عندما كان مراهقًا، تسلق برادبري جدران ستوديوهات باراماونت حرفيًا، وتم إخراجه منها فورًا. أما الآن فقد مُنح مكتبًا في يونيفرسال.
أنا هيرمان ميلفيل!
مقال سام ويلر
ترجمة: مصطفى زكي
سام ويلر هو كاتب حائز على جائزة برام ستوكر مرتين، وصاحب أكثر الكتب مبيعًا؛ السيرة ذاتية لراي برادبري. عمل مع برادبري لمدة 12 عامًا على كتاب "وقائع برادبري: حياة راي برادبري" (هاربربيرينال، 2006)، وكتاب "استمع إلى الأصداء: مقابلات راي برادبري" (دار هات آند بيرد، 2017).
نُشر المقال في موقع لوس أنجلوس ريفيو أوف بوكس، سبتمبر 2024.
قبل سبعين عامًا، وقف راي برادبري، الذي كان يبلغ من العمر حينها ثلاثة وثلاثين عامًا -مؤلف "السجلات المريخية" (1950)، "الرجل المصور" (1951)، و"فهرنهايت 451" (1953)- أمام مرآة في غرفة فندق بلندن وأعلن: "أنا... هيرمان ميلفيل!" كانت تلك محاولة يائسة لاستحضار روح الكاتب الأمريكي العظيم صاحب رواية "موبي ديك" (1851). بالنسبة لبرادبري، كان الخيار إما ذلك أو قبول الفشل الكامل.
اليوم، لا يعرف سوى قلة من الناس أن برادبري، كاتب الخيال العلمي الشهير، وكاتب الفانتازيا المحبوب، وأحد الأسماء البارزة في قوائم الكتب المحظورة، هو من كتب سيناريو الفيلم الذي أخرجه جون هيوستن عام 1956، والمُقتبس عن الرواية الكلاسيكية الشهيرة لهيرمان ميلفيل، والذي قام ببطولته جريجوري بيك في الدور الأيقوني للكابتن المهووس آهاب. كتابة السيناريو كانت بمثابة حلم تحقق لبرادبري، إلى أن تحولت إلى كابوس حقيقي. وكما يقول المثل القديم: لا تُقابل أبطالك أبدًا.
فكيف إذن تمكن كاتب معروف بابتكار شخصيات وعوالم غرائبية وساحرة، وسفن الفضاء المُزخرفة بتصاميم على طراز الآرت ديكو والتي تنطلق إلى المريخ، ومستقبل ديستوبي حيث تُعتبر الكتب غير قانونية، من المواءمة مع ما يُعتبر في الأغلب أعظم رواية أمريكية؟ إذا سألت راي برادبري، الذي توفي عام 2012، فسيخبرك أن الإجابة على هذا السؤال تكمُن في كلمة من أربعة أحرف: الحُب.
عملت مع برادبري لمدة 12 عامًا بصفتي كاتب سيرته الذاتية المُعتمد، وكان هذا من الموضوعات التي تحدثنا عنها كثيرًا. كان "الحُب" الذي تحدث عنه برادبري هو الحماس؛ وهو روحه الإبداعية التي تقوده. وكان كثيرًا ما يردد في سنوات حياته الأخيرة لأي شخص يطلب نصائح في الكتابة: "افعل ما تحب، وأحب ما تفعل"، ما كان يقصده هو أنه ينبغي عليك الكتابة عن الأمور التي تثير شغفك، والأفكار التي تقبض عليك من ياقة قميصك ولا تتركك.
كان راي برادبري، على مدار حياته، مثالًا للمُعجب النموذجي. كان متحمسًا بلا خجل: ويحب بشغف. لدرجة أنه، وهو بلا نقود في سن الثامنة عشر، سافر بالقطار من منزله في لوس أنجلوس إلى المؤتمر العالمي الأول للخيال العلمي، الذي عُقد في يوليو 1939 في مدينة نيويورك. لم يكن برادبري مجرد مُعجب بالخيال العلمي، بل كان يلتهم الثقافة الشعبية بشكل عام، وخاصة السينما. وفي أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، كان مخرج أفلامه المفضل بلا منازع هو جون هيوستن، المخرج الحائز على جائزة الأوسكار، ومخرج أفلام الصقر المالطي (1941)، وكنز سييرا مادري (1948)، وغابة الأسفلت (1950). قال لي برادبري في عام 2004: "كان يعرف كيف يجعل الممثلين يعيشون داخل جلد شخصياتهم، لذا لم تكن تشاهد ممثلين يمثلون، بل كنت تشاهد أشخاصًا يعيشون".
وحتى مع ترسيخ برادبري لاسمه كقوة أدبية حقيقية في منتصف أربعينيات القرن الماضي وأواخرها، من خلال نشر أعماله في مجلات هاربر، ونيويوركر، ومختارات أفضل القصص القصيرة في العام، لم يفقد صلته بروح الشغف الطفولي الذي كان يملأ قلبه. وكان هذا الحماس الجذل هو الذي قاده مباشرة إلى كتابة سيناريو فيلم موبي ديك (حيث أسقط الفيلم الكشيدة "-"، التي استخدمها ميلفيل بين الكلمتين في العنوان).
في عام 1946، وبموجب عقد كتابه الأول (مجموعة القصص القوطية؛ كرنفال الظلام، التي نُشرت عام 1947)، بدأ برادبري في الكتابة لعدد من البرامج الإذاعية الدرامية، أبرزها مسرح مولي الغامض، التشويق، والبُعد إكس. كان وكيله الأدبي الموهوب في ذلك الوقت هو راي ستارك، من وكالة هوليوود للفنانين المشهورين، والذي كانت تربطه علاقة وثيقة بجون هيوستن. في أوائل عام 1951، وبناءً على طلب برادبري، رتب ستارك لقاءً بين الرجلين. كان هيوستن دائمًا يبحث عن مواهب أدبية جديدة لكتابة سيناريوهات أفلامه، وغالبًا ما كان يميل إلى مُعالجة الكلاسيكيات الأدبية.
التقى برادبري وهيوستن في مطعم رومانوف الواقع في روديو درايف، وهو مكان فاخر في بيفرلي هيلز يعود تاريخه إلى منتصف القرن العشرين، ويرتاده نخبة هوليوود. هناك، عبّر برادبري، الذي لم يكن يخشى يومًا أن يُظهر مشاعره المليئة بالإعجاب بشكل علني، عن إعجابه بهيوستن وأعماله. بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ أعلن بجرأة لهيوستن أنه يؤمن بأنهما مُقدر لهما أن يعملا معًا. وكان قد أحضر معه في تلك الليلة نسخًا من كتبه؛ كرنفال الظلام، والسجلات المريخية، بالإضافة إلى نسخة ما قبل النشر من أحدث مجموعاته القصصية؛ الرجل المصور. ودفعها عبر الطاولة نحو هيوستن، قائلًا له: "إذا أحببت كتبي بمقدار نصف ما أحبك، فاتصل بي".
كان المشروع التالي لهيوستن هو فيلم الملكة الإفريقية (1951)، من بطولة همفري بوجارت وكاثرين هيبورن، وكان من المقرر أن يبدأ إنتاجه بين أوروبا وإفريقيا. بعد وقت قصير من اجتماعهما على العشاء، كتب رسالة إلى برادبري من لندن. قال فيها: "أعتقد أن كلمة مبهور بالكاد تفي بوصف ما أشعر به"، شاكرًا برادبري على كتبه. ثم استمر المخرج في مدح الكاتب الشاب على العديد من قصصه القصيرة، واختتم الرسالة بهذا التصريح: "لا يوجد شيء أفضّل القيام به أكثر من العمل معك على فيلم".
في سبتمبر 1951، نُشرت النسخة البريطانية من "السجلات المريخية". وأعيدت تسمية الكتاب إلى "الجراد الفضي" لقرّاء المملكة المتحدة، وهو استعارة تشير إلى سرب سفن الفضاء التي تغادر الأرض في طريقها لاستعمار المريخ. حظيت الرواية المُكونة من قصص مترابطة بإشادة كبيرة من الكاتب والناقد البارز كريستوفر إيشيروود، ونتيجة لذلك، ظهرت مصداقية أدبية جادة لهذا النوع الأدبي لأول مرة. أرسل برادبري نسخة من الجراد الفضي إلى هيوستن، الذي كتب إليه في ديسمبر من نفس العام عن الكتاب، واصفًا إياه بأنه استعارة خيالية علمية آسرة وشاعرية، تستند إلى أسطورة التوسع الأمريكي نحو الغرب. وعبّر هيوستن عن رأيه قائلًا: "لا شك لديّ أنه سيكون فيلمًا رائعًا. سأبذل قصارى جهدي لإقناع أحد الاستوديوهات بالسماح لي بصنع فيلم من كتابك". كان حلم برادبري بصنع فيلم مع جون هيوستن يقترب.
بطبيعة الحال، في هوليوود، غالبًا ما تسير الأمور بوتيرة بطيئة للغاية. طوال عام 1952، كان برادبري يقوم بالتحضير لإصدار مجموعته القصصية الثالثة "تفاحات الشمس الذهبية" (1953)، لصالح دار نشر دابلداي. كما وقّع أول عقد فيلم له في ذلك الصيف مع ستوديوهات يونيفرسال، حيث قام بتطوير وكتابة معالجة سينمائية لفيلم "جاء من الفضاء الخارجي" (1953). رافضًا سيناريو الكائنات الفضائية المبتذل الذي اقترحه المنتجون. هدم برادبري المفاهيم المعتادة لهذا النوع من الأفلام، وجعل الزوار القادمين من الفضاء ودودين. كان يتقاضى 300 دولار في الأسبوع مقابل كتابة مخطط القصة، وهو أكثر مما كسبه في أي وقت مضى. والأهم من ذلك، أن هذه كانت أولى غزواته في هوليوود. عندما كان مراهقًا، تسلق برادبري جدران ستوديوهات باراماونت حرفيًا، وتم إخراجه منها فورًا. أما الآن فقد مُنح مكتبًا في يونيفرسال.
في أوائل عام 1953، أرسل برادبري نسخة ما قبل النشر من كتابه تفاحات الشمس الذهبية إلى هيوستن في لندن. كان الكتاب عبارة عن مجموعة متنوعة من القصص القصيرة (فانتازيا، خيال علمي، وقصص واقعية). بحلول ذلك الوقت، كان قد انتقل إلى مشروعه التالي، فهرنهايت 451.
إن كواليس كتابة فهرنهايت 451 أصبحت جزءًا من الأساطير الأدبية. فقد أمضى برادبري تسعة أيام في صيف عام 1953 مُنعزلًا في قبو مكتبة باول، في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، حيث كان بوسعه استخدام الآلات الكاتبة التي يمكن استئجارها هناك. في ظل تشتيت انتباهه في المنزل من قِبل ابنتيه الصغيرتين، كان بحاجة إلى مكان هادئ للعمل، لكنه لم يكن لديه بعد الدخل الكافي لاستئجار مكتب فعلي. وكان قد وقع عقدًا مع دار نشر بالانتاين، للعمل على تطوير نوفيلا، تتألف من 25 ألف كلمة، كتبها قبل ثلاث سنوات بعنوان "رجل الإطفاء"، وزيادة حجمها لتصبح رواية كاملة. كانت فرضية القصة تدور حول مجتمع في المستقبل القريب، حيث يقوم رجال الإطفاء بالذهاب من منزل لآخر لحرق الكتب، لأنها تمنح الناس القوة من خلال الأفكار. في عالم برادبري المستقبلي، تُشكل الكتب أدوات خطيرة. استخدمت القصة تقنيات الخيال العلمي لإدانة الحقبة المكارثية في أمريكا؛ لقد كانت قصة تحذيرية، تُحذر من صعود الاستبداد وقمع الثقافة الفكرية.
وبعد جُهد شاق، وعمل مُكثف مع محرره في دار نشر بالانتاين، ستانلي كوفمان، سلّم برادبري صفحات المسودة في منتصف أغسطس 1953. مُنهكًا، قام برحلة إلى إحدى مكتباته المفضلة في لونج بيتش، مع صديقه المقرب راي هاريهاوزن، الذي يعمل في صناعة الرسوم المتحركة. كان الرجلان يتقاسمان شغفًا مشتركًا، ويبحثان عن كتب حول الديناصورات. وعندما عاد برادبري إلى المنزل في ذلك المساء، أعطته زوجته ماجي رسالة. لقد اتصل جون هيوستن. كان المخرج في لوس أنجلوس ويريد أن يلتقي به.
في الليلة التالية، التقى برادبري بهيوستن في جناحه بفندق بيفرلي هيلز. كان هذا اللقاء المصيري أحد القصص المفضلة التي يحب برادبري أن يرويها.
يتذكر برادبري: "دخلت إلى غرفته. وضع كأسًا في يدي. ثم أجلسني وانحنى نحوي وقال: راي، ماذا ستفعل خلال العام المقبل؟" عندما قام برادبري بتقليد هيوستن، تحدث بصوت جهوري مبحوح أجش.
قلت له: "لن أفعل أشياء كثيرة يا سيد هيوستن. لن أفعل أشياء كثيرة". فقال: "حسنًا، راي، ما رأيك في أن تأتي وتقيم في أيرلندا وتكتب سيناريو فيلم موبي ديك؟" فقلت: "يا إلهي يا سيد هيوستن، لم أتمكن قط من قراءة هذا الشيء اللعين".
لم يكن يعلم بذلك من قبل، ففكر قليلًا، ثم قال: "حسنًا، سأخبرك بشيء يا راي. لماذا لا تعود إلى منزلك الليلة، وتقرأ قدر ما تستطيع، ثم تعود غدًا وتخبرني إذا كنت ستساعدني في قتل حوت أبيض".
كان برادبري مذهولًا. عاد إلى المنزل وقال لزوجته: "ادعي لي". فأجابته ماجي برادبري، التي كانت معتادة على مبالغات زوجها، متسائلة: "لماذا؟" فقال: 'لأنني يجب أن أقرأ كتابًا الليلة، وأقوم بإعداد تقرير عن الكتاب غدًا".
سهر برادبري حتى الفجر، محاولًا التهام أكبر قدر ممكن من الرواية الشهيرة الصعبة. لم يكن هناك سبيل لقراءة موبي ديك من البداية إلى النهاية في ليلة واحدة، لذا قام بالقفز عبر صفحاتها، وغاص في المنتصف، متجاوزًا فصلًا هنا ومقطعًا هناك، مستوعبًا كل شيء؛ الشخصيات، الاستعارات، الدراما الشكسبيرية، والإشارات التوراتية.
في اليوم التالي، وافق برادبري على كتابة السيناريو. كان الأمر بمثابة رحلة طويلة. ففي غضون أسبوع واحد تقريبًا، أنهى كتابة فهرنهايت 451، ووافق على العمل مع بطله السينمائي، وتحويل أحد أصعب أعمال الأدب الأمريكي إلى فيلم مدته ساعتان. وقع برادبري عقدًا لمدة 17 أسبوعًا، براتب 650 دولارًا في الأسبوع بالإضافة إلى نفقات المعيشة، وهو مبلغ ضخم لرجل كان، قبل أقل من عقد من الزمان، يكسب قوته من الكتابة لمجلات شعبية كانت تدفع 40 أو 50 دولارًا لكل قصة.
فوجئ البعض في هوليوود بكاتب السيناريو الذي اختاره هيوستن، لتقديم ميلفيل على الشاشة الكبيرة. ففي نهاية المطاف، فقد أوكل مهمة العمل على رواية أدبية عميقة ومعقدة، لرجل اشتهر بكتابة الخيال العلمي. ربما لم يكن هناك شخص أكثر دهشة من برادبري نفسه باختيار هيوستن. كان هيوستن قد قرأ أحدث كتاب أرسله له برادبري، تفاحات الشمس الذهبية، وكانت القصة الرئيسية كافية لاتخاذ القرار.
"بوق الضباب"، هي قصة عن حارسين لمنارة، يتلقيان في وقت متأخر من إحدى ليالي نوفمبر، زيارة من وحش ظهر من أعماق البحر، بعد سماعه لنداء بوق الضباب الوحيد الصادر من المنارة. حب برادبري للديناصورات هو ما دفعه لكتابة القصة، وكان هذا الحب هو الذي جعل هيوستن يعتقد أنه الرجل المناسب لمُعالجة رواية موبي ديك. في قراءته لقصة بوق الضباب، ذكر هيوستن في سيرته الذاتية التي صدرت عام 1980، بعنوان "كتاب مفتوح"، أنه "رأى شيئًا من جودة ميلفيل المراوغة".
في أقل من شهر، قلب برادبري حياته رأسًا على عقب، حيث غادر برفقة زوجته ماجي وابنتيه الصغيرتين، سوزان (أربع سنوات) ورامونا (عامين)، إلى أيرلندا. انضمت إليهم مُعلمة روضة الأطفال الخاصة بسوزان، التي رافقت عائلة برادبري كمربية. كان برادبري يشعر برعب شديد من السفر جوًا، لذا فقط خططوا لعبور المحيط الأطلسي على متن باخرة. كان راي هاريهاوزن في محطة يونيون لتوديعهم في مغامرتهم الكبيرة. وبينما كان قطار الركاب يقطع ولاية يوتا، كتب برادبري الصفحة الافتتاحية من سيناريو الفيلم.
بعد قضاء يومين في نيويورك، انطلقت عائلة برادبري نحو أوروبا على متن السفينة "إس إس يونايتد استيت"، وهي سفينة فاخرة يبلغ طولها 990 قدمًا، قامت برحلتها الأولى قبل عام واحد فقط. أثناء عبور المحيط الأطلسي، وقعت السفينة في قلب إعصار. وكعادته الرومانسية، اغتنم برادبري الفرصة لإعادة قراءة موبي ديك على سطح السفينة الخلفي، بينما كانت تبحر عبر أمواج المحيط الأطلسي الهائلة. لم يكن برادبري يعلم حينها، لكن العاصفة كانت تنبئ بمزيد من الاضطرابات القادمة.
كانت رحلتهم ستأخذهم أولًا إلى لوهافر في فرنسا، ثم بالقطار إلى باريس، وبعدها إلى لندن، وأخيرًا، عبر القطار والعبّارة، إلى وجهتهم النهائية، دبلن. هنا، سيقضي برادبري ستة أشهر في كتابة السيناريو لهيوستن، الذي اعتبر أيرلندا موطنه. المخرج المغترب، الذي كان شغوفًا بركوب الخيل وصيد الثعالب، استأجر قصرًا ريفيًا جورجيًا، على بُعد نصف ساعة بالسيارة من دبلن. كان يُطلق عليه كورتاون، وبُني عام 1815، ويتميز بأكثر من 300 فدان من الأراضي الخضراء.
عندما وصلوا أخيرًا إلى أيرلندا، استقر برادبري وزوجته في الغرفة رقم 77 بفندق رويال هيبرنيان، في شارع داوسون في دبلن، وهو فندق عريق تم افتتاحه عام 1751 (كانت ابنتاه والمربية في غرفة منفصلة). قضى برادبري أيامه في الكتابة بجوار المدفأة، وفي المساء كان يسافر بسيارة أجرة إلى القصر الذي استأجره هيوستن لعرض صفحات السيناريو عليه.
بدأت الأمور بسلاسة كافية، لكن لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى يصبح التعاون أكثر صعوبة. كان برادبري يكتب سبعة أيام في الأسبوع، لمدة 12 ساعة في اليوم. ككاتب، لم يكن معتادًا على مثل هذا الجدول الشاق. في لوس أنجلوس، كان يدير أموره بنفسه. أما في أيرلندا، وعلى النقيض من ذلك، فقد أصبح يعمل تحت إشراف هيوستن، الذي سرعان ما أظهر جانبًا مختلفًا من شخصيته. كانت الحكمة القديمة حول عدم مقابلة أبطالك أبدًا، بدأت تدوي بجدية في ذهن المُعجب الشاب.
أدرك هيوستن أن كاتب السيناريو الذي يعمل معه، والذي يبلغ من العمر 33 عامًا، يتمتع بسذاجة أهل الغرب الأوسط. لم يكن برادبري قد غادر الولايات المتحدة قط، وانتهى تعليمه الرسمي عند المرحلة الثانوية. لم يكن يشرب الخمور كثيرًا أو يدخن، ولم يكن زير نساء، على عكس هيوستن المعروف بشهواته. لاحظ المخرج المخضرم كل هذا، وبدأ يمزح بشكل متزايد وقاسي مع كاتب السيناريو الجاد.
على سبيل المثال، أخبر برادبري -بناءً على طلب شخصي من أحد كبار ممولي الفيلم، والتر ميريش- أنه يجب عليه إدخال قصة حب في رواية ميلفيل. كان هذا الأمر مضحكًا، لكنه لم يكن حقيقيًا. ذهب هيوستن إلى أبعد من ذلك، فأحرج برادبري أمام الآخرين، باتهامه بأنه لم يكن يبذل قصارى جهده في كتابة السيناريو، فقط لإثارة ردة فعل الكاتب الشاب. كما ضغط على برادبري لركوب الخيل والمشاركة في رحلات صيد الثعالب، وأراد منه أن يلعب الورق ويقامر. كان هيوستن يشرب الويسكي ليلًا وهو يقرأ ما ينتجه برادبري يوميًا من صفحات، وكان يريد من برادبري أن يشرب معه. كان من الصعب بما فيه الكفاية على برادبري تحويل كتاب ضخم إلى فيلم مدته ساعتان، لكن الأسوأ من ذلك أن بطله كان يستغل براءته.
رغم ذلك، واصل برادبري العمل قدمًا، فكثف الرواية، ودمج الشخصيات، وحذف الكثير من المشاهد. أمضت ماجي برادبري العديد من الليالي في كورتاون لتناول الكوكتيلات، بما في ذلك أثناء الكريسماس، وهي تشاهد هيوستن يسخر من زوجها. كما رأت كيف كان المخرج يهين ويحتقر زوجته، عارضة الأزياء وراقصة الباليه إنريكا "ريكي" سوما. كانت ماجي تمقت الوضع بأكمله مع مرور الأيام. وفيما بعد، كانت ترتعش بمجرد ذكر اسم جون هيوستن.
ولكن كانت هناك بعض اللحظات الممتعة أيضًا. برادبري، الذي لم يفقد شغفه أبدًا، حضر عرضًا مسرحيًا نادرًا لأسطورتي السينما، ستان لوريل وأوليفر هاردي، في مسرح أوليمبيا في دبلن. وتوطدت علاقة راي وماجي بالزوجين، لين وبيث بروبست (كان لين رئيس مكتب دبلن لوكالة الأنباء الأمريكية يونايتد برس إنترناشونال)، وكان الجميع على وفاق رائع. وفي الأيام الجيدة، كان هيوستن يشيد ببرادبري على عمله الجاد. لكن طبيعة المخرج المتقلبة، إلى جانب التحدي الجبار المتمثل في تحويل رواية ميلفيل إلى فيلم، بدأت تترك أثرها على برادبري تدريجيًا. وكذلك الطقس الرمادي والضبابي بشكل دائم في دبلن خلال الشتاء. عندما سألت برادبري في عام 2003 عمّا إذا كان قد فكر يومًا في الانتحار، كان رده على الفور: "مرة واحدة فقط، عندما كنت أكتب سيناريو فيلم موبى ديك".
بحلول شهر يناير، وبعد أن أنهكتها الأحوال الجوية الكئيبة وجدول عمل زوجها الشاق، قررت ماجي برادبري، التي عاشت طيلة حياتها في لوس أنجلوس، التوجه جنوبًا إلى إيطاليا مع أطفالها ومربيتهم. بينما كان زوجها مُلزمًا بموجب العقد بإكمال عمله، لم تكن ماجي مُلزمةً بمثل هذا الاتفاق. وكما تذكرت ضاحكة بعد عدة سنوات، لو بقيت في أيرلندا، لكان من الممكن أن تقتل جون هيوستن. وهكذا، تُرك راي برادبري وحيدًا، يتصارع مع ميلفيل، ومع بطله السينمائي الذي فقد بريقه.
وبدافع القلق الحقيقي من عزلة كاتبه، دعا هيوستن برادبري لترك فندقه والانتقال إلى مقر إقامته في كورتاون. لكن برادبري كان لديه الوعي بما يكفي ليُبقي مسافة بينهما، ويحافظ على مساحة إبداعية خاصة. ومع ذلك، كانت الكتابة طوال اليوم في غرفته بالفندق تؤثر عليه سلبًا، حيث كان يتصارع مع وحش ميلفيل، وأيام الشتاء الممطرة الكئيبة التي أصبحت متشابهة بلا تمييز. استوعب برادبري بشكل كامل روح أيرلندا، بتناقضاتها المبهجة والمحزنة، لكنه كان يزداد شعورًا بالوحدة والاكتئاب.
بحلول مارس 1954، كان هيوستن متحمسًا لبدء اختيار طاقم الفيلم وأراد الانتقال إلى لندن. اقترح على برادبري أن ينضم إليه، ويسافرا بالطائرة معًا. طلب برادبري الذهاب عن طريق العبّارة (تلك الرهبة من الطيران مرة أخرى)، لكن المخرج رفض. أمره بالطيران أو البقاء للعمل بمفرده في أيرلندا. بذل برادبري قصارى جهده لتجاهل الأمر. اشترى تذكرة عبّارة، وراهن على أن هيوستن كان يلعب فقط واحدة من دعاباته مرة أخرى.
بعد أشهر من العمل معًا عن كثب، حيث كان برادبري يكتب الصفحات ويجلبها كل ليلة إلى هيوستن، توترت العلاقة بين الرجلين بشدة. عندما وصل برادبري إلى لندن، وجد أن هيوستن بالكاد يتحدث إليه. كان التوتر شبه لا يطاق. وفي إحدى الليالي أثناء العشاء، وصل برادبري إلى نقطة الانفجار السلبية. أثناء جلوسهما في مطعم بلندن، انضم إلى هيوستن وبرادبري مجموعة كبيرة، تضم الكاتب بيتر فيرتيل والمخرج والمنتج جاك كلايتون، الذي سيكون منتجًا مشاركًا في فيلم موبي ديك. سخر هيوستن من أصدقاء برادبري الصحفيين في دبلن، وكان برادبري قد ضاق ذرعًا بذلك.
قال برادبري: "جون"، فنظر هيوستن نحوه، فأكمل: "تبًا لك*".
صُدم هيوستن وسأله: "ماذا؟"
قال برادبري مرة أخرى: "جون، تبًا لك. ها أنت هنا، أمام عشرة أشخاص، تهين أصدقائي أثناء العشاء. تبًا لك".
ساد صمت تام على المائدة. ثم، وسط التوتر، تم إنهاء العشاء على الفور. وقف الجميع للمغادرة. وخارج المطعم، تبادلا المزيد من الكلمات، وأمسك هيوستن برادبري من ياقة سترته وقبض يده استعدادًا للضرب.
قال برادبري: "اضربني يا جون، لكن افصلني أولًا". كان يعلم أن هيوستن بحاجة إليه لإنهاء السيناريو. استرخى هيوستن وأرخى قبضته المشدودة. وبينما كان برادبري يغادر نحو فندقه، كانت الدموع تملأ عينيه. كيف يمكن أن تتدهور علاقته ببطله الإبداعي إلى هذا الحد؟
في صباح اليوم التالي، وفي خطوة نادرة من نوعها، اتصل هيوستن ببرادبري ليعتذر له. وهكذا، واصل الكاتب، العمل بجدية في كتابة السيناريو، بينما استمرت عملية اختيار الممثلين.
في مرحلة مبكرة، تصور هيوستن أن والده سيلعب دور الكابتن آهاب الأيقوني، لكن والتر هيوستن توفي في عام 1950. وتم التفكير في أورسون ويلز لفترة وجيزة. حتى أن برادبري اقترح لورانس أوليفييه، لكن هيوستن استقر في النهاية على جريجوري بيك. وفي ظهيرة أحد الأيام، شاهد برادبري بيك، الذي كان رجلًا ودودًا ولطيفًا، أثناء تجربته للساق الاصطناعية الخاصة بالكابتن آهاب.
حتى بعد سبعة أشهر من العمل، كان برادبري لا يزال بحاجة إلى كتابة الفصل الأخير من السيناريو. وهنا حدث ما حدث. في صباح يوم 14 أبريل 1954، استيقظ وحيدًا في غرفة فندقه في لندن، مشتاقًا إلى لوس أنجلوس، مفتقدًا زوجته وأطفاله، راغبًا بشدة في العودة إلى حياته السابقة ككاتب مستقل، لا يجيب على أسئلة أحد، ويضع جدول مواعيده بنفسه، ويكتب قصص من أفكاره. نهض من فراشه، ووقف أمام المرآة، ونظر إلى نفسه، ثم أعلن: "أنا... هيرمان ميلفيل!" واتجه بهدوء إلى الآلة الكاتبة.
وكما حدث مع رواية فهرنهايت 451، كان برادبري يعمل بشكل أفضل عندما يكتب بسرعة، في ظل هجوم شرس من الإبداع. فقد قال لي ذات مرة: "اللاوعي لديك أذكى منك، لذا اتركه يعمل". كتب دون توقف لمدة ثماني ساعات. أنتج الصفحات السبع والثلاثين الأخيرة من السيناريو في تلك الجلسة الواحدة. وكان يعلم أنه، من بين 1500 صفحة من المسودات والمخططات التي كتبها خلال السبعة أشهر التي قضاها في العمل مع هيوستون، كانت هذه هي أفضل ما كتبه.
وافق هيوستن على هذا. أنهى برادبري كتابة السيناريو، على الرغم من أن بعض التعديلات كانت لا تزال مطلوبة، إلا أن العمل اليومي قد انتهى. وأصبح حرًا ليغادر لندن ويسافر جنوبًا إلى إيطاليا للقاء عائلته. افترق عن هيوستن بروح ودية إلى حد ما، حيث تعانق الرجلان وشكر برادبري هيوستن على هذه التجربة الفريدة. غادر لندن في 16 أبريل 1954، مُنهيًا معاناة العمل اليومي مع المخرج الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته.
وبينما كان لا يزال في أوروبا، انهالت عليه عروض كتابة سيناريوهات جديدة. عُرضت عليه مهام مُعالجة روايات مثل تحليل جريمة قتل (1958) والرجل ذو الذراع الذهبية (1949)، إلى جانب العديد من المشاريع الأخرى. هوليوود تحتفي الآن بالكامل، بالكاتب المُولع بالسينما طوال حياته. ومع ذلك، رفض برادبري كل العروض. ففي النهاية، هو قد اصطاد الحوت الأبيض، وكاد الأمر أن يقتله.
بعد ثمانية وثلاثين عامًا، تأمل برادبري في هذه التجربة بروح شاعرية في سيرته الذاتية "ظل أخضر، حوت أبيض" (1992). كان هذا الكتاب الغنائي، الذي يعد بمثابة أنشودة هزلية تتألف من حلقات مترابطة بشكل فضفاض، يدور حول الاحتفاء بأيرلندا وشعبها أكثر من كونه حول التعاون مع هيوستن وصعوبة تحويل موبي ديك إلى فيلم. ومع ذلك، فالكتاب يوضح أنه بعد مرور ما يقرب من أربعة عقود، كان شبح هيرمان ميلفيل لا يزال يطارد راي برادبري.
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.