دارت عينا الشرطي بسرعة على كامل أنحاء جسمي في رسمية وصلابة. فهمتُ أنه يبحث عن كدمات أو جروح قطعية، لكنها كانت كلها راكدة تحت الجلد. ولم أكن أريد أن يقلب فيها الغرباء بأصابعهم.
خراف بشرية
قصة لكِنزابرو أُويه
ترجمة: ميسرة عفيفي
(مجلة التيار الجديد "شينتشو" عدد فبراير من عام 1958)
كِنزابرو أُويه: أديب ياباني وُلد في 31 يناير 1935 وتوفي في 3 مارس 2023. حصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1994 ليكون ثاني أديب ياباني يحصل على الجائزة بعد ياسوناري كاواباتا الذي حصل عليها عام 1968. بدأت شهرته وهو ما زال طالبًا جامعيًا حيث حصل على جائزة أكوتاجاوا العريقة عام 1958 وهو في الثالثة والعشرين من عمره ليكون أصغر من حصل عليها وقتها ولوقت طويل بعدها. نُشرت هذه القصة ضمن أول مجموعة قصص قصيرة في عام 1958 بعنوان "غرور الموتى" وتعد من بدايات أعماله الأدبية.
كان ذلك في بداية الشتاء، وقفتُ على الرصيف في وقت متأخر من الليل، تلمس شحمة أذني وخدي حبات الضباب وكأنها دقيق صلب. أضع في جيب المعطف قاموس اللغة الفرنسية للمبتدئين الذي استخدمته في الدرس المنزلي الخصوصي، وانتظر اقتراب آخر أوتوبيس يذهب للضواحي مهتزًا وكأنه سفينة تمخر في عباب الضباب وأنا منكفئ على نفسي من البرودة.
كان في عنق قاطعة التذاكر المتين بثرة وردية أنثوية حنونة تشبه فرج أرنب. أشارت لي على ركن المقعد الخلفي الخالي في مؤخرة الأوتوبيس. وأثناء ذهابي إليه تعثرت بعد أن دهستُ بحذائي طرف معطف مطر متدلٍ لشاب يبدو أنه مدرس يفرد فوق ركبتيه دفتر إجابات تلاميذ مدرسة ابتدائية. كنتُ في منتهى الإرهاق والنعاس ويصعب عليَّ المحافظة على توازن مستقر لجسمي. انحنيتُ انحناءة غامضة، وجلست في المساحة الضيقة من المقعد الخلفي الذي يشغله جنود أجانب سكارى عائدون إلى معسكرهم في الضواحي. لمست فخذي مؤخرةُ سمينة وصلبة لأحدهم. ارتخى جلد وجهي في هواء الأوتوبيس الدافئ الرطب وامتزج مع اطمئنان هش ومرهَق. تثاءبتُ تثاؤبًا صغيرًا فسالت دموع بيضاء كأنها إفرازات خنفساء.
كان الجنود الأجانب الذين ضيّقوا المكان عليّ في ركن المقعد، في منتهى المرح بسبب شربهم للخمر. كانوا جميعًا تقريبًا صغار السن بعيون واسعة تشبه عيون البقر وجبهاتهم قصيرة. ويُجلس جندي بقميص بني مصفر يغلقه على عنقه الحمراء الغليظة ذات الدهن، يُجلس امرأة قصيرة القامة كبيرة الوجه على ركبته، وفي أذنها التي بلا بريق مثل قطعة من الخشب، يهمس بحماس وسط سخرية باقي الجنود.
وكانت المرأة الثملة كذلك تهز رأسها وتحرك كتفها وهي منزعجة من شفتي الجندي المنتفختين الرطبتين. وعندما رأى الجنود الآخرون ذلك ضجوا ضاحكين وكأن الجنون قد اندفع في دمائهم. أمّا الركاب اليابانيون فجلسوا على المقاعد الطويلة المحاذية للنوافذ على الجانبين يشيحون أعينهم عن الجنود وضجيجهم. وكانت الفتاة التي فوق ركبة الجندي الأجنبي في جدال معه. أسندتُ ظهري على مسند المقعد الصلد، ونكّستُ رأسي كيلا تصطدم بزجاج النافذة. تحرك الأوتوبيس فأغرقت البرودة الهواء داخله بالهدوء مجددًا. وانعزلتُ داخل نفسي ببطء.
ضحك الجنود فجأة بصوت حاد وصارخ، فنهضت الفتاة من فوق ركبة الجندي، وارتمت واقعة على كتفي وهي تمطرهم بالسباب واللعنات.
صرخت الفتاة باللغة اليابانية وجسمها الملظلظ يحتك بكتفي: "إنني فتاة شرقية! ماذا تفعل! يا لك من لحوح! يا لكم جميعًا من مستهترين!"
راقبني الجندي أنا والفتاة بملامح أقرب إلى التشوش فاتحًا ركبتيه الطويلتين الخاليتين حيث كانت الفتاة تجلس، تجاه جانبيه مثل القرود.
صرخت الفتاة تجاه الجنود الصامتين وهي تهز عنقها بعنف قائلة: "يا لكم من حيوانات! ماذا تفعلون بي على مرأى من الناس؟ ماذا تفعل في رأسي أيها القذر؟"
أشاحت قاطعة التذاكر وجهها بعيدًا بعضلات خدٍ متشنجة.
صرخت الفتاة بإلحاح: "إن أجسادكم العاريةَ كثيفةُ الشعر حتى ظهوركم. أنا أريد النوم مع هذا الولد".
حملق الركاب اليابانيون في مقدمة الأوتوبيس فيّ وفي الفتاة، الشاب الذي يرتدي معطفًا من الجلد، والرجل متوسط العمر الذي يبدو من مظهره أنه عامل بناء، والموظفون. انكمشتُ داخل نفسي، ورفعت ياقة معطف المطر وحاولت أن أرسل إلى المُدرّس ابتسامة الضحية، ابتسامة خفيفة وضعيفة، ولكن المُدرّس أعاد النظر لي بعينين تمتلئان بالانتقاد. ثم انتبهتُ إلى أن الجنود الأجانب بدأوا يركزون أنظارهم عليَّ وليس على الفتاة، سخن جسمي من الخجل والارتباك.
"أتسمعون! إنني أريد أن أنام مع هذا الولد!"
حاولتُ أن أتجنب جسد الفتاة وأقف، ولكن لفت الفتاة ذراعها الباردة الخشنة من الجفاف حول كتفي، فلم أستطع الابتعاد عنها. ثم كشفت الفتاة عن لثتها ذات اللون الأحمر الغامق، وهي تصرخ ناثرة فقاقيع صغيرة من لعابها الذي تفوح منه رائحة الخمر على سطح وجهي كله.
"اركبوا على مؤخرات البقر. أمّا أنا فمع هذا الولد! هكذا!"
وعندما رفعتُ خصري ودفعت ذراع الفتاة بعيدًا، مال الأوتوبيس ميلة عنيفة، لم يكن لدي سوى متسع قصير أتشبَّث فيه بمحور النافذة الجانبي لكي أتجنب الوقوع بجسمي. وكانت النتيجة أن انقلب جسد الفتاة وهي تضع يدها على كتفي كما هي، وتدحرجت على ظهرها في الأرض وهي تصرخ وترفرف بساقيها القصيرتين والرفيعتين. ورأيتُ القشعريرة التي ظهرت بسبب البرودة على فخذها الذي تحول لونه إلى لون أزرق مسود وقد انتفخ انتفاخًا غير طبيعي من فوق حزام تثبيت الجوارب، ولكنني لم أستطع فعل شيء. كان ذلك يشبه فرفرة مفاجئة لدجاجة عارية مبللة بالمياه وُضعت فوق لوح جزارة مبلّط.
أسرع أحد الجنود بالوقوف، وساعد الفتاة على النهوض. ثم نظر ذلك الجندي شزرًا نحوي وهو يسند كتف الفتاة التي تتأوه وهي تعض على شفتيها المتصلبتين من البرودة وقد شحب لونه وجهها بسرعة مفاجئة. بحثت عن كلمات اعتذار، ولكن تلك الكلمات التصقت بحلقي ولم تخرج في ظل حملقة عيون الجنود الأجانب العديدة نحوي. هززتُ رأسي وحاولت أن أستقر بخصري على المقعد. ولكن أمسكت ذراعا الجندي بكتفي بصرامة ورفعته لأعلى. لوحت جسمي فرأيتُ عيني الجندي الكستنائية تنطلق بالغضب والبريق الذي يشبه الألعاب النارية الصغيرة بسبب السُكْر.
صرخ الجندي الأجنبي بشيء ما. ولكنني لم أستطع فهم الهجوم الكاسح لتلك الكلمات الرهيبة الممتلئة باصطكاك أسنانه. صمت الجندي لحظة وحدّق فيَّ ثم صرخ بنبرة أعنف.
بلغ بي الارتباك منتهاه، وكنتُ أراقب انتفاخ جلد حنجرة الجندي الأجنبي المفاجئ وحركة اهتزاز عنقه القوي المتين. ولم أستطع فهم كلمة واحدة مما يقول!
زعق الجندي وهو يمسك بتلابيبي ويهزني بعنف، فتحمّلتُ الألم الناتج عن ضغط ياقة الزي المدرسي على جلد عنقي. استمر الجندي الأجنبي يصرخ كالمجنون وهو ينثر رذاذ لعابه الصغير على كامل وجهي الذي يهتز متجهًا لأعلى، بدون أن أستطيع دفع ذراعيه التي ينبت عليهما بكثافة شديدة شعر خشن ذهبي اللون. ثم أطلق سراحي فجأة دافعًا إيّاي بقوة فوقعتُ على المقعد الخلفي واصطدمت رأسي بزجاج النافذة. ثم انكمشتُ بهذا الحال وكأنني حيوان ضعيف.
صرخ الجندي الأجنبي وكأنه يصدر أوامره، فهدأت الضجة بسرعة مفاجئة وملأ المكان صوت دوران محرك الأوتوبيس فقط. وعندما التفتُّ بعيني للخلف وأنا منبطح كما أنا، رأيت الجندي الشاب يقبض بحزم في يده اليمنى على سكين يلمع ببريق لا يلين. أقمتُ جسمي ببطء، واعتدلت بوجهي ناحية الجندي الأجنبي الذي يحرك سلاحه حركات موجية صغيرة عند الخصر، وناحية الفتاة التي تصلب وجهها الواهن الفقير بجانبه. كان الركاب اليابانيون الآخرون، وباقي الجنود الأجانب يراقبوننا في صمت عميق.
كرر الجندي الأجنبي ببطء كلماته مقطّعًا إياها إلى مقاطع قصيرة، ولكنني لم أستطع إلا سماع صوت غليان الدم في أذني. هززتُ له رأسي. فتعكّر مزاج الجندي الأجنبي وكرر كلامه مرة أخرى بنطق واضح وضوحًا مفرطًا في صلابته، وارتج قلبي برعب عنيف عندما فهمتُ معنى كلماته. استدر للخلف! للخلف دُر! لم يكن بيدي حيلة! أطعتُ أمر الجندي الأجنبي واستدرتُ للخلف. يقبع الضباب على الناحية الأخرى من نافذة الأوتوبيس الخلفية الواسعة وكأنه آثار طائرة، وينساب خفّاقًا كأن ثمة من يُهيجه. يصرخ الجندي الأجنبي بصوت حاسم ولكنني لا أفهم معنى كلماته. كلما كرر الجندي صراخه هذا الذي يعطي إحساسًا بالابتذال والخلاعة، انفجر الجنود الأجانب المحيطون بي في ضحك عنيف وكأن ذبحة قد أصابتهم.
لويتُ عنقي فقط للخلف ونظرتُ إلى الجندي الأجنبي والفتاة. بدأت الفتاة تعود ملامحها إلى الحيوية والخلاعة. ثم أظهر الجندي الأجنبي حركة تهديدية من جسده مبالغ فيها، وصرخ بما يعن له من صراخ كطفل هائج. شعرت بالذهول من أن شعور الرعب يبرد تدريجيًّا، ولكن لم يصلني ماذا يعني الجندي الأجنبي. هززتُ رأسي ببطء وأشحتُ بصري عنه. قلتُ لنفسي وأنا أتأمل الضباب المتدفق على الجانب الآخر من زجاج النافذة: على الأرجح أنه يمزح مزاحًا سيئًا، لا أعرف كيف أتصرف معه، ولكنه على الأقل ليس خطرًا بالتأكيد. من الأفضل البقاء واقفًا هكذا، فإن فعلتُ ذلك فمن المؤكد أنه سيطلق سراحي.
ولكن قبض ذراع الجندي الأجنبي المتين على كتفي بحزم، ثم نزع مني المعطف وكأنه يسلخ جلد حيوان. ولم أستطع أن أفعل شيئًا تجاه الجنود الأجانب الذي يضعون جميعًا أذرعتهم على جسمي وهم يصرخون ضاحكين. ثم أرخوا حزام البنطلون وأنزلوه بعنف هو وما تحته من ملابس. فرّجتُ كلتا ركبتي للخارج لكي أسند البنطلون من السقوط، وكلا معصمي منجذب على الجانبين، وذراع متين تضغط على عنقي. انحنيتُ بظهري للأمام مثل حيوان يمشي على أربع، وطأطأتُ رأسي ومؤخرتي العارية مكشوفة أمام أصوات الجنود الأجانب الصاخبة. لويت جسمي، لكن كان معصميّ ورقبتي مضغوطًا عليهم بصرامة، وفوق ذلك، ساقي مشتبكتان بالبنطلون مما قيّد حركتي تمامًا.
شعرتُ بالبرد في مؤخرتي. نشأت حبيبات القشعريرة في لحم مؤخرتي البارز أمام عيون الجنود، وشعرتُ أنها تتحول تدريجيًّا إلى لون أزرق رمادي. لمس حديد صلد عظام العصعص لمسة خفيفة، وكلما تحرك الأوتوبيس انتشرت رعشة ألم على كامل سطح ظهري. عرفتُ ملامح الجندي الشاب الذي يضع ظهر السكين هناك.
رأيت ذكري المتخدر بسبب البرودة أمام جبهتي الملتوية المضغوط عليها. شعرتُ بالارتباك ثم غرقتُ في خجل حارق. ثم كنتُ في حالة غضب، مثل الأطفال، غضب منفعل لا يمكن تحمّله. ولكن كلما التويت بجسمي محاولًا الفرار من ذراع الجندي الأجنبي كانت مؤخرتي فقط هي التي تتحرك حركات اهتزازية واهنة.
ثم بدأ الجنود الأجانب يغنون فجأة. وسريعًا سمعت أذني، على الجانب الآخر من صخبهم، ضحكات الركاب اليابانيين الهامسة المكبوتة. وقعتُ في حالة من الكآبة الشديدة والانسحاق النفسي التام. وعندما أرخت القوة القابضة على معصمي ورقبتي، كنتُ قد فقدتُ حتى القوة المعنوية لكي أعدل جسمي. ثم على جانبيّ أنفي يسيل دمعي اللزج شيئًا فشيء.
غنى الجنود مرارًا وتكرارًا أغنية بسيطة تشبه أغاني الأطفال. ثم، وعلى ما يبدو أن ذلك من أجل ضبط إيقاع الغناء، كانوا يطرقون وهم يضحكون طرقات منتظمة على مؤخرتي التي بدأت تفقد حاسة الشعور بسبب البرودة.
"اضرب الخراف، اضرب الخراف، طاخ، طاخ".
كرروا ذلك بحماس وهم يغنون بلغة أجنبية ذات لهجة محلية.
"اضرب الخراف، اضرب الخراف، طاخ، طاخ".
انتقل الجندي الذي يحمل السكين إلى الجزء الأمامي من الأوتوبيس. ثم ذهب عدد من الجنود الأجانب الآخرين، لمؤازرته. وهنا حدث ارتباك وخوف بين الركاب اليابانيين، فصرخ فيهم الجنود الأجانب. استمروا يصرخون لوقت طويل بقوة من يحمل سلطة مثل شرطي ينظم طابور. حتى أنا المنحني بظهري للأمام مبرزًا مؤخرتي فهمتُ سلوكهم الذي يفعلونه. وعندما قُبض على قفاي وعُدل اتجاهي للمقدمة، وجدتُ طابور "خراف" في ممر الأوتوبيس، انحنى الركاب بمؤخراتهم العارية، وباعدوا بين أقدامهم لكي يتحملوا اهتزاز الأوتوبيس. وكنتُ أنا "الخروف" الأخير الذي يتصل معهم في الطابور. وكان الجنود الأجانب يضجون بالغناء كالمجانين.
"اضرب الخراف، اضرب الخراف، طاخ، طاخ".
ثم كلما اهتز الأوتوبيس، تصطدم جبهتي بخشونة مع مؤخرة موظف تصلبت من البرودة، مؤخرة بُنيّة نحيفة بها بقعة جلدية أمام عيني مباشرة. ثم انحرف الأوتوبيس إلى اليسار وتوقف فجأة. مالت رأسي للأمام تجاه ربلة الموظف التي تصلبت عضلاتها ورُفع مُثبت الجورب لأعلى.
سمعت صوت انفتاح الباب بعجلة، وهربت قاطعة التذاكر جريًا داخل ضباب الليل المظلم وهي تصرخ صرخات عالية شفافة مثل الأطفال. سمعت وأنا على نفس انحنائي ابتعاد ذلك الصراخ الطفولي الحاد تدريجيًّا. ولم يتبعها أحد.
وضعت فتاة الجنود الأجانب يدها على ظهري وقالت بصوت خافت: "توقفوا عن ذلك!"
لويت عنقي مثل الكلاب ونظرتُ عاليًا تجاه الفتاة ذات الملامح المضجَرة، ثم طأطأت رأسي مرة أخرى وواصلت نفس وضعية باقي "الخراف" المصطفين أمامي. فبدأت الفتاة في حالة من اللا مبالاة تغني أغنية الجنود الأجانب بصوت صاخب.
"اضرب الخراف، اضرب الخراف، طاخ، طاخ".
وفي نهاية المطاف، خلع السائق قفازاته البيضاء، وأنزل بنطلونه بملامح وجه يائسة، وعرّى مؤخرته الكبيرة السمينة المدوّرة.
مرت السيارات بجوار الأوتوبيس لتتخطاه. وثمة بعض من مروا بدراجاتهم الهوائية وهم يختلسون النظر على نوافذ الأوتوبيس الزجاجية التي أعماها الضباب. فلم يكن هذا إلا مجرد وقت متأخر من ليل يوم شتاء معتاد. فقط، كانت مؤخراتنا العارية مكشوفة في هواء ذلك الليل البارد. وفي الواقع لقد بقينا على هذا الوضع لوقت طويل. ثم بعد أن تعب الجنود الأجانب من الغناء، اصطحبوا الفتاة ونزلوا من الأوتوبيس. وتركونا مؤخراتنا عارية في نفس وضعنا، مثلما تترك العاصفة الأشجار التي سقطت عارية. صلبنا قاماتنا ببطء. وصاحب ذلك جهد للتغلب على آلام الظهر والخصر. لتلك الدرجة كنا "خرافًا" على مدى وقت طويل.
رفعتُ بنطلوني وربطتُ حزامه وأنا أتأمل معطفي القديم الواقع على الأرض كحيوان صغير ملطخًا بالوحل. ثم التقطتُ المعطف بتكاسل، وبعد أن أسقطتُ عنه القاذورات، ارتديته وعدتُ إلى المقعد الخلفي للأوتوبيس منكّس الرأس. داخل البنطلون كانت مؤخرتي التي أُشبعت ضربًا ساخنة. كنتُ مرهقًا لدرجة الشعور بالضجر من مجرد ارتداء المعطف.
وكانت "الخراف" ترتعد أجسامها وهم يعضون على شفاههم التي شحب لونها ورؤوسهم مطأطأة. ثم كان الآخرون الذين لم يتحولوا إلى "خراف" يراقبون "الخراف" وهم يلمسون بأناملهم خدودهم التي على العكس توردت بالحمرة. وكان الجميع في صمت مطبق.
كان الموظف الذي جلس بجواري يزيل التراب عن أطراف بنطلونه. ثم مسح نظارته بأصابعه التي ترتعش رعشات عصبية. جلس أغلب "الخراف" مجتمعين في المقاعد الخلفية تقريبًا. ثم كان المُدرس ورفاقه، الذين لم يصيبهم ضرر مجتمعين في الجزء الأمامي من الأوتوبيس وينظرون إلينا بوجوه هائجة. كان السائق أيضًا يجلس معنا على المقاعد الخلفية. بقينا على هذا الحال فترة ننتظر في صمت. ولكن لم يحدث شيء. ولم تعد قاطعة التذاكر. ولم يكن بأيدينا شيء نفعله.
ثم ارتدى السائق القفازات، وعاد إلى مقعد القيادة، وانطلق الأوتوبيس، فعاد النشاط والحيوية إلى النصف الأمامي من الأوتوبيس. تبادل ركاب النصف الأمامي من الأوتوبيس وهم يحملقون تجاهنا نحن الضحايا، الحديث همسًا بصوت خافت. وانتبهتُ إلى أن المدرس بصفة خاصة يحملق فينا بعينين مفعمتين بالحرارة وشفتيه ترتعشان. غرقتُ في مقعدي أكثر، منكّسَ الرأس مغمض العينين لكي أهرب من عيونهم. وبدأت تنفجر كتلة من العار مثل براعم سموم خشنة في قاع عميق من جسمي كالصخرة دون أي اعتبار لمكان الانفجار.
نهض المدرس واقفًا، ومشى آتيًا إلى المقاعد الخلفية. ظللتُ منكّسًا رأسي لأسفل. استند المدرس بحزم على حلق النافذة الجانبي ثم انحنى وتحدث إلى الموظف.
قال المدرس بصوت حار ممتلئًا بالمشاعر: "إنهم يفعلون أفعالًا شنيعة!"
كان متحمسًا يتحدث بندية كأنه ممثلًا لآراء الناس الذين لم يتضرروا في النصف الأمامي من الأوتوبيس.
"إنه فعل لا يجب فعله تجاه البشر!"
ظل الموظف صامتًا منكّس الرأس يحملق في طرف معطف المدرس.
ثم قال المدرس بلطف: "أشعر بالخجل من سكوتي وأنا أرى ذلك الفعل. هل تشعر بألم؟"
تحركت حنجرة الموظف ذات اللون الشاحب. ثم بعد ذلك قال ما يلي:
"لن يؤلمني جسمي لمجرد تعرية مؤخرتي. هلا تركتني وشأني؟"
ولكن ظل الموظف يعض شفته بحزم.
فقال المدرس: "لا أفهم ما الذي جعلهم يتحمسون هكذا! فلا أعتقد أن الاستمتاع بمعاملة اليابانيين كالبهائم أمر طبيعي".
وقف أحد ركاب النصف الأمامي من الأوتوبيس الذي لم يتضرروا وجاء ليصطف بجانب المدرس، وكما هو متوقع أخذ يختلس النظر إلينا بعينين بهما حماس. ثم نهض الرجال من جميع المقاعد الأمامية مهتاجين وبوجوه متوردة ليصطفوا متجمعين بجوار المدرس وينظرون إلينا نحن "الخراف".
قال أحد الركاب: "هل يتكرر ذلك في هذا الأوتوبيس؟"
فأجاب المدرس: "لا أدري فلم تنشر الجرائد شيئًا. ولكن من المؤكد أنها ليست أول مرة. فقد بدا أنهم متمرسون".
تحدث رجل يبدو من عمّال إنشاء الطرق يلبس حذاءً متينًا، بصوت جاد وهو غاضب حقًا: "لو عرّوا مؤخرة امرأة لأمكنني فهم دوافعهم، لكن ما الذي يدفعهم لإنزال سراويل الرجال؟"
"إنهم حثالة البشر".
قال عامل الطرق: "هذا أمر لا يمكن التغاضي عنه! لو سكتنا سيتكرر ذلك ويغدو عادة لهم".
تحاور الركاب الواقفون بصوت عال مليء بالغضب وهم يحيطون بنا مثل كلاب صيد الأرانب التي تطارد الأرانب. ثم كنا نحن "الخراف" نجلس في صمت ناكسي الرؤوس تنصب علينا كلماتهم.
قال المدرس بصوت مرتفع ارتفاعًا ملحوظًا موجّهًا حديثه لنا وكأنه يخطب فينا: "يجب إبلاغ الشرطة! وبذلك ستُعرف على الفور القاعدة العسكرية التي يعمل فيها أولئك الجنود. وإذا لم تتحرك الشرطة أعتقد أن الضحايا يمكنهم التجمع والتأثير في الرأي العام. ومن المؤكد أن الأمر ظل في طي الكتمان ولم يظهر على السطح فقط لأن الضحايا السابقين سكتوا واستسلموا. ثمة أمثلة مختلفة على هذا".
حدثت ضجة قوية من الاتفاق حول المُدرّس من الركاب الذين لم يتضرروا. ولكن بقينا نحن صامتين منكسين رؤوسنا.
وضع المدرس راحة يده على عضد الموظف ثم قال بحيوية ونشاط: "لنبلغ الشرطة. سأكون شاهدًا".
كان يعبِّر بكل مكونات جسده عن تمثيله لإرادة باقي الركاب.
فقال آخر: "وأنا أيضًا سأشهد".
قال المدرس: "لنذهب! انهضوا! ولا تسكتوا هكذا كالبُكم".
لقد بتنا نحن "الخراف" بُكمًا بخرس مفاجئ. ولم يبذل أي منا جهدًا ليفتح فمه. كانت حنجرتي جافة وكأنني ظللتُ أغني لمدة طويلة، ويذوب الصوت فيها قبل ميلاده. ثم في أعمق قاع من جسمي تكتل العار الثقيل مثل معدن الرصاص، مما جعلني أخجل حتى من مجرد تحريك جسمي.
قال المدرس بغضب لنا نحن ناكسي الرؤوس: "أعتقد أنه لا يجب السكوت وتحمّل الأمر. لقد كانت رؤيتنا لذلك صامتين أمرًا سيئًا. كان يجب علينا عدم تقبل الوضع في ضعف".
وقال راكب آخر وهو يومئ مؤيدًا لكلام المدرس: "يجب علينا أن نلقنهم درسًا! نحن أيضًا ندعمكم!"
ولكن لم يتجاوب أحد من "الخراف" الجالسين مع تشجيعهم. كان الجميع صامتًا منكّس الرأس وكأن حائط شفاف يحجز صوتهم عنهم فلا يسمعونه.
"يجب على من تعرض للخزي، من تعرض للعار، الاتحاد!"
نظرتُ عاليًا تجاه المدرس وقد ارتعد جسمي من الغضب الشديد والمفاجئ، ارتبك "الخراف" ثم بعد ذلك وقف أحدهم كان منكمشًا على نفسه في الركن يرتدي معطفًا جلديًّا أحمر اللون، وذهب تجاه المدرس ليصطدم به مباشرة وهو يحتفظ كما هو بوجهه الشاحب المتصلب الملامح. أمسك الرجل بتلابيب المدرس وظل يحدق فيه ورذاذ بصاقه يخرج من بين شفتيه المفتوحتين فتحة ضيقة. ولكنه أيضًا لم يكن يستطيع النطق. كان المدرس قد أرخى ذراعيه بلا مقاومة وملامح الدهشة تملأ وجهه. والرجال حوله كذلك منعتهم الدهشة من النطق ولم يحاولوا أن يمنعوا الرجل. يئس الرجل من صب اللعنات والسباب على المدرس، ثم هز عنقه ولكم ذقن المدرس بعنف.
وعندما حاول الرجل أن ينقض على المدرس الذي سقط طريحًا على الأرض، حضنه الموظف ورجل آخر من "الخراف" من كتفه ليمنعوه، أرخى الرجل عضلات جسمه فجأة وعاد إلى مقعده منهكًا تمامًا. وعندما جلس الموظف ورفيقه في صمت، نكّس "الخراف" مرة أخرى رؤوسهم في هدوء تام وكأنهم حيوانات صغيرة تعبت تعبًا شديدًا. وصمت الركاب الواقفون كذلك صمتًا غامضًا وعادوا إلى المقاعد الأمامية. وبردت على الفور مشاعرهم الحماسية الملتهبة وبدا أن داخلهم نخالة خشنة سيئة المزاج تترسب. نهض المدرس المنبطح ثم نظر إلينا بعين حزينة نوعًا ما، ثم بعد ذلك نفض معطف المطر بعناية بالغة. ولم يعد إلى محاولة التحدث مع أحد، ولكنه كان من حين لآخر يلتفت إلى الخلف بوجهه الذي تبقى فيه نقاط من الحمرة لينظر إلينا. كنت أفكر أن محاولتي لإلهاء شعور الخزي والعار ولو قليلًا من خلال النظر إلى المدرس الذي ضُرب وطُرح أرضًا عملًا شنيعًا، ولكن كان جسدي مفرط الإرهاق لدرجة لا تسمح لتلك الفكرة أن تؤلمني بعمق. بالإضافة إلى برودة الجو. وأنا أسلم جسدي لاهتزازات الأوتوبيس الصغيرة الرتيبة، عضضتُ بصرامة على شفتي مقاومًا السقوط في النعاس.
توقف الأوتوبيس أمام محطة وقود عند مدخل المدينة، وهناك نزل جميع "الخراف" فيما عداي والموظف، ونزل ركاب آخرين. ولأن السائق لم يحاول استلام التذاكر من الركاب بديلًا عن قاطعة التذاكر فقد كوّر عدد من الركاب تذاكرهم الصغيرة الرقيقة وألقوا بها على مقعدها ثم نزلوا.
وعندما كان الأوتوبيس على وشك التحرك مرة أخرى، انتبهتُ إلى أن نظرات المدرس موجّهة تجاهي وتلاحقني بإلحاح، وقعتُ في حالة رعب خفيفة. وشعرت أن المدرس يريد بوضوح الحديث معي. ولم أعرف الطريقة المثلى للإفلات منه. أشحتُ وجهي عنه، ولويت جسمي وحاولت النظر إلى الخارج عبر زجاج النافذة الخلفية العريضة، لكنها كانت مغطاة تمامًا بحبات من الضباب، فكانت تعكس منظرًا باهتًا لما داخل الأوتوبيس كله وكأنها مرآة معتمة. وهناك رأيت وجه المدرس يحملق في بحماس كما هو متوقع، فهاجمتني مشاعر غضب لا تطاق.
وفي المحطة التالية نزلتُ من الأوتوبيس وأنا أجري تقريبًا. وعندما مررت بجوار المدرس كان يجب عليَّ لوي عنقي وكأنني أتفادى وباء خطير لكي أتخلص من نظراته المتشبثة بي وتلاحقني. كان الضباب متراكمًا فوق الرصيف وكان الهواء وكأنه ماء ذو كثافة خفيفة. رفعتُ ياقة المعطف حتى حلقي لتفادى البرودة، وودعت بنظراتي الأوتوبيس الذي ابتعد صانعًا زوبعة ضئيلة من الضباب، فنمت مشاعر اطمئنان بائسة. وبرز على مؤخرة الأوتوبيس البيضاء، الموظف وهو يمسح بقبضة يده الزجاج لكي ينظر إليَّ. شعرت باضطراب وكأنني أودع أحد أفراد أسرتي، رفيقي الذي تعرضت مؤخرته العارية لنفس الهواء. ولكنني خجلت من تلك العلاقة الحميمية الخسيسة، فأشحت نظري بعيدًا عن النافذة الزجاجية. كان يجب عليَّ أن أعيد إصلاح نفسي من أجل العودة إلى أمي وأخواتي الصغيرات اللائي يفترض أنهن ينتظرن عودتي في غرفة المعيشة الدافئة ببيتنا. قلتُ لنفسي: لا يجب أن يتعرفن على الخزي الكامن في أعماق جسدي. لففتُ المعطف الثقيل على جسمي بحزم مثل طفل يحمل قلبًا مشرقًا قرر الركض بلا معنى.
ولكن صوت مختبئ خلفي قال:
"انتظر يا هذا! اسمع! انتظر قليلًا".
أعاد ذلك الصوت مرة أخرى "الضرر" الكريه المنفر الذي كان على وشك الرحيل مبتعدًا عني بسرعة متزايدة، أعاده وجعله في مواجهتي مباشرة. تهدل كتفاي في تعب بالغ. وعرفت دون أن أحتاج إلى الالتفاف للخلف أن ذلك الصوت هو صوت المدرس صاحب معطف المطر.
كرر المدرس قوله تكرارًا مفرطًا بصوته الحنون: "انتظر أرجوك!" مظهرًا لسانه على شفتيه الجافتين من البرد ليرطبهما.
ملأني توقع أنه من الصعب أن أهرب من هذا الرجل، وانتظرت بلا حول ولا قوة بقية كلماته. ابتسم المدرس وجسده يفيض بشعور غريب من الرهبة احتواني تمامًا.
قال المدرس بانتباه عميق: "من المؤكد أنك لن تسكت عن هذا الأمر وتتجلّد لتتحمله، أليس كذلك؟ الباقين لا رجاء منهم ولكن من المؤكد أنت فقط ستقاتل ولن تنام على الضيم وتبكي".
"أقاتل؟" اندهشتُ ونظرتُ إلى وجه المدرس الذي يخفي مشاعر بدأت في الاشتعال مجددًا تحت الجلد الرقيق. كان الكلام نصفه مواساة ونصفه إجبار.
تقدم المدرس خطوة للأمام وقال: "سوف أتعاون معك في قتالك. سأقدم شهادتي في أي مكان".
هززتُ رأسي بغموض، ورفضتُ العرض، فانغرست ذراع المدرس الممتلئة بالتشجيع في إبطي الأيمن.
"لنذهب إلى الشرطة والإبلاغ عنهم. من الأفضل ألا نتأخر. وها هي نقطة الشرطة قريبة منّا".
ثم أضاف المدرس مبتسمًا جملة قصيرة وهو يمشي يجرجرني تقريبًا بإيقاع خطوات حاسمة وقد تحدى مقاومتي المترددة: "المكان هناك دافئ. منزلي الذي أقيم فيه موّقتًا ليس به أي نوع من أنواع التدفئة".
ومع المقاومة الغاضبة داخل قلبي عبرنا الرصيف مشتبكي الأذرع بما يبدو وكأننا صديقان حميمان، ودخلنا نقطة شرطة يعلوها إطار بارز لضوء ضيق داخل الضباب. كان في الداخل شرطي شاب ينحني على كراس ممتلئ بحروف كتابة غليظة. كان قفاه اليافع محمرًا من المدفأة الساخنة.
قال المدرس: "مساء الخير".
رفع الشرطي رأسه ونظر تجاهي. ارتبكتُ فوّجهتُ نظري إلى المدرس، فكان بدوره يحملق فيّ وهو واقف يسد الطريق أمامي مخافة أن أهرب. حوّل الشرطي عينيه الحمراوين الناعستين عني وثبّتهما على المدرس. ثم كانت عينا الشرطي الذي عادت لتنظر تجاهي متوترة بشدة. على ما يبدو أنه التقط إشارة من المدرس.
"ماذا؟"
حث الشرطي المدرسَ على الحديث وهو يحملق تجاهي.
"هل حدث شيء؟"
قال المدرس ببطء وكأنه يختبر رد فعله: "هذا الشاب ضحية مشكلة حدثت مع جنود المعسكر".
قال الشرطي بتوتر: "المعسكر؟"
"لقد تلقى هذا الرجل عنفًا من جنود أجانب".
دارت عينا الشرطي بسرعة على كامل أنحاء جسمي في رسمية وصلابة. فهمتُ أنه يبحث عن كدمات أو جروح قطعية، لكنها كانت كلها راكدة تحت الجلد. ولم أكن أريد أن يقلب فيها الغرباء بأصابعهم.
وقف الشرطي وكأنه غرق في القلق فجأة وقال: "انتظر من فضلك! لا قبل لي بذلك بمفردي. نريد أن نكون حذرين جدًا فيما يتعلق بمشاكل المعسكر".
ثم دخل الشرطي إلى عمق جزء مقسم بأعواد الخيزران، وهنا مد المدرس ذراعه ولمس كتفي.
"نحن أيضًا يجب أن نكون حذرين!"
نكّستُ رأسي والتزمتُ الصمت وأنا أشعر أن سخونة المدفأة تذيب جلد وجهي المتصلب من البرودة.
عاد الشرطي الشاب وخلفه شرطي متوسط العمر يبذل جهده للخروج من حالة النوم وهو يضع يديه على عينيه ويحكهما بشدة. ثم بعد التفت تجاهي وتجاه المدرس بعنقه التي تهدل عليها اللحم المرهق وحملق فينا ثم عرض علينا الجلوس على المقاعد. تجاهلته ولم أجلس. ولكن المدرس بعد أن جلس مرة، وقف متعجلًا وكأنه يراقبني. جلس الشرطيان فأعطى ذلك للمكان جو الاستجوابات.
قال الشرطي متوسط العمر: "هل تقول إن جنود المعسكر ضربوك؟"
قال المدرس وهو يسحب ذقنه الذي عليه آثار زرقاء وسوداء من ضرب الرجل ذي المعطف الجلدي: "كلا ليس ضربًا بل عنف أسوأ من الضرب".
فقال الشرطي متوسط العمر: "ما يعني هذا؟ ماذا تعني بقولك عنف؟"
حدّقت المدرس عينيه تجاهي مشجعًا، ولكني لم أتكلم.
"ماذا؟"
قال المدرس بنبرة قوية: "خلع الجنود الأجانب السكارى لهؤلاء الناس سراويلهم في الأوتوبيس. ... مؤخراتهم العارية".
سبّب الخزي لي رعشة وكأنني مصاب بنوبة من الحُمّى الشديدة. وقبضتُ على أصابعي الذي بدأت ترتعش داخل جيب معطفي.
ارتبك الشرطي الشاب فقال: "... مؤخراتهم العارية؟"
تأملني المدرس محتارًا.
"هل جرحوها مثلًا؟"
فقال المدرس بحزم: "ضربوها بأياديهم مرات عديدة".
تشنجت عضلات وجه الشرطي الشاب ليكتم ضحكاته.
قال الشرطي متوسط العمر وهو يحملق في وجهي بعيون ممتلئة بالفضول: "ما معنى هذا؟ أنكما لا تمزحان أليس كذلك؟"
"ماذا؟ نحن؟"
قاطع الشرطي متوسط العمر المدرس وقال: "حتى وإن ضربوا مؤخراتهم العارية، فلن يموتوا بسبب ذلك؟"
قال المدرس بعنف: "لن يموتوا. ولكن عرّوا مؤخراتهم داخل الأوتوبيس المزدحم وجعلوهم ينحنون كالكلاب!"
حتى وأنا منكّس الرأس وجسدي مشتعل بحرارة الخجل، أدركت أن نبرة كلام المدرس القوية استحوذت على الشرطيين.
قال الشرطي الشاب وكأنه يهدّئ المدرس: "هل كان ذلك بالتهديد؟"
فقال المدرس: "بسكين كبير".
قال الشرطي بنبرة صوت بدأت تختلط بالحرارة: "أخبرنا عمّا حدث بالتفصيل، أمتأكد أنهم جنود أجانب من المعسكر؟"
وهنا حكى المدرس ما حدث في الأوتوبيس بالتفصيل. وكنتُ أسمعه منكّس الرأس. شعرتُ وكأنني أُنزل مرة أخرى سروالي وملابسي الداخلية أمام عيون الشرطيين الممتلئة بالفضول الشديد، وانحنيت رافعًا مؤخرتي العارية لأعلى وقد برزت مسام بشرتها متكوّرة مثل جلد الدجاجة.
قال الشرطي متوسط العمر وقد كشف عن لثته الصفراء بضحكة فاحشة بدون حتى أن يبدي دهشته: "يا له من فعل شنيع! وقد شاهد باقي الركاب ذلك في صمت أليس كذلك؟"
عض المدرس على نواجذه وقال بصوت مبحوح وكأنه يئن: "إنني ... لم أشاهد ذلك بمشاعر هادئة".
حوّل الشرطي الشاب عينيه عني ونظر إلى المدرس قائلًا: "أنت مضروب في ذقنك!"
قال المدرس بمزاج متعكر: "كلا، هذا ليس من فعل الجنود الأجانب".
فقال الشرطي متوسط العمر: "لنسجل الأمر في بلاغ على أي حال. وبعد ذلك إن لم نتعامل مع مثل هذا الحادث بحرص سيكون مزعجًا جدًا".
قال المدرس: "ليست المشكلة مشكلة إزعاج أم لا، أليس كذلك؟ الأمر واضح أنه إهانة باستخدام العنف. ولا يمكن السكوت عنه وبلع الإهانة، أليس كذلك؟"
قاطع الشرطي متوسط العمر المدرس قائلًا: "لا أعلم التصنيف القانوني. قل لي اسمك وعنوانك؟"
فسأله المدرس: "أنا؟"
"قبلك أنت، الشخص نفسه التي وقع عليه الضرر".
اندهشتُ وهززت رأسي بعنف.
صنع الشرطي الشاب تجاعيد قصيرة في جبهته وقال: "ماذا؟"
قلتُ لنفسي: يجب أن أصر بكل ما أوتيت من قوة وعناد أن أخفي اسمي. تُرى لماذا أطعت المدرس ودخلت نقطة الشرطة! لو ظل الأمر على ما هو عليه الآن وتحقق ما يريده المدرس، بسبب ضعفي وانسحاقي من شدة التعب، سيذاع عاري وينتشر بين الناس.
أحاط المدرس ذراعه حول كتفي وقال: "قل اسمك وعنوانك. قدّم بلاغًا".
تفاديت بجسدي ذراع المدرس، ولكنني لم أدر كيف أشرح له أنني لا أرغب في تقديم بلاغ. أصابني خرس مفاجئ. عضضت على شفتي بصرامة وأنا أشعر بغثيان خفيف بسبب رائحة المدفأة، وتمنيت بغضب أن ينتهي كل ذلك سريعًا.
قال المدرس وكأنه غيّر رأيه: "إن هذا الطالب ليس هو الضحية الوحيدة. ولا ضير من الإبلاغ عن هذه الحادثة وجعلي أنا شاهدًا عليها، أليس كذلك".
فقال الشرطي متوسط العمر: "لا يمكن التعامل مع مثل هذه القصة الغامضة مع سكوت الشخص نفسه الذي وقع عليه الضرر. حتى الجرائد لن تسمع منك شيئًا. فهي ليست جريمة قتل أو جرح أحد. مجرد الضرب على مؤخرة عارية ثم الغناء".
أسرع الشرطي الشاب بإبعاد وجهه عني وكتم ضحكاته.
قال مدرس بغضب: "قل لي، ماذا حدث لك؟ لِمَ لا تتكلم؟"
حاولتُ أن أخرج من نقطة الشرطة وأنا مكنس الرأس كما أنا، فاستدار المدرس وثبّت قدميه قاطعًا الطريق عني.
وقال بصوت مُلِحّ وكأنه يستعطفني: "اسمع! ثمة حاجة لشخص يكون ضحية لتلك الحادثة. يبدو أنك تريد السكوت والنسيان، ولكنني أرجوك أن تتشجع وتؤدي دور الضحية. أرجوك كن الخروف الضحية".
(أكون خروفًا!) تصاعد غضبي وحنقي على المدرس ولكنه ظل يجتهد في محاولة النظر إلى أعماق عيني. ثم يُظهر على وجهه ملامح الخير في محاولة للتوسل إليَّ. مما دفعني إلى التشبث أكثر وأكثر بالصمت.
"صمتك هذا يُضعف موقفي. قل لي ماذا حدث؟"
نهض الشرطي متوسط العمر واقفًا وهو يحملق فينا، وكلانا ينظر شزرًا إلى الآخر في صمت وقال: "تعالا غدًا، بعد أن تتفقا معًا بوضوح. مع أنني لا أدري هل يمكن مقاضاة الجنود الأجانب على ذلك أم لا؟"
كاد المدرس أن يعترض على الشرطي بقول شيء، فوضع الشرطي راحتي يده الغليظتين على كتفي وكتف المدرس وقادنا للخارج وكأننا ضيفان عزيزان.
"غدًا لن يكون الوقت فات، أليس كذلك؟ وعندها نطلب منكما الاستعداد أكثر من ذلك".
فقال المدرس في عجلة: "إنني الليلة …".
فقاطعه الشرطي بصوت منفعل قليلًا: "لقد سمعتُ اليوم القصة كلها، بالإضافة إلى أن المتضرر المباشر ليس لديه النية بعد لتقديم شكوى، أليس كذلك؟"
خرجنا أنا والمدرس من نقطة الشرطة. أُحيط الضوء المنبعث من نقطة الشرطة بالضباب الذي بات كثيفًا ومغلفًا بالبريق.
قال المدرس بحسرة: "هل تنوي أن تسكت وتنام باكيًا؟"
دخلت في ظلام الليل البارد خارج سياج الضباب. كنتُ في منتهى التعب وكنت كذلك نعسانًا. على الأرجح أنني سأعود إلى بيتي، وأتناول في صمت عشاءً متأخرًا محاطًا بأخواتي الصغيرات وأنا ملتحفًا بالغطاء ومتكوّرًا على نفسي محاولًا حمل عاري داخل صدري، ثم على الأرجح سأتعافى في الصباح...
ولكن تتبعني المدرس دون أن يفارقني. أسرعتُ من خطواتي. فسمعت صوت حذاء المدرس الذي يحتوي على قوة يسرع من خلفي مباشرة. التفتُّ للخلف، وحدّق كلانا في وجه الآخر لفترة قصيرة. كانت عينا المدرس ساخنة في غضب. لمعت حبات الضباب العالقة على حاجبيه.
قال المدرس: "لِمَ التزمتَ الصمت في نقطة الشرطة؟ لِمَ لا تشتكي هؤلاء الجنود؟ هل ستستطيع نسيان الأمر؟"
أشحتُ بوجهي بعيدًا عن المدرس وبدأتُ السير بسرعة وأنا أنحني للأمام. وقررتُ قرارًا حاسمًا أن أتجاهل المدرس الذي يتبعني من الخلف. مشيتُ وأنا متصلب الوجه لا أحاول أن أبعد حبات الضباب الباردة عنه. كانت كل المحلات التجارية على جانبي الطريق المُعبّد قد أطفأت أنوارها وأغلقت أبوابها. في مدينة بلا أثر لبشر يتردد صدى أصوات حذائي وحذاء المدرس فقط الغارقين في الضباب. التفتُّ للخلف تجاه المدرس في عجلة وقت ابتعادي عن الطريق لكي أدخل الحارة الذي يقع فيه بيتي.
وكأنه كان في انتظار تلك الالتفاتة قال المدرس لي عندما التفتُ: "إن كنت تنوي الصمت وتُخفي عارك عن الجميع، فأنت أيضُا وضيع! إن هذا السلوك معناه الإذعان التام للجنود الأجانب".
أظهرتُ عدم وجود نية لدي لسماع كلمات المدرس وركضت تجاه الحارة، فأسرع المدرس من خطواته لاحقني من خلفي مباشرة. ربما كان ينوي الدخول حتى بيتي ومحاولة معرفة اسمي. نظرتُ بطرف عيني إلى أنوار مدخل بيتي المضاءة، وواصلت المشي مجتازًا له. ثم انعطفت في نهاية الحارة، وعدتُ إلى طريق الأسفلت مرة أخرى، تبعني المدرس مبطّئًا من خطواته أيضًا.
ثم وجه المدرس لي الحديث من خلفي قائلًا: "أرجوك قل لي اسمك وعنوانك فقط. وسوف أتصل أنا بك من أجل خطة القتال في المستقبل".
اجتاحتني ثورة من الغضب والحنق. ولكن ما الذي أستطيعه أنا! تبلل كتف معطفي من الضباب فثقل وزنه، ولمس قفاي في برودة. مشيت صامتًا وأنا أرتعش، وظللنا نمشي لمدة طويلة.
وعندما أتينا إلى مكان قريب من مركز المدينة الصخب، بدت عاهرات الطريق يتربصن في انتظارنا وكأنهن وحوش أطلت من الظلام وهي تمد رؤوسها. وطأتُ طريق السيارات لكي أتفادى العاهرات، ثم عبرت كما أنا للرصيف على الجهة الأخرى من طريق السيارات. كان الجو باردًا ولم أعد أستطيع السيطرة على انتفاخ مثانتي العنيف. وبعد أن احترت تبولت في ركن من حائط خرساني. تبول المدرس أيضًا بجواري وهو يناشدني:
"أرجوك! قل لي ولو اسمك فقط! نحن لا نستطيع أن نواري ما حدث التراب".
كانت عاهرات الطريق يراقبن أفعالنا عبر الضباب. أغلقتُ أزرار معطفي الثقيل، وبدأت طريق العودة صامتًا. وعندما سرنا أنا والمدرس كتفًا بكتف، ألقت العاهرة علينا كلمات خليعة موجزة. سرت قشعريرة برد في جسمي بسبب تألم الغشاء المخاطي لفتحي أنفي التي استثارتها برودة الضباب. كنتُ منسحقًا من التعب ومن البرد. تصلبت ربلتي وانتفخت قدماي داخل الحذاء فآلمتني.
كان يجب عليَّ رفض تلك الملاحقة اللامنطقية من خلال زجر المدرس أو ربما اللجوء إلى قوة الذراع. ولكنني كنتُ قد فقدت قدرتي على الكلام مثل الأبكم، وبلغ بي التعب منتهاه. كنتُ فقط أشعر بغضب يائس من المدرس الذي يواصل السير بجواري.
وعندما اقتربنا من الحارة الكائن فيها بيتي مجددًا، كان الوقت قد تأخر جدًا في الليل. واجتاحتني رغبة عارمة في أن أسقط في فراشي وأُسلم جسدي تمامًا للنوم. اجتزت الحارة ولكنني لم أعد أتحمل المشي مبتعدًا مسافة أبعد من ذلك. وفجأة نبعت داخلي مشاعر عاطفية جياشة سيطرت عليَّ تمامًا.
عضضتُ على شفتي ودفعتُ المدرس بعيدًا عني وهرعتُ فجأة أركض في الدروب الضيقة المظلمة. فنبحت الكلاب من خلف أسوار البيوت المصنوعة من الأشجار على الجانبين. واصلت الركض وأنا ألهث رافعًا ذقني لأعلى وتتسرب من حنجرتي أصوات كالصراخ. بدأ جنبي يؤلمني ولكنني واصلت الركض وأنا أضغط عليه بيدي.
ولكن عند منحنى الحارة الذي يلمع فيه الضباب تحت أضواء الطريق، مسكت ذراع متينة كتفي من الخلف. كان المدرس يلهث لهاثًا عنيفًا وهو يحاول أن يجذبني نحوه وكأنه يحتضنني. وكنتُ أنا أيضًا أخرج من فمي ومن فتحتي أنفي بخارًا أبيض يذوب في الضباب.
قلتُ لنفسي وأنا منهك من شدة التعب: على الأرجح أنني يجب عليَّ مواصلة المشي في برد هذه المدينة طوال هذه الليلة وهذا الرجل يلاحقني. ملأ ضعف ثقيل جسدي وانتشر من أعماقه حزن غاضب. استجمعت آخر قوة لدي وأبعدت ذراع المدرس عن كتفي. ولكن ظل المدرس شامخًا أمامي بجسده الكبير المتين، لا يتقبل إرادتي في الهروب. بلغتُ منتهى اليأس وأنا أتبادل التحديق معه. ولم أدر ماذا أفعل لكني أمنع ظهور الهزيمة والحزن على ملامحي.
أخرج المدرس صوتًا مبحوحًا وقال: "أنت تنوي إخفاء اسمك مهما حدث أليس كذلك؟"
ظللت صامتًا أستخدم كل قواي وإرادتي فقط من أجل التحديق في المدرس.
فقال المدرس بصوت يرتعش من شدة الانفعال العاطفي: "سوف أتعرف على اسمك رغمًا عنك" وفجأة سالت الدموع منهمرة من عينيه الممتلئين بالغضب. "وسوف أنشر اسمك وما تعرضتَ له من خزي وخجل على الملأ. ثم أجعلها وصمة عار لك أنت والجنود. ولن أتركك حتى أعرف اسمك".
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه