سأنتقل إلى بلد غريب،  وبالتالي سأفترق عن عائلتي. تساءلت في داخلي دومًا حول سبب فرقة الأشخاص عن بعضهم،  فيبدو أن تلك هي السنة المتبعة دائمًا،  لكن عند البعض تنقضي تلك الفرقة بزيارة في نهاية الأسبوع أو الشهر. فمتى ستنقضي فترتي؟ أم إنها ستصير كالفطام وتغير شكل علاقتي بعائلتي؟  

اليوتوبيا التي أبحث عنها

نص ليوحنا وليام

تم نشر تلك المقالة في كتاب "إيكنجي مريوط ...سيرة ضاحية" نصوص وحوارات في مارس 2022 من نتاج ورشة أمكنة للكاتب والشاعر علاء خالد.


تخبرني أمي دائما سواء بالهزار أو الجد: "إنت أحسن واحد في تضييع الوقت" أحيانًا نتشاجر بعد نطقها تلك الكلمة وأحيانًا أخرى نضحك إثرها. مع اقتراب ميعاد سفري إلى الخارج وكونه نقطة محورية في مستقبلي المجهول الملامح كصيدلي\كاتب. صارت تلك الجملة تتردد كثيرًا في ذهني مع الملاحظة الثانية التي ترددها أمي على مسمعي دائمًا وأكررها لنفسي من وقت لآخر: "إنت مش عارف إنت عايز إيه!" 

في أولى جولاتنا في الكينج، كان لهذين التعليقين أثرهما الأكبر في رحلتي. إن علاقتي بالكينج تمتد إلى الطفولة حين كنت أذهب في معسكرات الكنيسة أو كما تسمى "خلوات" إلى الكينج في الصيف لقضاء يومين أو ثلاثة في الفيلا التابعة للكنيسة. 

على الرغم من أن ضاحية مريوط تقع على بعد نصف ساعة أو 45 دقيقة على الأكثر من المدينة إلا أنني دائمًا ما كنت أشعر بالغربة عن عائلتي بمجرد ذهابي إلى هناك فكنت أعود بعد ذهابي بأقل من يوم، ولا أتذكر إنني قد تمكنت من أن أقضي مدة الخلوة كاملة حتى فترة الإعدادي حين صار لي أصدقاء يؤنسون غربتي. 

كان مر علي ما يقرب من ثلاثة أعوام بدون أن أذهب إلى الضاحية قبل زيارتي مع أصدقاء الورشة، وبمجرد أن وضعت حقيبتي في بيت "الجزويت" وبدأنا في التجوال وجدت نفسي لا إراديًا أتأخر في السير متأملًا الرمال. شعرت بأنه مع كل خطوة  يتضاءل حجمي حتى أستحيل إلى حبة مثل التي أخطو عليها.  

تخيلت بأنني داخل فقاعة ضخمة ألزمتني السكوت، وبقيت على هذا الوضع المترنح بين الصمت والكلام المقتضب مع الأصدقاء الذين تعجبوا من هدوئي المناقض لشخصيتي التي يعرفونها. وصلنا إلى الديزرت هوم حيث الجرافيتي المتنوع  لقاموس من ألطف الشتائم والتوعدات لمن يجرؤ على تخطي البوابة وسرحت أنا في "أحمد اللي بيحب شيماء". 

الجنين

اتجهنا في الجهة البحرية نحو السوق في محاولة للقاء أي شخص يرغب في التحدث معنا بدون من أن يخشى أننا أمن الدولة أو تجمعنا بالدولة أي صلة قرابة. مع اقترابنا من السوق ومرورنا بقهوة "الرجالة بس الستات لا"  وجدنا أحد المهاجرين السودانيين جالسًا في حانوته وبجواره جزار كانا أول من رغبا في التحدث معنا. كنت قد استحلت إلى جنين لا زال يكتشف المكان الذي سيولد به، لاعنًا في سري  أنني سأضيف للـ 110 مليون واحدًا يسعى لمساحة يتنفس بها. 

بدأت مرحلة الولادة في نقطة التقاء العالم الخارجي مع العالم الخاص للضاحية عند محطة القطار، وتحمس الأصدقاء لالتقاط عدة صور لليافطة والمحطة الخالية سوى من رجلين كانا مدخلي إلى عالم كينج مريوط. عرفت من الرجلين طقوس الحفاظ على حمل المرأة البدوية كثيرة الإجهاض.

طقوس الولادة

راقبت بطن أمي تنتفخ على مر الشهور حتى صارت أضخم  من رأسي التي كانت أكبر  حجمًا من جسدي. كنت أضع أذني على بطنها في محاولة للاستماع إلى الجنين الذي ينمو بداخلها،  متسائلًا بسذاجة إن كانوا "حيفتحوا بطن ماما عشان يطلعوا البيبي" بالإضافة إلى إلحاحي بـ "رخامة العيل الزنان"  بسؤال يدفع  الدورة الدموية نحو وجنتي أمي "هو العيال بتيجي ازاي؟" 

"بينه وبين الله عمار"

 حين كرر  الحج "سعودي" للمرة الألف خلال روايته لنا حكاية الشيخ الذي يمنع إجهاض المرأة البدوية، تلك الجملة التي كادت بأن تكون لازمة في حوارنا معه،  تذكرت يوم ولادة أختي.  أتى والدي ليصطحبني من الحضانة إلى المستشفى معلنًا لي في الطريق أنه صارت لي أختًا.

انبهرت برؤية أمي المجهدة وجوارها الحياة الجديدة التي كانت مخبأة في بطنها. مر الثمانون يومًا وأتذكر يوم معموديتها وأمي حاملة  إياها  تجحد الشيطان ووراءها باقي العائلة واقفة سعيدة بأختي التي أزعجوها من نومها كي يتم تغطيسها في الجرن. أعتقد أنه منذ تلك اللحظة وقد صار بيني وبين الله عمار بالتبعية لعائلتي التي جحدت الشيطان. 

استمر حديثنا معهما مدة قاربت الساعة، ثم تحركنا وقد انفجرت الفقاعة التي كنت بها، مخرجة طفلًا شغوفًا بما يراه. لاحظت البيوت ذات الأسوار المنخفضة مقابل مثيلاتها من الناحية الأخرى بأسوار شاهقة الارتفاع فانجذبت لهذا التناقض. 

مراهق

تمحورت معظم شجاراتي خلال فترة الإعدادي مع عائلتي حول كوني عنيدًا.  عندما أقرر شيئا في رأسي فلا بد من أن أنفذه حتى وإن صرت عند بلوغي مرادي غير راغب به.

انقسمنا في زيارتنا الثانية إلى مجموعات صغيرة من ثلاثة إلى أربعة أفراد. حددنا لكل مجموعة منطقة تسير بها وانطلقنا حيث ترشدنا أقدامنا وبداخلي حماس متأجج. عبرت القطار مع مجموعتي وجذبنا خلال سيرنا شكل المروحة المائية القديمة. اقتربنا منها ولاحظنا أطلال الحجارة المترامية حولها فخمنت أنها آثار بيت متهدم.

أيمن

لفت نظرنا شريط من الغسيل المنشور وأحد الأطفال الصغار يلعب بالكرة عنده. اقتربنا منه ففزع الطفل قليلًا ووقف في مكانه حتى  نادى علينا "أيمن" أحد البدو. عرفنا منه أن هذا المكان كان مصنعًا لرجل أرميني لدبغ الجلود، وهو من قام بعمل المروحة المائية وحمام سباحة استحال إلى حوض للنباتات الصحراوية حاليًا.

تحركنا وراءه في صف، ثم دخل الأصدقاء معه إلى بيته ليقابلوا الحجة "روز" إحدى المعمرات بالكينج وجدته. تأخرت عن المجموعة قليلًا حتى أتعرف على الطفل الذي كان مدخلنا إلى هذا البيت. لاعبته بالكرة قليلًا، وعرفت أن اسمه ياسين وعمره خمس سنوات. تجاذبنا أطراف الحديث حتى أتى إخوته وأولاد الأعمام ليتعرفوا على الغريب الواقف مع الصغير،  ثم لعبنا ألعابًا انقرضت عند أطفال المدينة كالبلي وإلقاء الكرة و "سبت حد" وغيرها. 

روز وجدتي لأبي

دخلت إلى غرفة بها سيدات مكشوفات الوجه كعكس توقعاتنا في حلقات الورشة قبل مجئينا للكينج، فدخلت لأسمع حكاية روز . كان لوقع اسم روز أثر خاص على أذني، فهي مصرية مئة بالمئة لكن لا اسمها أو شكلها يعكسان ذلك. تذكرت جدتي لأبي "سيرين" وعندما سمعتها تروي حكايتها بصوتها المنخفض وطريقتها السريعة في النطق، شعرت وكأنني أمام والدة أبي التي عايشتها حتى العشرين من عمري.

كان جلدها رقيقًا وملمس يد روز أعادني للحظة التي أمسكت بها في فراش موتها. كدت أدمع، لكنني تماسكت. أرتنا الوشوم التي بيديها وعند دقة الحسن في وجهها، مرددة أن الجيل الجديد لم يعد يرسم تلك الوشوم لأن الشيوخ أجمعت أنها "حرام"، وتركتنا نلتقط الصور معها بكل ود.

الانقسام

انقسمت مجموعتنا المكونة من أربعة أفراد إلى النصف فتحركت الصديقتان وراء أيمن بينما بقيت أنا مع الثالثة لنتبادل أطراف الحديث مع زوجة أيمن. أخذتنا في جولة إلى الساحة الخلفية التي يوجد بها الفرن المسكون "بالعفاريت" كما عرفت من أحمد الذي يرغب في أن يصير طيارًا.

 كنت كالطفل الذي اكتشف لتوه أن هناك أشخاصًا مثيرين للإهتمام غير والديه، فانطلقت أسأله في فضول عن كل ما كان يدور ببالي بدون فلترة. سألته عن عملهم حيث كان بداخلي تساؤل حول كيفية حصولهم على النقود. سأكتشف فيما بعد، أنه سيتم التعتيم دائمًا على إجابة هذا السؤال لأن الإجابة ستكون دومًا بين: "بنحرس أرض" أو "نسوق عربية" وأخيرًا "بنشتغل في كل حاجة".

غيرت دفة الحديث نحو التعليم، فأخبرني أن البنات يخرجن بمجرد تعلمهن القراءة والكتابة بينما الأولاد يستكملون إلى الكليات في أحيان كثيرة. أخبرني عن الحميمية العائلية التي يعيشون بها، فكلهم يقطنون بنفس البيت، وإن غادر أحدهم للعمل فهو يفضل الرجوع دائمًا للبقاء وسط عائلته.

"إحنا عايشين على طول مع بعض"

كان لوقع تلك الكلمة أثر عميق في داخلي. سأنتقل إلى بلد غريب، وبالتالي سأفترق عن عائلتي. تساءلت في داخلي دومًا حول سبب فرقة الأشخاص عن بعضهم،  فيبدو أن تلك هي السنة المتبعة دائمًا،  لكن عند البعض تنقضي تلك الفرقة بزيارة في نهاية الأسبوع أو الشهر. فمتى ستنقضي فترتي؟ أم إنها ستصير كالفطام وتغير شكل علاقتي بعائلتي؟  

رقية 

ودعنا عائلة روز ثم ذهبنا في إثر صديقتينا إلى البيت المجاور. استوقفني في الطريق نحوهما،"رقية" التي تعتبر مماثلة في العمر  لروز لكنها أكثر تحررًا وتمرًدا. استرعت انتباهي من اللحظة الأولى من جلستها على إحدى الصخور أمام بيتها مشعلة سيجارتها التي" تعدل المزاج زي الشاي" منفسة دخانها بشراهة.

ذكرتني خلال حديثنا معها، بجدتي لأمي والتي كان لتلقائيتها ومزاحها أثره الأكبر خلال نشأتي. كان لقاؤنا أشبه بلقاء أحباء خفاف الظل وكان مليء دومًا بنظرات توجس من أمي بسبب جرأة النكات المتبادلة في بعض الأحيان. كانت ضحكاتنا تجلجل في المنزل، ولعلي كنت أنتظر ذهابي إليها بشكل أسبوعي حتى نقضي تلك الساعات السعيدة التي ما زالت محفورة بذاكرتي حتى يومنا هذا. 

رحبت رقية بنا ببشاشة،  فاقتربنا منها ملقيين السلام عليها. أرتنا الوشوم المرسومة على يديها وعرفت منها أن واحدًا  لأبيها والذي يعلوه لحبيبها الذي لم تتزوجه لكنه ظل محتفظًا بلقب "حبيبي". أخبرتنا ضاحكة بأنها "مدوباهم تلاتة" فسمعت صوت جدتي يعقب: "ولية قادرة".

أسهبت في الحديث عن عدم حبها لأي رجل سوى الوحيد الذي لم تتزوجه ولم تذكر لنا اسمه على الرغم من محاولاتنا العديدة في معرفة اسمه، لدرجة أنني تخيلت لوهلة أنه لا وجود له. شعرت بأن هذا هو التعريف الحقيقي للتمرد على ما ليس لنا يد به، فمهما أرادوا أن يجبروها على شيء، فالقلب قراره أمضى من أي ظرف.

ثريا والحج رزق 

نشأت في أسرة مثالية كإعلانات تحديد النسل مكونة من: أب،  أم ،  ولد وبنت. تمنيت دومًا بأن تصير عائلتي أكبر حجمًا حتى أشعر بالعزوة التي أشاهدها في الأفلام.  تمنيت بأن يكون لي إخوة كثيرة حتى أشعر بأن مهما حدث لي سيكون لي ظهر غير أبي وأمي أو شخص ألجأ إليه دونهم.

التقينا بالحج "رزق العرايشي" الذي ولد في فلسطين وتزوج من الحاجة "ثريا" البدوية. تطل بوابتهما على ساحة فسيحة مليئة بأشجار البرتقال واليوسفي والزيتون وغيرها، ثم ثلاثة بيوت متمايزة في الحجم والفخامة لأبنائه. عزز مظهر تلك البيوت وعدد الزوجات والأطفال بداخلي الشعورة بالعزوة وتخيلت نفسي بعد عمر مديد محاط بأولادي وأحفادي في بيت كبير.

في الزيارة الأخيرة للمكان،  ذهبت إلى روز فتركت من كانا معي حتى تحاوراها بينما فضلت اللعب مع الأطفال، فالاستمتاع بالحياة كهؤلاء الأطفال في البراح هو أكثر ما سأفتقده. مررنا على رقية التي استقبلتنا وهي جالسة بجوار النباتات الزهرية اللون بدون سيجارتها فعرفت أنها ليست في مزاج رائق. 

عند وصولنا إلى الحج رزق، جلست على أحد المقاعد أراقب البط السائر في طابور أمامي والحمام الذي لا يكف عن الطيران كل دقيقة متذكرًا أن ليستة الفوبيات خاصتي تحتوي على الريش ومصادره المختلفة.  سألت نفسي في تلك اللحظة سؤاًلا كان ملخصًا لرحلتي ألا وهو: "هل غيرت تلك الجولات شيئًا بداخلي بالفعل؟ هل عدوى الجرأة والشجاعة انتقلت إلي من السيدات التي تحدثت معهم؟"

 يبدو أنني صرت متقبلًا لفكرة بأنني لن أصل أبدًا إلى المكان الذي أستطيع أن أدعوه منزلي الدائم حيث أنني سأظل دائمًا كما تقول أمي "مش عارف أنا عايز إيه" وبالتالي "هضيع وقت كتير".