إنه يمثّل على نفسه، بعرض مستمر. عمله في السينما أثّر بعنف على خواء مستعد لتشرّب أيّ شيء قد يمنحه مبالاة الناس وإعجابهم.
دخان
قصة لمحمد درغام
نُشرت ضمن مجموعة "كاسكم يا شباب" عن دار عين حورس 2025

(1)
فقدتْ قبعة الرأس أمجادها وكذلك العصا والسيف والتبختر على ظهر فرس؛ بقيت للرجل ربطة العنق. والرأي القائل إنها تمثيل للعضو الذكرى يفرض وجاهته. لست أدري بخصوص البابيون، قد يكون خصيتين ضالتين أو حلمتين منتصبين.
فالوضع الطبيعي لربطة عنق متسقة مع ذاتها هو على حامل واقف بجوار كلوت وسوتيان، بدءًا بسوق. سوق التجاري، حيث كنت أبيع في فرش مكون من لوح أبلكاش بطول مترين على عتبة محل مُقفل؛ كومتين من الكلوتات والسوتيانات بجنيهين ونصف. ثم أضفت ربطات العنق، كرافتات شياكة مسلفنة بثلاثين حِنجِل.
في الضحى أتحرك. أسايس النعاس، أترك قدميّ لشوارع وحارات حي العرب، أوتار مشدودة متقاطعة شطرنجيًا، مرايا مثقوبة متداخلة تقود خطواتي روبوتيًا. يرطم انتظامها رأسي المشوش وتنبّه روايح شيّ السمك في الأفران لاقتراب الظهر فأتخلى وأفيق بتدرّج. الحذر مع الضوايق، تحب تتويه المسرنمين خاصةً. المخدَرين لا.
وصول أول إلى كسرى. ومنه إلى حارة الباجوري وهى خط مستقيم نحو الفرش تتوقف في منتصفه زنبركاتي؛ لأنال مكافأة الوصول السريع اللطيف: مخانة ابو فاطنة، الموكلة بتشحيم تروس دماغي وتهيئتي لعيش اليوم.
نقرة في جدار حُفرت بالأظافر في الحجر، يُصعد إليها على ثلاث درجات مكسّرة. والجدار لبيت خشبي متهاوِ له باب عتيق بشُراعات مغبّرة مرقعة بصحف مصفرّة، تعلوه حدوة حصان ونجمة بحر متحجرة وكفوف مطبوعة بدماء الأضاحي.
تسَع أربعة كراس وطقطوقتين إضافة للنصبة. صاحب الغرزة شيخ ينادى بابو فاطنة. حركته وديعة مرتبة.. يطفو. نظيف حصيف له ذقن ناعم كالأطفال برأس صغير عليه دائمًا عمّة من لاسة حريرية زرقاء تحيط بطاقية بيضاء. وعينين لهما نظرة ذئب منفرد. كل ما في هذا الرجل ينقلني بسلاسة لمستوى من جلاء ذهني ملغز. هو يخدم بالمشاريب ويحضّر الجُوَز ويغير أحجارها. هذا الكبّرة، النهر الخالد، يخدمني بالجوزة. بل ويشفط ورائي أحيانًا. إن ناولته من أحجرتي ليصطبح يشير بلا. يكفيه استنشاق الدخان طيلة اليوم من الزبائن. إذا راقته تعميرة يسحب نفسًا واحدًا.
علمونا أول ارتيادنا للمخانات أن لا نضع ساقًا فوق ساق عندما نتناول الجوزة في أفواهنا باعتبارها وضعية تقلب البطن.
هذا هراء اجتماعي مزركش متوارث، فتنزيل الساق أمام قهوجي يخدم بالجوزة هو أدب.. أشياء من هذا القبيل.
مرّات أترك الفرش لدقائق، إن كانت الحركة ضعيفة، خاصة في شهر ينايم/ يناير؛ أقفز بكل خفة إلى حارة الباجوري، أحرق بضع أحجرة وبكل رشاقة أعود.
في ليلة ناعسة بنهايات ديسمبر، كنت قُدّام الفرش أتأرجح بالكرسي مستحلبًا من الراديو مع كوب شاي ثقيل حفلًا لشادية التي سطلتني بغنوة لم أسمعها من قبل اسمها أجمل سلام، ثم انقطعت عن صوت إذاعي منقبض يُنبئ عن تسونامي يجتاح جنوب آسيا. وأول مرة أسمع لفظة تسونامي. سألت نفسي ماذا عن طوفان، فظهر فجأة س، بقامته الأنبوبية التي يظُطّ معها ماشيًا مثل أستِك كلسون منفلت.
ميكانست في سينما الكروان والمدير قرر أن يكسي طاقمها بمظهر عصري موحد. الكرافتة عمود اليونيفورم المحترم. نحن رجال السيما، ممنوع البوس في ضَلمة السيما. المطلوب ست كرافتات مستوردة كعينات، بألوان كذا وأوصاف كذا. طيب، هات مصاري كمقدّم يا حبيبنا س. هات انت العيّنة أولًا. ماشي، غدًا ترى عيناتك.
صبح اليوم التالي قمت بنشاط، ركبت الميكروباص إلى حي الزهور، المتخاصم وجوديًا مع اسمه لكن ذاك موضوع آخر، مررت على اثنين من الشلة فأيقظتهما، ثانيهما هو ش الذي يسكن في عمارة قريبة من محل بقالة آل س والأخير الآن في ورديته النهارية. يعمل باجتهاد ليتزوج.
قبل أن يفهما شيئًا من مفاوضات ومساومات جرت أمامهما، كنت قد اقتنصت من س، المعروف ببخله، مئة جنيه صحيحة. قرش الحشيش بثمانين بلبل. خدمة الحجَر في أيّ مخانة بربع جنيه، فالخمسة جنيهات تخدم عشرين حجرًا. شفطناها، وأسئلتهما في عبّي تقرقر، وقت الظهيرة في مخانة العربي عصعوص في حي ناصر (الذي بناه لنا عبد الناصر، حيٌ ترسم عماراته كلمة ناصر من الجو). بعد التمام الباهي، انزلقنا إلى التجاري وحللت لهما الفزورة. قضينا نهارنا وليلتنا نكركر، ببقية القرش.
(2)
غيمت السماء بسحابة جسيمة قادمة من البحر لوّنت الجو بنصف رمادي ونصف أصفر مثل بيض مخفوق. فُتح الباب الأحفوري، الذي ظننته لا ينفتح. كنت أنهيت الشاي مع عشرة أحجرة وأتلكأ في القيام؛ ما دامت ستمطر فأيّ فرش يُفرش. لكن لأنقلع من هنا، لأتخلص من زبون أخرق أبخر الأنفاس يغمغم مع خياله عن فوارق ما بين الجمبري والشيكال. لاحت فتاة خمرية في عباءة سوداء، لها رواح شجرة بونسيان حمراء تنهكها الريح. غمزتْ لابو فاطنة بقلق تعكسه صفاوة بشرتها، قال لي: اطلع معها لتعطي أمها حقنة. قلت أنا؟ قال ومن غيرك.
ابو فاطنة يخرف أو مسطول؛ أنا لم أحقن أحدًا في حياتي. لم تصطبر الخمرية، بل وقفت على عتبة البيت تنفخ ضجرها بيني وبين السما التي انجَلت تُنقّط.
قالت اقفل الباب وراءك. صعدتْ حافية. وزنها المثقل بالأطايب يقرص خشب سلم المندرة تحت كعبيها، يا بونسيانة محملة بوردها البمبي، فيطبّل محتفلًا ويكتم ريق الشتا في الخارج خلف الباب. غُصتُ في العتمة خلفها كالقافز في حوض، لعلي أهوي على كنز ردفيها لكن السلم انتهى سريعًا بانعطافة إلى ستار خرز عسلي ثم صالة محندقة نظيفة مرتبة مطيّبة ببخور العود، تضيئها ترسينة متهاوية مفككة الأخشاب تنضح نشيش المطر. سبقتْني، كأني أعرف الطريق، إلى طرقة يُسمع فيها راديو خفيض بغنوة قديمة مبهمة، ثم غرفة نوم مواربة الباب وردية الحيطان.
غرفة "تأخذ فيها الروح حمامًا من الكسل معطرًا بالأسف والرغبة" بتعبير بودلير. انتبهتُ من لحظة حلم يقظتي على عينين مسرجتين في وجه أنثوي أنضر من الأولى وأنضج، وجه امرأة في جلباب منزلي تحرس- بسكين في يدها وشريط متصل من قشرة برتقالة- امرأة مليحة منطفئة في سريرها بركبة منثنية تسند رأسها بيد وفي يدها الأخرى الثمرة المقشرة، برتقال بدمه.
(3)
أيقظني ش بصفيره الحاد من الشارع. ثم أخبرني وبيده لفافة أن س يبحث عني منذ يومين وأخبر الطير في الهواء والسمك في الماء بشأن العربون الفادح الذي اقتنصته منه تحت تنويم مغناطيسي. تحرك ش لتفادي إشكال الحوار فاشترى المطلوب من سوق البالة، ست كرافتات. عند أحد المكوجية نظفها وكواها، وبقي عليَّ تغليفها.
فتح اللفافة بحرص جراحي وكأنما يبيعها لي قال: شوف.. حاجة بريمو. أطرقتُ إلى الكرافتات المستهلَكة البئيسة.. تخيُل مدير وموظفي سينما الكروان السياحية يتفحصون هذه الذيول الميتة عوضًا عن ارتدائها، ولا زين العشماوي يفعلها يا أخي؛ جعلنا ننفجر معًا في نوبة ضحك هستيرية. خاصةَ- نسيت ذكر هذا- أن ش أحد زملاء س في نفس السينما.
قال سينتهي الموضوع بشَكْلَة ولكمات، قلت لم لا.
في مساء اليوم نفسه جاءنا خبر مَثّل مشاركة إلهية في اللعبة بتمريرة حاسمة وجايزة بوشكاش لأفضل هدف: ابتلع س شريط بحاله من برشام كاليمبام. وبدلاً من رقاد لا عودة منه عاد صاحبنا إلى بيته وثبًا مثل كنجارو، سبح في طفح بلّاعة وهو ينشد وطني وطني وبطنطن واتباهى بك يا وطنطن، صعد فطرطر على المارة من البلكونة.
لم يقصد انتحارًا، هى فقط مشورة دنيئة من شقي أفسد منّا. ذريعتها غالبًا فتاة صدّته. لعزيزنا س مواقف شبيهة، أقل حدّة ولا تقل سخافة. خرجتْ إليه مرة فتاة ببيچامتها، من جيران المحل وزباينه، طلبت منه بيضتين، قال ها هما وأشار إلى خصيتيه. انصرمت المسكينة باشمئزاز، ردّت بابها وقالت لأمها: معندوش. ثم قبلت اعتذاره وندمه في اليوم التالي. إنه يمثّل على نفسه، بعرض مستمر. عمله في السينما أثّر بعنف على خواء مستعد لتشرّب أيّ شيء قد يمنحه مبالاة الناس وإعجابهم. كما أوقعته شخصية الليمبي لأذنيه تحت تأثير مثال افتراضي ملحّ على ذهنه: صورة الشخص صاحب النوادر. ذاك مرَض، يورّث ويُلتقَط بالعدوى، يلد ويبيض.
وبحق الرب أبدع صانع ألعاب ويحب الأهداف الذاتية لأنها تضحكه؛ من ذا الذي قد يشغل باله بالفارق والشتان بين الجمبري والشيكال..
(4)
تحت غيوم بقطرات رذاذ لا صوت لها تنسكب من المطبخ للحارة ضحكات متقصّعة بأطباق على أكواب، لمحتني الصغرى فدخلتْ وشدت خيطًا فانفتح الباب.
راح عن الصالة شذا العود وتبدّلت، عن رائحة البيت الطبيعية. من غرفة حلم يقظة بودلير هلّت مشرقة، بأصباغ وحليّ وقميص مزعفر يفصح عن ثديين عامرين، من تحته عاريين، وعقد من اللولي. الكهلة المرحة البضة منبع سحر ابنتيها. جلست بقربي، أمام طاولة الصالة، قبالة ترسينة مفتوحة ينفث خشبها المبتل بالعطَن عُرْف المطر. دخلتْ بعدها ذات العينين الوضّائتين وضعتْ أمامي فنجان قهوة يفوح بروح العنبر وهى ترمقني بنظرة قطة برية تجوس في غابتها تريد اللعب، مرّت كالحرير من ستار الخرز ثم قعدتْ على بسطة السلم، شعرتُ بها.
بمنحنى السُفرة البيضاوية أسندتْ مرفقًا مَلَكيًا يصلصل بالغوايش الذهب. تكلمتْ عن العمل والزواج. لعلها تلمّح لبنتها البطة البونسيانة. لكن عينيها الناعستين، في عشب مبتلّ، تقولان شيئًا آخر. قلت إنني فقير. قالت تقعد على البساط وتختار ست البنات. قلت موافق، البساط أمتع من السرير أقله يطير. ضحكت بدلال. إنها تدعوني إليها. اقتربتْ بدفع البسمة، تلقاء وجهي. دهمني توَهُج لفح كياني مع فوح نفّاذ عبَّق الهوا لم أعرف أهى مصدره أم القطة على السلم، مددتُ كفّي تحت المفرش فعصرتُ فخذها الذي انتظرني عاريًا منفرجًا، بسطتْ يدها على يدي بغرز الأظافر تقودها وأبرقَت بآهة كاوية وخدَش رأسي السؤال: كيف تبوسها يا فنان وليس في فمها أسنان؟
سمعنا حركة. ارتفعت اليد اللحيمة عن يدي بتدرّج مع دخول الصغرى تسحب شيخًا هرمًا وحشيّ التكوين من مرفقه الهش. خَفّت مسكتي ثم انفصلتْ، عن الفخذ المنصهر الذي ابترد سريعًا وهرب مضمومًا على نفسه. أنهيت قهوتي رشفة واحدة. أجلسَتْه بعناية، يوشك أن يتهشم كالفخار، بين وسائد أريكة في نور النهار، ثم خرجتْ. وساد سكوت.
يلبس أسمالًا، مع برد طوبة. قعد منتصب الظهر، قبضتيه على ركبتيه الضامرتين. ترقوته الناتئة كالشارة، تكاد تطفر عن قفص صدره. فكاه بارزان ومن تحت الأذنين والفودين مدرّعان جنبًا إلى الثاني بقناع من صفيح مرقّع. يعتمر طاقية بحرية شرّاقي سوداء. عيناه مقتفَلتان بدغلين من أهداب متحجرة، ويدير رأسه الثقيل بندوليًا بيني وبين الأم كأنه يرمقنا بالتبادل. أسمع تزييق فقرات رقبته. بلعتُ ريقي. عقدتْ ذراعيها على صدرها وقالت برزانة:
- جدّنا.
- وكم عمره؟
- تلتمية.
(5)
في ظل الليل. وتحت أعمدة المغنسيوم البرتقالية. على بساط الأسفلت الممطور بنوة عيد الميلاد انزلقنا ثلاثة أو أربعة من حى ناصر إلى مستشفى ناصر.
وقت متأخر لزيارة مريض. لكن ورقة بخمسة أرضت حارس البوابة، شرط دخول شخص واحد.
في عنبر متواضع، كان هاجعًا متكورًا تحت البطانية في أحد الأسِرة.
س أيها المشموم، لا عليك. الكيوف أقوى حقائق. وأنا لديّ خواء مريع، لكنه يعيد إنتاج الصور. لا تهم الكيفية، أو المبررات. ما يهم هو جودة الصورة.
وضعتُ كيس الكرافتات الست بجوار رأسه، وخرجت.
* يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بقصته دون إذن منه