ما من مدير سلطوي أو موظف غير أمين قد أتيا إلى المكتب اليوم، لذا، فقد مر بسلام كما لو كان نزهة خفيفة بالنسبة للعديد من الموظفين.
العملة المسروقة
قصة لزاهد أحمد
ترجمة: آسر حريري
زاهد أحمد روائي وقاص من مواليد مدينة بونه (Pune) الواقعة شمالي جنوب الهند والتابعة لولاية ماهاراشترا. تخرج عام 2008 في مدرسة الاقتصاد بجامعة سافيتريباي فول بذات المدينة. يكتب بالإنجليزية. وله أكثر من خمسة أعمال أدبية منشورة، بين الرواية والنوفيلا والقصص القصيرة. من كتبه: أمل مجهول- خارج المدرسة- العملة المسروقة- وما وراء الثكنات، وهي روايته الأولى التي استعرض فيها، برؤية نقدية، صورًا من حياته وتجاربه الشخصية خلال نشأته في بيئة عسكرية لمدة سبعة عشر عامًا ثم تخرجه في مدرسة K. V. B.E.G. الثانوية العسكرية. وهي مدرسة تخدم أبناء أفراد مؤسسة مهندسي بومباي العسكرية. مؤخرًا، ولسبب غير معروف، توقف زاهد عن النشر. وغير اسمه إلى كيفين مليك. وأصبح يدير موقعًا إلكترونيًا يحمل اسم (Kevein Books and Reviews) مختص بمراجعة الكتب، وكتابة المقالات النقدية.
الهند، بلدي الحبيب، حصلت على استقلالها في 15 أغسطس عام 1947. مذهل! هل كنت قريبًا جدًا من تلك الأعوام التي لم يؤسس إبانها لأي شيء عظيم؟ لا في الدستور ولا في البنية التحتية! هنالك فقط، هذه الأنهار المتدفقة بالدماء على خطوط السكك الحديدية. لأن الهند كان عليها أن تواجه مخاطر الانقسام.
خلال أيام المدرسة، كنت طالبًا متفوقًا في التاريخ والجغرافيا. لذا، كان لدي تبجيل غريزي تجاه المقتنيات والمواقع التاريخية، وهو تبجيل تجذر بعمق داخل طبيعتي المهووسة بالاستحواذ.
كان هذا أحد أيام يناير الباردة. إبان الظهيرة. كنت أجلس باهتًا على مكتبي، أواجه شاشة حاسوب ثقيلة وقذرة، وما من عمل مهم كان متاحًا في دائرة اهتمامي.
تدار شركتنا عبر مقاول يجني أموالًا غير مشروعة، بينما ابنه هو صاحب الشركة.
دَخلتْ زميلة عملي، محاولةً المشي باستقامة وسط الحواف المدببة للأثاث. مكان عملنا ليس ساطعًا ولا قاتمًا للغاية. الأجواء فيه أشبه بشقة ستوديو من الفئة المتوسطة. تتدلى من السقف، في صف واحد، ثلاث مراوح صامتة. كانت قد أطفأتها منذ الصباح. ابتسمت لي بابتسامة عريضة، وجلست على مقعدها بارتياح. نظرت إليها بازدراء إذ لم تعجبني أبدًا ابتسامتها. لديها ابتسامة قبيحة.
استفسرَت:
"أين كوب شايِك؟"
رددتُ، متصنعًا نبرة ثقيلة، لأسخر منها قليلًا:
" لقد ابتلعته".
لففت طرفي سترتي المتدلية. وثبت ناظري على شاشة الحاسوب، باحثًا بلهفة، في إرث الإنسانية، عن قصائد جميلة. قربت نفسها من مقعدي. راقني هذا على الفور، ولكني خشيت من ردة فعل الآخرين، فنظرت حولي بعينين متقلصتين لأتأكد من مواقعهم. مدت يدها فجأة بجانب الشاشة والتقطت محفظتي. فانكمشتُ قليلًا في حرج بسيط. ما من شيء ملفت في محتويات المحفظة. كل ما تمكنت من استخراجه هو هذه القطعة النقدية. والتي مذ وصلتني، صرت اعتبرها تميمة حظي المالية.
سألت، وهي تركز عينيها الواسعتين علي:
"ما المميز بشأن تلك القطعة؟"
أجبتها بتعالٍ ظاهر:
"ألا يمكنكِ أن تري التاريخ المكتوب عليها؟"
مددت يدي واختطفت القطعة.
"انظري.. التاريخ.. لقد سُكت في عام 1950. أي قبل 62 عامًا تقريبًا. آنذاك، كان الكثير من مناضلي الحرية في الهند أحياء ونشطين".
كما هو متوقع، اختطفت القطعة من يدي. وإذ كنا في المكتب، لم أقدر على مجادلتها كطفل في مدرسة. ابتسمت بسعادة وراحت تهذي بمرح على مقعدها. في الواقع، لقد كانت مشدوهة وهي تحمل تلك القطعة النقدية الثقيلة في يدها، كما لو كانت قد عثرت بداخلها على إله أو طاقة كونية عظيمة. جلست متجهمًا، خائفًا من ألا تعيد لي تميمة حظي. تجاهلتها وبقيت هادئًا. بعد هذا، أفصحت فجأة، "سأحتفظ بهذه القطعة معي كهدية من جانبك".
" لا.. إنها قطعتي الجالبة للحظ.. بالأحرى، هي تميمتي، لا أستطيع أن أمنحكِ إياها".
" الآن، هي تخصني.. من الأفضل أن تنسى أمرها".
" يا إلهي.. عزيزتي، إنها غرض قيم بالنسبة لي، لم أتعرض للفقر أبدًا منذ اليوم الذي حصلت عليها فيه من رجل عجوز".
استطردت.
"عندما كنت أعمل نادلًا في فندق، منحني إياها رجل عجوز كبقشيش قيم. إنها شخصية للغاية، أعيديها لي، وسوف أجلب لكِ شيئًا لطيفًا، ربما كتاب، أو هدية أخرى".
انتحت جانبًا نحو مكانها، بدت غير معنية بإلحاحي. وكنت أمعن التفكير في طريقة لاستعادة القطعة بينما أؤنب نفسي على إبقاء محفظتي مفتوحة هكذا للمارة والزملاء. لقد احتفظت بهذه القطعة لما يزيد عن سبع سنوات. بطريقة ما، كان لدي شعور قوي بأنها تمدني بالحظ. تدريجيًا، كنت قد راكمت تبجيلًا كافيًا لأعتبرها مصدرًا للطاقة الإيجابية، حيث نهر الرفاه المالي الدائم سيتدفق إلى الأبد. الآن، وفي لحظة واحدة، هذه الفتاة الصغيرة القصيرة خربت كل هذا السعي المقدس. شعرتُ بالعجز.
بمرور اليوم، بدأ المساء الضبابي في بث تياراته الباردة داخل مكتبنا. دسست كلتا يدي في جيبي سترتي بينما كنت أفكر في طريقة لإقناعها. خارج المكتب، ازدادت فجأة زحمة المساء على طريق بومباي- بونه السريع. نفير أبواق السيارات وصخبها هيجا أعصاب الجميع بالداخل.
مديرة الموارد البشرية، وهي شابة مثلي، حدقت إلى المكان من حولها، كما لو كانت حارسة الشركة. خلف حجرتها الصغيرة في مكتب العمل، كانت الكابينات الثلاث الرئيسية الرحبة خاوية تمامًا. ما من مدير سلطوي أو موظف غير أمين قد أتيا إلى المكتب اليوم، لذا، فقد مر بسلام كما لو كان نزهة خفيفة بالنسبة للعديد من الموظفين.
قبل أن تتمكن من المغادرة ونسيان كل ما يتعلق بقطعتي النقدية، ركزت كل انتباهي عليها وقلت: "سيدتي، إن هذه القطعة تحوي طاقة خبيثة، وأي شخص وقعت في يديه، يواجه نزوات قدرية سيئة، مثلي تمامًا، فكما تعرفين! أنا يتيم. وأحيا حياة بائسة. أعيديها لي، وإلا، ستواجهين بعض الخطوب غير السعيدة، وغير المعتادة في حياتك".
"أوه ... الآن تقول كل هذه الأشياء السيئة عنها. ولكن. إنني لن أعيدها لك. أتفهمني؟"
شدت سحاب حقيبتها الكستنائية وغادرت المكان. فقدت القطعة في النهاية. انتهى اليوم، وحل المساء، وبعد محادثة دافئة مع مديرة الموارد البشرية، عدت إلى منزلي. باكتئاب، لم أخرج لتناول العشاء. شربت حليبًا ودخنت سيجارتين واحدة إثر الأخرى. بقيت طوال الليل متأرجحًا بين اليقظة والنعاس بسبب البرودة الشديدة. لا أستطيع أن أتذكر ما إذا كنت قد نمت أم لا. ولكن، عقلي كان منشغلًا. لقد كان في حداد على فقد تلك القطعة.
في اليوم التالي حضرت بفستان جميل، بدت فاتنة، وقد أضفت الإكسسوارات عليها مظهر نصف إلهة. على النقيض، كنت شاحبًا. وكانت عيناي تمنيان نفسيهما بعودة تميمة حظي. كانت تدندن وكانت تبدو سعيدة للغاية. أكانت عملتي سحرية إلى حد أن مظهرها تحول في ظرف ليلة! ومضة من الغيرة أجبرتني على التفكير في أن أيامها الطيبة قد بدأت. وأنني من سيحل به الخراب القادم.
لم أفصح عن فقداني لقطعتي النقدية لأي أحد. مرت عدة أيام حتى بدأ الهوس بها يتلاشى. استمرت صداقتنا ومغازلتنا، أصبحنا أقرب إلى بعضنا قليلًا، وفكرت عدة مرات في أن تكون لي.
بعد عدة أيام، توقفت عن الحضور إلى المكتب، وعندما هاتفتها لأسألها عن السبب، كاشفتني بمرارة أن زوجة أبيها وأبيها، مريضان للغاية، وقد دخلا المستشفى. حاولت أن أتعاطف معها عبر بعض الكلمات الشعرية الملهمة والثقيلة. أحست بتحسن، وراحة، وأنها أخف. بينما أحسست أنا أنها قد اعتادت على حياة حزينة ومنعزلة.
عندما عادت إلى المكتب بعد أسبوع، كانت شاحبة، حزينة وهزيلة. وجهها الممتلئ بدا مستنزفًا من الحيوية وآثار الحياة. كانت هادئة، وعندما ألقيت عليها بعض الجمل الحوارية الطريفة من الأفلام، ضحكت بنبرة هامدة. ذكرتها بقصة قدري السيء وبالمحن التي واجهتها، محاولًا كسب رضاها. لعلني أتمكن قريبًا من الفوز بها. لقد كنت مجرد وغد.
لقد صدمني أن أعرف أن أباها عجوز يبلغ من العمر ثمانين عامًا. بدا منطقيًا، في شيخوخته تلك، أن يكون في المستشفى. لم أعد أتعاطف معه بعد هذا. لقد ضحكتُ وجعلتها تضحك حين أخبرتها أن أباها كان رجلًا مجنونًا ليأتي بها إلى الأرض في عمر الستين. إذ قد أفصحت لي، ونادرًا ما يفعل النساء هذا، أنها بالكاد تبلغ العشرين من العمر. حتى زوجة أبيها، تلك التي تقبع في وحدة العناية المركزة، كانت في نفس عمر الأب.
بسبب زياراتها للمستشفى، خفضت حضورها للمكتب بشكل كبير. لاحقًا، لم تأتِ لعدة أيام. صرت قلقًا بشأن إمكانية استمرارها في الوظيفة. تحدثت إلى كلٍ من مديرة الموارد البشرية ومدير التقارير ليأخذوا في الحسبان ظروفها بشكل جدي. بغتة، اتصلت بي وأخبرتني أن زوجة أبيها قد توفيت وأن أيام أبيها في الدنيا معدودة. قلت لها إن عليها ألا تقلق من موت كبار السن، إذ إن عليهم أن يموتوا، كونهم مسنين بما فيه الكفاية. كانت طبيعية للغاية. بل فاجأني أنها لم تكن تصرخ أو تندب كبقية الفتيات. لأيام أخرى ممتدة، كنا ندردش عبر الهاتف، وغالبًا عبر الرسائل النصية. كنت قد أخبرتها أن تتصل بي في أي وقت تشعر فيه بالوحدة أو الاكتئاب.
في أمسية جميلة، عندما خرجت من الفندق بعد عشاء فاخر، أعلمتني، عبر رسالة نصية، أن والدها قد توفي. شعرت أن الأمر عادي بالنسبة لها.
في اليوم التالي، قابلتني في المكتب. كنا في وقت متأخر من الصباح. وكان عليها أن تتحدث مع مديرة الموارد البشرية قبل الانضمام إلينا. جلست إلى جوارها. قدمت لها كوب شاي. وبنية تحسين مزاجها، بدأت محادثة. كانت مكتئبة للغاية، وعيناها دامعتين تقريبًا.
"لا تقلقي كثيرًا، هذا جزء من الحياة. ستكون الأمور على ما يرام. فقط حافظي على إيمانك بنفسك"، قلت محاولًا النظر إلى عينيها.
بينما تحتسي الشاي بهدوء، قالت، " أنت تعلم أن أخي الأكبر قد ترك وظيفته بسبب مرضهما. واستلف مالًا على سبيل القرض من أجل علاجهم. لا أعرف ما الذي قد يحل تاليا. نحن محطمون وبؤساء".
"لا تقلقي... سوف يحظى بوظيفة قريبًا. وسوف تستمرين بالعمل هنا لتمدينه بالدعم اللازم".
"لا... هذا ليس متاحًا الآن. مديرة الموارد البشرية اتصلت بي بالأمس لتخبرني بإنهاء خدمتي. ولهذا جئت اليوم لأحصل على راتبي الضئيل عن الأيام التي عملتها".
"أوه.. لا، هذا سيء، سوف أساعدك في العثور على وظيفة".
قطع محادثتنا دخول مديرة الموارد البشرية. إنها صارمة مع الفتيات. إذ إنها تريد دائمًا أن تحظى بكل الاهتمام في الشركة. أكثر من مرة، فكرت بأنها عاهرة، سهلة المنال، وأن فرصة مضاجعتها ممكنة. لكنني لم أحاول أبدا أن أشتهيها.
جلستُ في مكاني. وبجانبي كان مقعدها. لم ألحظها حين غادرت المكتب.
وبينما كنت أحدق إلى مقعدها الخاوي، فكرت بهذه العملة اللعينة التي تعود لعام 1950، والتي جلبت لعائلتها سوء حظ بالغ، عدا أنها ما تزال لم تدرك هذا بعد. في حالة من الاندفاع، فكرت بأن أطلب منها أن تلقي بهذه العملة بعيدًا، هذا أنها لم تكن أبدًا هدية من أحد. بل عملة سرقتها عندما كنت نادلًا في حانة صغيرة. لقد كانت تجسدًا لأمرين: طبيعتي المهووسة بالسرقة، ورغبتي في الاحتفاظ بكل ما له صلة تاريخية. ولكني، عجزت عن إخبارها. إذ كان لا بد على أي حال، من أن تمرر لشخص أو لآخر.
في غضون شهر، فقدتُ وظيفتي وانتقلت إلى مدينة جديدة.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
* يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه