انتصرنا في الثورة مرة من قبل، وباستطاعتنا الانتصار مجددًا.

الثورة الإنسانية

مقال كريس نايت

ترجمة أسامة حماد

* كريس نايت عالم أنثروبولوجي وناشط سياسي ماركسي بريطاني، ومؤسس جماعة "الأنثروبولوجيا الراديكالية" في إنجلترا. 

نشر المقال أول مرة في Socialist Organize في 13 أغسطس 1992، وأعاد الكاتب نشره مرة أخرى على موقعه الشخصي مع بعض التصحيحات الطفيفة.


ثلاث أجيال من النساء الاستراليات الأصليات

افترض معظم علماء الأنثروبولوجيا ضمنيا أن الرجال هم من وضعوا أسس الثقافة الإنسانية. وسيطرت أسطورة "الرجل الصياد" على علم الإنسان البدائي (palaeoanthropology) تقريبًا منذ نشوء هذا العلم. وخلال ستينات القرن العشرين وسبعيناته، اعتُقد بداهة أن التقسيم الجنسي للعمل، حيث يذهب الذكور بعيدًا للصيد وإحضار اللحم، ظهر قبل ملايين السنين في عملية ارتبطت بثنائية الحركة وصنع الأدوات والدماغ البشري كبير الحجم على غير المعتاد.

شهد العقد الماضي ثورة في علم الآثار وعلم الحفريات مما أدى إلى وجهة نظر تعتبر أن كل هذا هراء، وأن أسلاف الإنسان ("الأسترالوبيثين") كانوا كائنات شبيهة بالقردة العليا تعيش حياة شبيهة بالقردة العليا وأن الثقافة كما نعرفها الآن لم تظهر إلا بعد "ثورة إنسانية" حديثة نسبيًا. لقد أوضح عالم وعالمة الآثار البارزين لويس بينفورد وأولجا سوفير أنه لا يوجد دليل في أوروبا، على الأقل، على أن زمر صيد منظمة ارتحلت لمسافات بعيدة واصطادت فرائس كبيرة الحجم وعادت باللحم إلى مخيمات شبه دائمة حتى قبل خمسين ألف عام مضت. 

حاليًا هناك شبه إجماع بين علماء الآثار وعلماء الحفريات مثل كريس سترينجر من متحف التاريخ الطبيعي في لندن على أن البشر البدائيون (النياندرثال) لم يكونوا أسلافنا ولم يكونوا "عصريين" ثقافيًا. وجهة النظر السائدة اليوم هي (أ) أن الجنس البشري ظهر بطريقة ثورية، (ب) أن هذه الثورة بدأت في إفريقيا قبل حوالي مئة وعشرين ألف سنة وأنها اكتملت على مستوى العالم من ستين ألف إلى أربعين ألف عام مضت، (ج) وأن اللغة الرمزية والثقافة لم تظهرا إلا أثناء هذه الثورة. ويصر علماء الرئيسيات وعلماء الاجتماع البيولوجي وغيرهم ممن حاولوا فهم ديناميكية هذه الثورة، بالإضافة لهذا، أن اهتمامات النساء ومبادراتهن لا بد كانت عاملًا حيويًا. تكاد تنعدم العلاقة بين هذا الاستنتاج والفكر السياسي النسوي. فثقة العلماء في هذه النتيجة متجذرة جزئيا في نظرية علم الاجتماع البيولوجي القياسية: كانت استراتيجيات الإناث هي ما دفع إلى التغيير الثوري بين أجناس الثدييات بما في ذلك كل الرئيسيات. 

لقد حدثت الثورة الإنسانية لكن التفاصيل الدقيقة لكيفية حدوثها لم يتفق عليها بعد. يدور عملي بصفتي ماركسي أساسًا حول هذه التفاصيل –الديناميكيات الاجتماعية والسياسية لتلك الثورة. عندما يتحدث كريس سترينجر وآخرون حول ثورة إنسانية فهذا أكثر بقليل من كونه مصطلحًا رسميًا، وهو ما يمكن لأي أحد تفسيره على هواه. يعتمد سترينجر نفسه أساسًا على العظام والجينات ومن الصعب ربط السياسة بهذه الأشياء. يستطيع الكثير من الناس الحديث عن الثورة الإنسانية دون إمعان التفكير فيها كما يفعل الماركسي. وهم لا يعترضون على هذا التصور لأنهم لا يفهمون ما هي علاقته بالسياسة. 

لكن في اللحظة التي يحاول فيها الماركسي التفكير في الثورة في العصر الجليدي الحديث (العصر البليستوسيني الحديث) فإنه ولابد سيتساءل عن الديناميكيات الاجتماعية، النزاعات، صراعات القوى المتنازعة. وهذه مشكلة لبعض الماركسيين، لأنه ليس من الممكن أن تكون "الطبقة" هي المشكلة في هذه المرحلة المبكرة، لذا ماذا كانت المشكلة؟

حسنًا، الإجابة النظرية الممكن الوحيدة هي ما قاله إنجلز في كتاب أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة. لا يمكن لتلك الديناميكية إلا أن تكون جنسية، ولا بد أنه كانت هناك ثورة جنسية أدت إلى ما اصطلحه إنجلز، "هيمنة" النساء في "البيت الشيوعي"، وتبعات هذا مثيرة جدًا. يعني هذا أنك إذا قبلت فكرة "الثورة الإنسانية" وأمعنت التفكير فيها، فإن لها منطقها الخاص، وستأخذك مباشرة إلى نظرية إنجلز كاملة. وكان إنجلز محقا على أي حال.

اقتبس آرثر رايت وصف إنجلز عن الطريقة التي امتلكت النساء المنظمات شيوعيًا زمام السلطة في مجتمع الإيروكواس: 

"عادة، أدارت النساء المنزل.. امتلك الجميع الخزين: لكن بئسًا للزوج أو الحبيب عثر الحظ الذي يقعده كسله عن المشاركة في توفير الطعام. لا يهم كم طفلًا أنجب أو ما هي الأشياء التي امتلكها في المنزل، كان من الممكن في أي وقت أن يؤمر بأخذ صرته ويغادر، وبعد هذه الأوامر لن يكون ناجعًا أن يحاول عصيانها. كان المنزل سيتحول إلى جهنم وعليه أن يغادر إلى عشيرته" (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة).

بنيت سلطة النساء، وفقًا لهذه التفسير، على تضامنهن وعلى حقيقة أنهن امتلكن حق قطع العلاقة الجنسية مع الرجال في أي وقت. هذا ليس بجديد على الإطلاق. الأمر أن علم الإنسان البدائي الجديد يتلاقى مع نظرية علم الاجتماع البيولوجي في الإشارة إلى أن إنجلز كان على حق بطريقة لا لبس فيها ولا تقبل النقاش أكثر مما كان بإمكانه هو أن يتصور.

ينطلق كتابي "علاقات الدم: الحيض وأصول الثقافة" من فكرة أنه لتكون إنسانًا كامل الإنسانية يجب أن تكون واعيًا، وهذا الوعي بأي معنى يرتبط بالصراع الطبقي. ما علاقة هذا بأصل الإنسان؟ الإجابة هي أن الصراع الطبقي بوصفه محددًا للوعي لم يبدأ بالأمس أو حتى قبل مئة عام. حسبما أدرك ماركس وإنجلز إدراكًا كاملًا أنه، إذا تتبعنا نضالنا لوقت بعيد كفاية في الماضي، سنجد أنه اتخذ أشكالا مختلفة، ومن بين الأمور الأكثر مركزية فيه التناقضات الجنسية. 

يمكن تتبع التناقضات التي أدت للتحول الثوري في النهاية إلى حقيقة أن التعليم المركب يعتمد على الأمخاخ الكبيرة، وهذه الأمخاخ تحتاج وقتًا لتنمو. تحتاج هذه الأمخاخ، بالإضافة إلى وجود مولود عاجز بطريقة غير اعتيادية عقب الولادة، إلى طفولة طويلة تتعلم فيها ما يكفي. وبناء عليه، استصحب تطور الإنسان العاقل ذو المخ الكبير أعباء شديدة لرعاية الطفل. وإذا لم تصيب هذه الأعباء الأمهات المسؤلات عن تقديم الرعاية بالإجهاد والإعياء، تصبح حيوية للإناث في مرحلة التطور ليضمنّ مساهمة الجنس الآخر في الرعاية أكثر مما شارك به أي ذكر من الرئيسيات من قبل على الإطلاق، بما فيها البشر الذين كانوا في مرحلة التطور. 

لنفهم هذا، يجب أن ندرك أن ذكور الرئيسيات –الغوريلا والشمبانزي على سبيل المثال– لا توفر أي طعام لذريتها. يتركون هذا كلية للأمهات. إذا افترضنا، بداية، أن ذكور النماذج الأولية لأشباه الإنسان كانوا على نفس القدر من العزوف عن توفير الطعام وأن تطور البشر تضمن تناقضات ونضالات حول هذه المسائل، إذن من وجهة نظري فقد بدأت ألغاز نشوء الثقافة الإنسانية في التكشف. 

إذا كانت الإناث في حاجة لحث الذكور على الصيد من أجلهن، فربما كان عليهن ربط هذا بالجنس للنجاح في سعيهن. لنتأمل الموقف بين قردة الشمبانزي لنفهم الاحتمالات المنطقية الرئيسية. 

عندما يصطاد ذكر شمبانزي قردًا أو أي حيوان آخر، تسرع إحدى الإناث إليه أحيانًا وتعرض مؤخرتها عليه ليمارسا الجنس. إذا كانت الأنثى في الدورة الودقية (الشبقية) وكان الذكر مهتمًا، فربما تحصل على نصيبه من اللحم، وستأكله في التو في ذات المكان، وربما أكلته أثناء الاتصال الجنسي. 

من الطبيعي، إذا أتت أنثى أخرى إلى موقع الصيد، فستتنافس مع الأولى على نيل حظوة الذكر. لأسباب واضحة نستطيع أن نرى أن هذه الاستراتيجية لا تفضي إلى التكاتف الجندري الأنثوي. ولا تؤدي إلى تشجيع التضامن بين الذكور كذلك. يجبر المنطق في هذا الموقف الذكور على خوض معارك ضد بعضهم البعض واستخدام قدر ما استطاعوا من اللحم الذي يمكنهم جلبه لإغواء الإناث نحوهم. 

وأنا أحاجج بأن نساء البشر فعلن عكس هذا تمامًا. 

أثناء الثورة وجدت النساء أنهن لم يعدن يطاردن الذكور حائزي اللحم. بدلًا من هذا، رابطن في أماكنهن مع ذريتهن ورفضن الترحال. يمكننا فهم هذا من الأدلة الأثرية من مخيماتهن والنيران.. إلخ. على عكس النياندرثال، رفضت نساء جنسنا بحلول هذا الوقت التنقل الذي لا يتوقف من معسكر إلى معسكر. واعتمدن جزئيًا دون شك على الطعام الذي جمعنه لوقت طويل. لكن كلما وعندما احتجن اللحم، تبنين استراتيجية جديدة كليًا –كما فعلن بالتأكيد في المواسم التي شح فيها الطعام الذي يمكن جمعه. 

بدلًا من الترحال الذي لا ينتهي والتقاط الثمار، أقنعن شركائهن الذكور بأداء معظم الترحال اللازم من أجلهن. وبدلا من مطاردة اللحم، جعلن اللحم يأتي لهن. جوهر الخدعة بسيط جدًا. لوحن بالرفض لأي ذكر تقرب منهن دون لحم. وقابلن كل ذكر حاول مجابهة هذه المقاومة بحائط من العدوانية الجماعية أنتجها منطق الموقف. 

لم يكن التلويح بالرفض في وجه ذكر كسول أو خالي الوفاض سيكون ذو جدوى إن علمت الأنثى المعنية بالأمر أن أختها أو جارتها ستشير بالقبول في نفس الوقت. كان الذكر ليخون ويذهب لمنافستها فحسب. بعبارة أخرى، احتاج استخدام استراتيجية الرفض اختيار اللحظة المناسبة والتأكد من أن كل الإناث في الجوار متضامنات في الأمر. إذن من أجل أن تكون إشارة النساء بالرفض فعالة، في هذه الاستراتيجية، لا بد أنها كانت إشارة جماعية. 

كان لدى النساء، بينما يزداد وعيهن وثقافتهن، إرث بيولوجي جاهز لهذه الاستراتيجية بالضبط. أخفت إناث البشر وقت الإباضة كي لا يعلم أي ذكر متى تكون الأنثى جاهزة للإخصاب. أثناء الدورة الشهرية، تفقد الأنثى كمية من الدم أكبر من أي نوع من الرئيسيات، وتشير فترة الحيض إلى أنها على وشك أن تكون جاهزة للتخصيب. بإمكانها ممارسة الجنس في أي وقت من دورتها وبإمكانها الرفض كذلك. في النهاية، لدى النساء القدرة على مزامنة دورة الحيض مع بعضهن. يشير متوسط طول دورة حيض الإنسان إلى استراتيجية تطورية لمزامنة الدورات باستخدام القمر للحفاظ على هذا التزامن: على عكس دورة الشمبانزي، 36 يوما في المتوسط، تستغرق دورة الإنسان 29.5 يوما في المتوسط –هذا هو الوقت الذي يستغرقه القمر في التنقل من طور إلى آخر كما يُرى من الأرض. 

عزز التضامن وعي النساء كما لو أنه جعلهن أكثر ذكاءًا. ربما عزز التضامن الناتج عن الإضراب تزامن دورة الحيض ليمكن النساء من التمتع بساعتهن الجسدية بوصفها مصدر القوة الجماعية. أصبحت "الإناث" "نساء" في الحقيقة عندما حققن الكبرياء والكرامة والقوة لأنفسهن. وتحقق لهن التمكين عندما تضامنّ مع بعضهن بعضًا، واستندت النساء على مصادرهن البيولوجية لإعطاء دم الحيض معنى جديدا كليًا مؤسسًا بوصفه رمزًا للعصمة. اختارت النساء كل فترة حيض متزامنة بوصفها الوقت الأفضل للإضراب الجماعي. أوعز هذا العمل الجماعي، المحدد للحدوث حول القمر الجديد، بالشروع في التحضير في بداية كل شهر لرحلة صيد جماعية شعائرية، هذه الرحلة المخطط لها بعناية تبلغ ذروتها عادة عند اكتمال القمر. 

في مثل هذه الظروف كان الإحساس بجريان الدم، لا يرمز من قريب للضعف أو الإعاقة، وإنما تعبير رمزي عن تضامن النساء وقوتهن، بما فيها التضامن مع الرجال إذ تصرف أبنائهن وإخوتهن بمسؤولية لحماية النساء. وينبغي أن أضيف أنه إذا كان تضامن الدم أو تضامن العشيرة بطريقة ما يشبه تضامن الطبقة في العصر الحديث –كما اعتقد إنجلز بالتأكيد– إذن فربما كانت أختية الدم تخيل مسبق لعلم الاشتراكية الأحمر المعاصر. 

في سياق نشوء الثقافة، مثّلت قاعدة رفض الاغتصاب بالنسبة للنساء الثوريات ما تمثله عصمة الحشود المعتصمة للشيوعيين الثوريين اليوم. كانت أول قاعدة ثقافية، القاعدة التي وجب تنفيذها مهما كانت التكلفة، وكانت هي الأساس الذي بنيت عليه كل القواعد الأخرى. 

لن أعتذر للاستناد على استنتاجات "علماء الاجتماع البيولوجي اليميني" حتى أصل لمثل هذه النتائج. فعل ماركس الشيء ذاته في زمانه: أخذ نظرية الاقتصاد السياسي الكلاسيكية التي كانت تستخدم بوضوح لتبرير نظام القهر الطبقي القائم –وبدلًا من تجاهلها، فحص تناقضاتها الداخلية. كانت لديه القدرة على استخدامها استخدامًا ثوريًا. ينظر علم الاجتماع البيولوجي إلى النشاط الاجتماعي الإنساني في فترات ما قبل الحضارة ويرى نظير لها في كل مكان في الاقتصاديات البرجوازية. لهذا السبب بالتحديد هو بالغ الأثر –لأنه يزعم أنه يظهر أن واقع الشراهة والتنافس في المجتمع المعاصر ترجع جذوره إلى "الطبيعة الإنسانية". 

وجهة نظري هي أن السلوك الذي تحفزه متطلبات الجينات "الأنانية" هو حقا ما يدفع التطور الدارويني. لا فائدة من إنكار هذا. لكن ما يهم هو أن البشر أصبحوا بشرًا بالإطاحة بمنطق الطبيعة. ثم عرفنا الثقافة وهي شيء مختلف. الثقافة، القائمة على التضامن، أعادت بناء طبيعتنا كلية. هذا ما كان عليه جوهر الثورة الإنسانية، ولهذا من المهم أن نقبلها بوصفها بداية الإرث الثوري. 

انتصرنا في الثورة مرة من قبل، وباستطاعتنا الانتصار مجددًا.