرّتها لعلاقاتها الغرامية التي سرعان ما صارت تفقد بريقها، في أسلوب مخيف تشعر فيه وكأنّ فلوبير ما هو غير قسّ يحمل ورقة وقلم ليسرد قصة راهبة متمرّدة، إذْ نقرأ عن القسّ وهو يقوم: «بالمسح على العينين اللتين غرب عنهما كل زهو دنيوي، ثم على طاقتي الأنف، اللتين كانتا تنشقان في نهم النسائم الحارة، وأريج الهوى، ثم على الفم الذي كان ينطق بالأكاذيب، الذي كان يقلّب شفتيه في غرور، ويصرخ في شبق، ثم على اليدين اللتين كانتا فيما مضى سريعتين إذا ما هرعتا لإرضاء شهواتها، واللتين لم تعودا تسيران». ولا شكّ أنّ هذه الفقرة كفيلة بأن تتلى كصلاة أو نص مقدّس في عظة يوم الأحد لنأخذ العبرة منها أكثر من أن تُدرج في رواية.

وإلى جانب ذلك، أود أن أضيف رأيًا، وهو أنّ الفكرة القائلة بتحرير فلوبير لشخصيته الرئيسية من الأحكام والتحيّزات المسبقة كما يخال البعض، تبدو غير دقيقة، فصحيح أنه استطاع تصويرها بواقعية، ونقل مشاعرها ومعاناتها إلى القارئ الذي سيتعاطف معها، إلّا إنه قسى عليها وهو يدفعها إلى أن تسلك مسلك المرأة الفاسقة والخبيرة في الجنس بطريقة لا تبدو أحيانًا مقنعة، فنحن نعجز عن فهم تحوّلها المرعب بالشكل الكافي رغم تقديمه أسبابًا أو أحداثًا لذلك، لكننا نقرأ كيف يعتقد زوجها شارل بأنّ تصرّفاتها نابعة من مرض عصبي، من غير أن نتوصّل إلى الجزم بحقيقة ظنّه، فهل هي كذلك حقًا أم أنّ السأم الذي تعانيه في القرية هو السبب الذي جعلها بهذا الشكل؟ أو ربّما بسبب نزواتها تلك وتعرّفها على رودولف؟ على أنّ فلوبير قد ذكر لنا منذ زواجها أنها «تحبذ أمورًا لا تستقيم مع الأخلاق»، مما يدعو إلى الاعتقاد في النهاية باستعدادها نفسيًا لمثل هذا الفجور، ولكلّ ما ذكرته رغم عفتها في البداية وطهرها.

رواية تصويرية

يرى البعض أنّ رواية مدام بوفاري رواية مزعجة تغرق في الملل، فأحداثها بطيئة بسبب الإسهاب في الوصف، ففلوبير إذن يهوى هذا الفنّ، لكن في أحيان كثيرة لم يقم هذا الأخير بالتفنّن فيه، فقط لأنه عنصر أساسي لن تقوم الرواية من دونه، أو أنّ به لمسة واقعية وجمالية، أو لغرض تجهيز قارئها للتوغّل في أجوائها، بل لأسباب أخرى، فمثلًا نحن نرى في أمكنة مختلفة كيف يصف لك مشهدًا ما من الطبيعة أو أثاثَ المنزل ويربطه بالحالة النفسية للشخصية الرئيسية، مثل أنّ هدوء الغرفة أو اضطرابها هو نفسه هدوء الشخصية أو اضطرابها. ثم إنه عندما يصف منزلًا لأحدهم أو مكانًا ما فهو يشير إلى حالته الطبقية، وحتى مظهر الأشخاص أنفسهم، كتلك العجوز التي حصلت على جائزة ممثّلة بخمسة وعشرين فرنكًا فقط مقابل العمل في الفلاحة لخمسة وخمسين سنة كاملة، فقد وصفها بأنها «تمثال حي لنصف قرن من العبودية» ومضى يصف مظهرها ولباسها كي ندرك شدّة فقرها وبؤسها، فهو يكتب: «ومن كميْ سترتها الحمراء، برزت يدان بدا مفاصلهما كالعقد، وقد غطتهما البثور والبشرة الخشنة من أثر غبار الأجران، والبوتاس...». 

وحين يتناول المكان الذي اعتادت إيما على اجتيازه للذهاب إلى منزل عشيقها رودولف، يصف كيف أنّ الطريق زلقة، والأرض محروثة إذْ تعيقها عن التقدّم، والريح التي تعبث بوشاحها وكأنّ الطبيعة تجسيد للخوف الذي يحاصرها من هذه العلاقة أو تهديد شبيه بتهديد سكان القرية إذا ما لمحوها، أو أن تعبّر هذه العوائق التي تجتازها إلى مقدار حبها له، أما حين نقرأ عنها وهي في الكنيسة، ملاذها الروحي لتخفيف شهوة قلبها، فسنجده وهو يصفها بأنها ما تنفكّ تحاول أن «تتشبّث بعفتها المتداعية، وبالعذراء والتماثيل والأضرحة وأي شيء». ونقرأ أيضًا وصفًا أخلاقيًا، فهو في أمكنة أخرى يضفي سمة أخلاقية على مظهر شعرها وجسدها وحتى صوتها الذي هو إشارة إلى غوايتها، وملابس رودولف التي فيها نزعة من الغرابة توحي بالتمرّد على العادات الاجتماعية.

إنّ المظهر إذن هو بوابة القارئ للتعمّق في الشخصيات وظروفها، ولعلنا نلاحظ أنّ الأدب الحديث يركّز على الوصف المشهدي بينما يركز الأدب المعاصر على الوصف النفسي، أما المكان فهو الرواية نفسها، ثم إنّ المكان في الأصل بزمنه وشخوصه هو الذي أوصل إيما إلى حالتها اليائسة بعد أن أرادت استبداله بآخر أكثر حداثة.

في الختام، بوسعنا أن نتساءل، إذا ما كانت مدام بوفاري قد استوعبت حجم خطئها، والسعادة الحقيقية التي عرفتها في حياتها السابقة، عندما حظيت بزوج محبّ، واعتُبرت سيدة وقورة لا يجرؤ أحد على الانتقاص منها، وهذا ما يبدو جليًا من كلامها مع زوجها عندما أقدمت على الانتحار، ففلوبير في هذه الرواية يحذّرنا من الانقياد خلف الأقدار التي هي أقدار غيرنا، ويوجّهنا إلى تقدير حياتنا رغم ما بها من عيوب أو بساطة. ففي النهاية أستطيع أن أتجرأ وأقول عن هذا العمل أنه عمل أخلاقي أكثر منه واقعي.


هامش: 

* إنّ التصرّف بثروة شارل يختلف عن ما نجده مع زوجته الأولى، فهذه الأخيرة كانت تجعل هذا الفعل شكلًا من أشكال الرقابة، مثل محاولة معرفة من يدفع له ومن لا يدفع من مرضاه على سبيل المثال، من غير أن تُعتبر القائمة على أمواله أما في حالة إيما فقد وكّلها بطريقة قانونية لمثل هذا الأمر بعد أن اقترحت عليه ذلك.


مصادر

  • مدام بوفاري، غوستاف فلوبير، ترجمة محمد مندور، دار تبارك للنشر والتوزيع، (لا ذِكر للطبعة، لكن من خلال وجود تاريخ لرقم إيداع الكتاب، فعلى الأغلب أنّ هذه النسخة صدرت للمرة الأولى عام 2019).
  • رسام الحياة الحديثة، شارل بودلير، ترجمة قاسم المقداد، نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2019.