لم تكن نهى من محبي كرة القدم قبل أن تعرفه، لكنها بناءً على نصيحة قرأتها في مجلة أو شاهدتها في فيديو عن الحياة الزوجية، أو سمعتها من صديقة متزوجة، لا يمكنها أن تحدد على وجه الدقة، قررت أن تشاركه شغفه. 

ساقان طويلتان وحذاء جديد

قصة لأحمد الفخراني


غرفة في نيويورك لإدوارد هوبر، عن ويكيبيديا

مدد أدهم ساقيه الطويلتين فوق الفراش، متكئًا بظهره على الوسادة، وقد انغمس في مشاهدة مباراة مسجلة لكرة القدم لنهائي الكأس الأوروبي للمرة الألف، بينما كانت نهى تقلب فيديوهات التيك توك بلا هدف، كي تطرد فكرة مجنونة اصطادت رأسها.

فعلى مدار الأشهر الأخيرة، كانت ساقا زوجها تستطيلان ببطء شديد كل ليلة، طول يتراكم كل عدة أيام إلى ملليمترات قليلة لا يمكن ملاحظتها إلا عبر عين متمرسة، عين محب، لن تفوته أدق التفاصيل عن أدنى تغير يحدث لحبيبه.

عندما صارحته للمرة الأولى بذلك التغيير، كذبها بابتسامة هازئة أخجلتها، فصمتت إلى حين، ولما فتحت الموضوع مرة أخرى، تحداها أن تقيس طوله بالمتر، وهو التحدي الذي قبلته مدعية أنها تفعله على سبيل المزاح، لكن طوله كان كما هو، 186 سم بالتمام والكمال، فكذبت عينيها ولم تعد إلى إثارة الموضوع، واستعاذت بالله من أوهام الشياطين والوساوس.

لكن اليوم أمامها دليل دامغ، فأطراف أصابع قدميه قد خرجت عن حافة الفراش، وهو الذي أشرف على تفصيله بنفسه عند نجار، كي يضمن أن يلائم السرير طول قامته، بعد أن تعذب في الشقق المفروشة قبل زواجهما بأسِّرة لا تحتويه، ولا تترك بين حافتها وأصابع قدميه مسافة كافية مريحة، هذا إن لم تخرج عنها، وصفها لها قائلًا:

"كل سرير منهم كان يشعرني بأني سجين في قفص، أو متطفل مضطر لتجرع إهانة يومية من أجل النوم".

هل تجلب المتر؟ وتواجهه من جديد؟

لم يبد أن أدهم قد اهتم أو لاحظ ذلك التغيير الذي أصابه.

على عكس أغلب سنواتهما معًا، صارت تحمل عبء التفاصيل الدقيقة، أما هو فيسبح تلك الأيام في دنيا غير الدنيا، حتى إنه لم يشعر أن الفراش لم يعد يتسع لساقيه، وأنها مسألة وقت قبل أن يحتاج إلى آخر جديد.

لم يكن خروج أصابع قدميه عن حافة الفراش هو دليلها الوحيد ولا التفصيلة الوحيدة التي غابت عنه، ففي الأشهر الأخيرة أيضًا فقد أدهم قدرته على ضبط إيقاع خطوته بخطوتها، فصار يسبقها شاردًا قبل أن ينتبه؛ لأنها ليست بجواره، بل متأخرة بأمتار، فيعود إليها دون أن يبدو على وجهه أن شيئًا خاطئًا قد حدث، يسير بجوارها لبضع دقائق، مستعيدًا مارش حياتهما المنضبط، قبل أن يشرد ثانية.

قامتها تبلغ نصف قامته بالكاد، ومع ازدياد طول ساقيه، تشعر أنها تنكمش، ومع ذلك لم يسبقها بخطوة ولو مرة واحدة، طيلة تسع سنوات من الزواج، وعامين من الخطوبة، الآن تلهث وراءه كلما سارا بجوار بعضهما البعض.

ظل يدون ملاحظاته عن المباراة على الآيباد، مواصلًا تسجيل مقاطع بعينها وإعادتها، وهو يصنع جداول ورسومًا بيانية وصورًا تخرج منها أسهم ودوائر وقياسات والمزيد من الأسهم والدوائر والقياسات وخرافات أخرى، بدت لنهى أشبه بطلاسم معقدة تلعن شيئًا جميلًا.

لم تكن نهى من محبي كرة القدم قبل أن تعرفه، لكنها بناءً على نصيحة قرأتها في مجلة أو شاهدتها في فيديو عن الحياة الزوجية، أو سمعتها من صديقة متزوجة، لا يمكنها أن تحدد على وجه الدقة، قررت أن تشاركه شغفه. وقد وجدتها لعبة ممتعة استمتعت بمشاهدتها، قبل أن تصبح في الأشهر الأخيرة، لدي زوجها، محض هوس بالتحول إلى محلل رياضي في برامج التلفزيون، وهو أمر لم تدرِ إن كان جادًا ككابوس، أم تافهًا كنزوة ستمر، كما مرت عشرات النزوات قبلها.

الأكيد أنه تحول إلى حاجز يفصل بينه وبينها، وبدّل لعبة كرة القدم من شيء يتشاركانه ويثير في نفسيهما كل ما يحتاجه الإنسان من أطياف المشاعر، إلى شيء عصي بعيد ومعقد على فهمها، تفقده الأرقام والمنطق سحره.

لم تكن نهى في تلك اللحظة تفكر كيف يقتل الهوس الشغف، وهو يدعي أنه الشيء عينه، بل في الحاجة إلى حذاء ذي كعب طويل، 10 سنتيمترات على الأقل، قد تكون كافية لمعالجة شعورها المستجد بالضآلة بجواره.

استحوذت عليها الفكرة، حذاء بكعب طويل، الآن وفورًا، بدت لها حلًا سحريًا ينهي المشاكل كلها، ما أن ترتديه حتى تتمكن من مطاردة قامته التي تزداد طولًا، وملاحقة خطوة ساقيه الضائعتين في ماراثون الشرود.

همّت بالخروج لشرائه بمفردها كما اعتادت مؤخرًا، لكن بدا لها، دون أن تعرف لماذا، أن يخرج أدهم معها لشرائه، فصارحته برغبتها.

تعلل أدهم بحرارة الجو في الخارج وانشغاله، لكن ما فاجأه أكثر كان إصرارها، ذلك الشيء الصلب الذي عرفه عنها. كانت قد حشدت كل ما استطاعت من قوة، فشعرت لدقائق أن جسدها المنكمش قد تعملق مستعيدًا حزمه الذي طالما احترمه أدهم، ولم يجرب أن يتحداه ليكسره، لقد تراخى من تلقاء نفسه، وربما أدرك أن إصرارها الذي يشبه نزوة طفولية، لم يكن سوى بديل عن طوفان من الكلام.

بعد أن وافق على مضض، باغتته بقرارها أن يبيت الطفلان عند والديها تلك الليلة، وهو ما يعني أنها تطلب منه ليلة حب، هو الذي لم يقرب جسدها منذ أربعة أشهر، وفي العام الأخير لم يقربها سوى ثلاث مرات.

تخيرت فستانًا بأكمام طويلة تدخره للمناسبات. انتهى أيضًا من ارتداء ملابسه في دقائق كما تعود، والتي لا تخرج عن مجموعة قمصان وبناطيل قماشية، تتراوح بين الرمادي والأزرق الغامق، بعد أن كان ينوي أن تقتصر على اللون نفسه والتصميم نفسه أسوة بستيف جوبز ومارك زوكربيرج، عندما كان رواد وادي السيليكون هم مثار إلهامه كما يراهم، عصاميون، شقوا الطريق بسواعدهم إلى الألوهية المطلقة، وقد اضطرهم ذلك إلى اتخاذ كل ما هو ضروري مهما بدا حادًا وعنيفًا. لكنه في النهاية وأمام اختبارات العالم، وتحول بوصلة هوسه، لم يقوَ على مثل هذا الزهد القاسي، ولم يتبقَ من زهده إلا قمصان تتراوح بين الرمادي والأزرق الغامق.

رغم انتهائه سريعًا من ارتداء ملابسه، وقف لنصف ساعة أمام مرآة الحمام لتصفيف شعره ومعالجته بالزيوت والكريمات. عادة جديدة اكتسبها في الأشهر الأخيرة، إلى جانب استخدام ماسكات الوجه لمعالجة آثار البثور التي تبقت من مرحلة المراهقة، رغم أنه قد تجاوز السابعة والثلاثين ولم يكن يعبأ بشأنها من قبل.

عندما بدأت في لف الطرحة، داعبها أدهم:

"في هذا الحر… إذا لم يغفر لك الله عدم ارتدائك تلك الخرقة، فقد منحتك أنا الغفران. أي آلهة أو أزواج قد يفعلون ذلك هذه الأيام؟"

لا تحب دعاباته الثقيلة التي تجترئ على الدين والله، وقد زادت وتيرتها مؤخرًا، ضمن جملة تغيرات عاتية. توقف عن الصلاة التي لم يكن مواظبًا عليها بانتظام على أية حال، ويفوح فمه دائمًا برائحة البيرة والخمر بعد عودته من سهراته التي اعتادها مؤخرًا مع أصدقاء جدد، لا تعرف منهم سوى أسماء ووجوه عابرة، وأنهم لا يصلحون لتبادل الزيارات العائلية.

قطبت نهى ملامحها وتهيأت لتأنيبه، بل إنها فكرت في أن تلقي في وجهه جملة كحجر: "تخيرتني محجبة… بعد أن جرحتك السافرة"، لكنها استشعرت أنها قد تجرحه، وأن الحجر قد يرتد في وجهها بالقدر نفسه. لو فسرت تلك العبارة إلى النهاية، لضاعت الأرض من تحت قدميها، فمعناها الذي تهرب منه، أنه تزوجها كخيار آمن، لا عن حب. كما أن كلمة "سافرة" كانت ثقيلة الوطأة على لسانها أيضًا.

لم تكن نهى متزمتة دينيًا، تصلي وتصوم بشكل اعتيادي، وتكتفي بالحجاب، ولا تمانع وضع ماكياج خفيف، وشيوخها المفضلون هم الدعاة الوسطيون كمعز مسعود. لكن ذلك الانقلاب الجريء من ناحيته، الذي يصل إلى حد الوقاحة والتجديف، يشعرها بالتهديد، أن لعنة قاصمة ستحل على ذلك المنزل الذي تماسك بعد عناء سنوات من شقاء كليهما في العمل، وأن لا شيء من الآن فصاعدًا قادر على أن يردع زوجها عن أي شيء بما فيه هجرانها أو خيانتها. وإن لم تكن قد عرفته متدينًا، لكنها قد نجحت في أن تجعله يبدو كذلك، وكان ذلك يطمئنها.

لم يكن أدهم متدينًا، ولا جموحًا متمردًا، بل شخصًا عاقلًا يحاول تثبيت قدميه على الأرض، ولا تخونه قامته أو تشرد عنها ساقاه الطويلتان في غفلة منه. وعندما التقته، كان قد رغب في الاستقرار، بعد أن سبقه أصدقاؤه إلى الزواج وتكوين أسرة.

لم يكن وسيمًا على غرار نجوم السينما وأبطال المسلسلات التركية، لكنه امتلك وجهًا رجوليًا، وجه محارب ساموراي في المانجا اليابانية التي كانت تعشقها بجنون. رأت حسد زميلاتها عليه، حسد لم يصل إلى مرحلة السقوط في فتنته، فهو زوج بمواصفات نادرة: قامته فارعة في عالم من متوسطي وقصار القامة، فك بارز، وحنجرة تحمل تفاحة آدم. لكن الأهم، وما حُسدت عليه فعلًا، ما بدا عليه من عطف ومسؤولية واستقامة. هذا شخص لن يخذل زوجته، وهو أمر صار أكثر ندرة من طوال القامة.

أثبت لها بما لا يدع مجالًا للشك أنه سيكون رب أسرة مثاليًا، لأنه وهو الذي عرف الضرب والإهانة والتشرد على يد أبيه والطلاق المهين لأمه، لم يكن يرغب في أن يكرر مأساته نفسها في أبنائه. وكان تكوين أسرة يحوطها بكل ما افتقده هدفًا عظيمًا له.

كان من السهل عليها في السنوات الأولى من الزواج أن تجذبه إلى منطقتها، فجعلته يصلي من حين لآخر، وأن يحترم مشاعرها الدينية، فلا يغضبها بنكتة خارجة أو تعليق يحمل من التجديف ما لا تحمد عقباه. وكانت تعرف أن فقدان ثقته بالله واستبدالها بثقة مصنوعة بدأب في نفسه، مرده فقدان ثقته بأبيه.

الشيء الوحيد الذي احتفظ به أدهم من مظاهر تدينه في الفترة الأخيرة هو الصيام، لكن ليس بسبب الوازع الديني، بل لأنه يشعر بطاقة أكبر وصفاء ذهني عندما يتوقف عن الأكل. أي سبب صحي والبحث عن قامة مثالية لا تشوهها الدهون. لم تعرفه سوى أكولًا وشغوفًا بالطبخ، خاصة اللحوم، وهو ما انعكس على بنية ممتلئة ذوبها الطول، فلا يمكن اعتباره بدينًا. كما أنه كثير الحركة منذ أن عرفته، حتى بعد أن امتلك سيارة، كأنه يبحث عن شيء ضائع ينهب من أجله الأرض نهبًا بساقيه الطويلتين.

في أثناء انتظارها له، تممت على الحقيبة التي تحمل احتياجات الطفلين. شهد الأصغر ست سنوات وعلي الأكبر وعمره ثمان سنوات، كانا متحمسين للبيات عند جدهما، إذ يعني ذلك أن يحظيا بكل ما هو ممنوع من حلويات وسهر وفرجة على التلفزيون بالإضافة إلى الموبايل الذي لا تمنحه لهما نهى إلا ساعة واحدة كل أسبوع. ولم يفلح عتابها الدائم لوالدها في أن يجعله يحترم لائحتها المقدسة.

في السيارة، أدار أدهم الكاسيت على عمرو دياب، مطربه المفضل الذي لا يقبل ناحيته أي تجريح أو تشكيك. رأته من قبل يدخل في جدال طويل وبلا نهاية مع صديق له، يخفي خلف ابتسامة واثقة ومستخفة غضبًا واحتقارًا، لأن الصديق جرؤ وشكك في عمرو دياب.

يعلم عنه كل شيء تقريبًا، أكثر ربما مما يعلم عمرو دياب عن نفسه. لديه تسجيلات نادرة لحفلاته، والله وحده يعرف كيف يميز الفروق الدقيقة بينها.

تأتي أم كلثوم في المرتبة الثانية لديه؛ يعشقها منذ أن علم أن عمرو دياب يستمع إلى كل أنواع الموسيقى طيلة السنة، لكن ما إن يقترب وقت تحضيره لألبومه حتى يتوقف عن سماع كل شيء عدا الست. لدى أدهم نظريات موسيقية عن عمرو دياب تؤكد أن أغانيه تميل إلى الموسيقى الشرقية أكثر من الغربية، وأن أم كلثوم هي مثله الأعلى. هذه نظريات لم تفهمها نهى بالكامل، وفضلت أن تحب عمرو دياب والست بلا تعقيد. لم تكن من هواتهما قبل أن تعرفه، لكن انتقلت إليها عدوى شغفه بهما، فأصبحا هما أيضًا مطربيها المفضلين.

الخطر الوحيد الذي اشتمته من هوس زوجها بعمرو دياب، أنه بحسب تعبيره رجل المراحل؛ يؤمن أن لكل مرحلة أهلها، يشطبهم من حياته عند انتهاء الحاجة إليهم، ثم يستبدلهم بآخرين. دورة لا تنتهي، إذ يحيط نفسه، كما فهمت من أدهم، بشباب أصغر كي يضمن بقاءه ضد التيارات الجارفة للزمن. أدركت أن ذلك هو الرابط الوحيد المنطقي المعقول بينه وبين أم كلثوم؛ فهي أيضًا تخلصت من رجالها أولًا بأول كي تضمن تجددها. وهو استنتاج ما أن توصلت إليه حتى بدت لها كل تحليلاته الفنية الأخرى محض هراء يخفي به فكرته التي تخفي رغبة مسمومة في العظمة، وقلق دفين بشأن انحطاط حياته.

ألهذا إذن استبدل أدهم دائرة أصدقاء المقهى بآخرين؟ بعضهم بالفعل شباب أصغر، الرابط بينهم أنهم قريبون من دوائر الإعداد التليفزيوني، الذين قد يساعدونه على تحقيق حلمه بالتحول إلى محلل رياضي. لكنه حتى الآن لم يطلب منهم شيئًا كهذا، ولم يلمح له حتى. تعرف ذلك عن يقين، لأنها سألته بشكل مباشر، فأجابها:

"لا أريد أن أدين لأحد بشيء"

يغمرك أدهم أولًا بحنان العالم ومودته، بخدمات لم تفكر فيها حتى، حارسك الأمين، جني المصباح الذي عثرت عليه لأنك محظوظ. في ذلك تكمن غوايته كلها، إذ ستقدم له طواعية كل ما يريده دون أن يطلب. كما أنه سيغفر لك كل أخطائك الصغيرة، وستظن أنك وجدت أخيرًا الصديق المثالي، بينما هو يدخر تلك الأخطاء حتى تتكوم عنده كجبل، حتى إذا استدار عنك؛ لأن هوسه برغبة معينة قد خفت، ولم تعد تملك أن تقدم له المزيد، سيقطع علاقته بك فجأة- ودون أن يملك الجرأة حتى أن يفجر تلك الأخطاء في وجهك- فلا يضطر إلى أن يواجه ذاته، أو أن يشكك في خرافة العصامي الذي حقق كل شيء بنفسه، دون أن يدين لأحد بشيء.

تفهم نهى تلك المسألة جيدًا، وبررتها بخذلان أبيه له، واضطراره أن يبدأ أولى خطواته بعد أن هجر بيت عائلته شبه طريد، وحيدًا بلا رفقة أو مال، لا يملك إلا ساقين طويلتين. ما لم تفكر فيه إلى النهاية، ويلوح شبحه الآن، ما الذي يمنعه أن يكرر الدورة نفسها معها؟ هل تملك المزيد لتقديمه كي لا يفر؟

هوس التحول إلى محلل رياضي ضرب عقل زوجها فجأة عندما ظهر صديق قديم يدعى عمرو شلباية في برنامج مغمور على قناة النيل الرياضية كمحلل للمباريات.

كان شلباية واحدًا من شلة شبابه الذين فرقتهم السبل. شاركه في العشرينات من عمره حب كرة القدم، وكان زميلًا له كمعد في شركة إنتاج أفلام وثائقية، قبل أن يترك أدهم المهنة كلها ليستقر من أجل أسرته في منصب قيادي في شركة اتصالات أمريكية تعمل من مصر، ويحظى منها براتب كبير ومزايا أخرى كالتأمين الصحي الشامل له ولأسرته.

رغم أن نهى لا تفهم الكثير عن كرة القدم، إلا أنها انجذبت لطريقة صديق زوجها في الحديث. بدا لها واثقًا من نفسه، مرتبًا، غير مرتبك، قادرًا على أن يجعل من موضوع لا يهمها البتة قصة شائقة. ومع تكرار مرات ظهوره، بدا لها كأن نجمًا يولد، وأنها مسألة وقت قبل أن ينتقل إلى قناة أكبر وبرامج أشهر، وهو ما حدث بالفعل. أو ربما استنتجت هذا من الأهمية التي أولاها أدهم لحدث ظهور صديقه كمحلل رياضي، إذ تابعه بشغف ظنته في البداية ودًا وفخرًا بصديقه القديم، قبل أن يقول ذات مرة بنبرة هادئة مستهزئة:

"إذا كان شلباية قد استطاع بقدراته الضعيفة في فهم اللعبة أن يفعلها، فأنا أيضًا أستطيع".

لم تظن للحظة أن عبارته التي بدت لها كزفرة لاهية غير مقصودة ستتحول إلى خطة عمل. بدأها بمحاولة استعادة الود القديم بينه وبين صديقه القديم، فحاول أن يلتقيه بوتيرة أكبر كما كانا يفعلان في شبابهما، بل دبر لقاء أسريًا يجمع بين الزوجتين والأطفال. لقاء لم يشعرها بالارتياح، إذ كانت تنزلق هي نفسها في مقارنات بينها وبين زوجة شلباية وأطفاله.

توقفت تلك اللقاءات لتحجج شلباية بانشغاله بعد أن أتته عروض أكبر بالظهور كمحلل رياضي في قنوات أكثر شهرة. ولأنها أدركت الغضب الكامن في نفس أدهم، مما يظنه فرصة أخطأته وأصابت من لا يستحق، فقد بدأت في التقليل من قدرات صديقه، وأيدت قوله:

"كل ما أحتاجه هو فرصة… بل نصف فرصة للظهور على الشاشة… مش كيميا".

بالنسبة له، لا شيء في العالم هو كيمياء، مجرد تحدٍ بسيط واختبار لقدراته المحصنة من كل شك، سيتمكن من اجتيازه عبر ترديد عبارات من قبيل أنه قادر على فعل أي شيء. ثقة جبارة في النفس، سرعان ما أدركت أنها عكست شكًا عظيمًا فيها، وفي ضآلة قدراتها. طبقات من جراح وضعف، لكن دون تلك الثقة المصنوعة، سيضطر إلى مواجهة ما لا قبل له به. كأنما يرمم عبر اصطناع الثقة شروخًا في ذاته، وبدا لها أن ذلك عمل شاق لفرد.

كان أملها الوحيد أنه إذا نجح في الظهور في حلقة واحدة كمحلل رياضي، فلن يعنيه الأمر بعد ذلك، وستختفي معها تلك الرغبة. كل ما يريده أن يثبت لنفسه أن شلباية لم يأتِ بشيء يعجز عن فعله. دورة تكررت أمامها عشرات المرات من قبل، لكن كلها كانت أمورًا بسيطة. لكن لماذا تشعر بالتهديد تلك المرة؟

كتب عددًا من المقالات التحليلية للمباريات، وحاول نشرها في عدد من المواقع مستغلًا بعضًا من علاقاته القديمة أيام عمله في إنتاج الأفلام الوثائقية، لكنها لم تلق صدى، ولم يقرأها سوى قلة من أصدقائه، ليس من بينهم شلباية، اصطدم بحقيقة أن أشياء كثيرة تنقصه، لكنها "ليست كيميا". كانت مقالات جيدة، لكن ينقصها شيء لم تتمكن من تحديده، شيء يملكه "شلباية".

من تلك اللحظة المجنونة وهي تخسره، كل شيء في حياته العادية صار عائقًا أمام تحقيق هدفه الجديد. ظنتها واحدة من الأزمات التي تصيب الرجال عند مرحلة معينة من العمر، كان قد تخطى لتوه السابعة والثلاثين من عمره، لكن الأيام تخبرها أن الأمر أكبر من ذلك.

مع هوس الظهور كمحلل رياضي، ضربه هوس آخر، وهو الاعتناء بمظهره. لم تكن ترى في الأمر شيئًا معيبًا أو خطيرًا، وظنته مرتبطًا بفكرة الظهور في التلفزيون، لولا أن ذلك الاهتمام بالمظهر حوله إلى شيء آخر، أكثر أنثوية، ناعمًا في كل شيء كما لم تعتده. كل مرة يخرج فيها من المنزل، كأنه يتزين للقاء امرأة، امرأة لا يعرفها على وجه اليقين، لكنه سيتصيدها بمجرد خروجه، أو لتتصيده هي، رغم أنها لم تضبطه متلبسًا بخيانتها. ترى معاملة النساء وقد تغيرت تجاهه بالفعل، يبدو في سيره كماكينة غواية محمولة على ساقين طويلتين، لكن يصدهن شيء في اللحظة الأخيرة، ليست دبلة زواجه، بل لأن شيئًا داخله لم يحسم بعد، هل ما زال يحبها؟ أم أنها العقبة الأخيرة في طريقه؟

رغم ثقتها بقوة ملاحظتها وإدراكها لأدق التغييرات، إلا أنها تعلم يقينًا أن تفصيلة ما قد فاتتها، تفصيلة واحدة أكثر دقة من كل ما لاحظته، تجعلها تسير وتعيش وتحيا بجوار شخص غريب عنها. لا يمكنها أن تواجهه بشيء، فمن ناحية ما زال يتصرف في الظاهر كرب عائلة مثالي، حتى وهو يعاني نوبات شرود وأحلام أخرى بشأن حياته، خطط مؤجلة وأخرى غائمة وأخرى ما زالت في رحم العدم، لكنه يبدو كمن يؤدي دوره بشكل آلي أعمى وروتيني.

صعدت بالطفلين إلى منزل أهلها، وطلبت من أدهم انتظارها في السيارة. تلت على أبويها يائسة لائحة الممنوعات، وأقسم لها الأب، وهو مدير عام متقاعد في السبعين، بأيمان الله أنه لن يخرق محرماتها المقدسة، بينما يغمز بسذاجة إلى الطفلين. تنهدت مستسلمة، قبل أن تفكر أنها غاضبة منه، ليس لأنه سيضرب بوصاياها عرض الحائط، بل لأنه، وهو الذي كان أقصر من أدهم بسنتميترات قليلة، خانها ولم يمرر إليها جين الطول الذي مرره لأشقائها الذكور بسلاسة، وتركها لترث قصر الأم.

هبطت لتلاقي أدهم في السيارة، كان على الهاتف مع أحد، قال له إنه سيعاود الاتصال به؛ لأنه في مشوار مع زوجته، ربما بعد منتصف الليل، إذا ما كان سهرانًا. لم تعرف إن كان من يحدثه رجلًا أو امرأة، لكن ما رأته قبل أن تركب أنه كان سعيدًا بحق، وكل ما فيه منبسط وتلقائي ومتوهج، ثم انطفأ كل شيء بحضورها.

أم كلثوم تصدح الآن من كاسيت السيارة "كان صرحًا من خيال فهوى" بدلًا من عمرو دياب، حيث لا يسعها، وفق ما اعتادت تزييفه في حضرته، سوى أن تستمع في نشوة، وتترك له مجال التعليق على الفارق في حفلاتها في تونس والمغرب وحفلاتها في مصر.

كل تلك الأغنيات ليست سوى طريقته في حصارها لمنع الكلام، فخه الذي طالما استسلمت لغوايته. ربما عليها أن تنتبه تلك المرة، أن تصر على الكلام، ورغم أنها تملك منه فيضًا قد يغرقهما معًا، إلا أنها لم تجد ما تقوله سوى أن تتمتم مع الست:

"لك إبطاء المذل المنعم وتجني القادر المحتكم".

عندما بلغ المول، فوجئ بصبي صغير يصر على تنظيف زجاج سيارته الذي لم يكن في حاجة إلى تنظيف. بعد أن يئس من أن يستجيب الصبي لطلبه بأن يترك سيارته وشأنها، قال بهدوء:

"براحتك".

انتظر حتى انتهى الصبي من تنظيفها، ثم غادر السيارة دون أن يمنحه جنيها واحدًا. لم يفعلها عن بخل، تدرك نهى ذلك، فتلك القسوة يعتبرها نوعًا من العدالة ضد عدم انتظام العالم في سلسلة عقلانية من الأسباب والنتائج. سيارة ليست بحاجة إلى تنظيف، أوضح ذلك جيدًا، ورغم ذلك لم يستجب الصبي. كانت قد استسلمت لفهم منطقه، لكنها المرة الأولى التي تتساءل فيها، ما الذي يفوت زوجها رؤيته؟ ألهذا لم يتمكن من ملاحظة أن ساقيه تزدادان طولًا، لا لشيء إلا أنه أمر لا يبدو منطقيًا بالنسبة إليه؟

في المول، لم تجد الحذاء ذي الكعب العالي الذي أرادته بسهولة، لكنها لم تترك محلًا دون أن تدخله. أصرت على أن يدخل معها في كل مرة، وأن تتشبث بذراعيه أثناء السير. بدا شكلها مضحكًا، تعلم من ضحكات النساء وغمزاتهن أنها بدت كمن تتدلى من خاصرته كزائدة، أو كمن تقدم عرضًا في سيرك يجمع بين قزم وعملاق، بين امرأة تزداد قبحًا ورجلًا يزداد وسامة وغواية. كانت كرامتها تدهس مع كل خطوة، لكنها كانت يائسة بما يكفي للدفاع عن رجلها، لمنع ساقيه الطويلتين من الشرود، ولو عبر تحويل نفسها إلى مهرجة.

عثرت على حذائها المنشود أخيرًا، وأصرت على أن تخرج من محل الأحذية وهي ترتديه، وأن تسير بجواره وهي أطول بعشرة سنتيمترات. كانت فرحة كطفلة، حتى إنها كادت أن تقول:

"تسابقني؟"

تراجعت في اللحظة المناسبة، لا، ليس هذا ما ترغب فيه، بل أن ينضبط إيقاع خطوتيهما معًا. أفلتت عنان ذراعه، لكن بعد أقل من بضع خطوات، سبقها شاردًا. تلك المرة لم تنبهه، بل تركته لشروده، ووقفت في مكانها حتى استفاق من تلقاء نفسه. فضحكت إذ أدركت للمرة الأولى أنه لا يهم حقًا إن كانت ملاحظتها بشأن طول ساقيه حقيقية أم لا، ففي الحالتين يستحق الأمر أن يكون مضحكًا، وأنها طريقة وجدها عقلها ليشغلها عما ترغب في قوله حقًا. إنهما في حاجة إلى ما هو أكبر من سرير جديد، ربما انفصال مؤقت لإعادة تقييم علاقتهما الفاترة، إما بث الأشواق والحب من جديد وإما…

وإما؟؟ هي لا تعرف إما ماذا، ولا يمكنها أن تتخيله. وعندما داعبها طيف فكرة الطلاق، طردته بعنف، وأنبت نفسها. هي ما زالت تحبه وتأمل أن كل شيء يمكن إصلاحه، وما زالت تراهن على عودته إلى سابق عهده، رجلًا يحوطها بحنان العالم ورعايته قبل أن تطلب، وليس كما يفعل الآن، كروبوت في متاهة.

ما تنشده هو: الصدق. أما هذا الوضع فزائف حقًا للدرجة التي لو فكرت في حقيقته بعمق وللنهاية لأفلتت العنان لغضب قاصم.

يغفر لها أدهم كل شيء، بما فيها مزاجها المتقلب العصبي وتأنيبها له من حين لآخر، ويسمح لقوة شخصيتها أن تظهر في حضوره. أما الغضب الحقيقي، فهي تعلم أنه يذكره بكل ترومات طفولته مع أبيه. يفضل أن يختزن غضبه، وأن يختزن الآخرون غضبهم على المواجهة. ما كانت تفسره على أنه خشية عليها، هدوء رجل حقيقي يمتص به عصبيتها وقلقها، كان مجرد هرب من المواجهة، حرمانًا لها من حق أصيل: أن تغضب بقوة وبصدق. تسع سنوات وهو ينزع فتيل أي قنبلة محتملة بنبرته الهادئة العقلانية، التي أحبتها ذات يوم وأشعرتها بالثقة، بينما لم تكن سوى قيد حريري.

منذ ثلاثة أشهر، وهي تفكر في الأمر حتى صاغت العبارة في ذهنها بألطف شكل ممكن: "إجازة زوجية". لكن ما لم تعرفه هو كيف تفتح معه موضوعًا كهذا دون أن تجرح مشاعره أو أن ينتهي الأمر بنقاش يحسمه لصالحه كعادته. كما أنها لا تثق بدقة مما تريده، هل هو الحب فقط؟

هل عليها هي أن تفجر القنبلة؟

عندما خرج من المول، وجد خدشًا طويلًا وعميقًا يكشف اللون الفضي لمعدن باب سيارته. لم يغضب، بل ظل ينظر في ذهول إلى الخدش الذي نُفذ عن عمد. كان الصبي المتسول الذي أهانه بلا شك. ظل أدهم لدقائق مرت كدهر ينقل بصره بين الخدش وبين الحشود الداخلة إلى المول، يتهمهم جميعًا، تكاد الدموع أن تطفر من عينيه. ينتفض بكل ما فيه، وهو يمرر يده على الخدش كأنه يمررها على جرح ساخن، يكاد جسده أن ينفجر من غضب مكتوم.

حاولت الاقتراب منه لتهدئته، لكنه جفل منها، ليس عن ذعر شخص شارد في ملكوت غضبه، بل عن نفور سيسكن في قلبها كطعنة نافذة. إنه يصنفها ضمن أعدائه، وضد كل ما يغضبه من هذا العالم، دون أن يملك القدرة على مواجهته، يتهمها مع الجميع.

بالنسبة له، كل شيء على خطأ ينبغي تصحيحه، لأن كل شيء ليس على شاكلته: قمصان تتراوح بين الرمادي والأزرق الغامق تجوب الأرض بساقين طويلتين، وهي الطريقة الوحيدة التي ستجعله يطمئن. هي نفسها مجرد خطأ، لا يمكن لحذاء ذي كعب طويل أن يصححه.

أشار إليها أن تركب ليعودا إلى البيت، أصيبت بإحباط، كانت تفضل لو أنه فجر غضبه حقًا ضد أي شخص، عله يكتشف منبعه الحقيقي، فلا يعلقه في عنق صبي متسول أو زوجة قامتها تصل إلى نصف قامته.

إنها تفهمه بعمق وأسى نافذ. أليس فهم الآخر هو الحب؟ أم هو الجدار الإسمنتي الذي لا يمكن للحب أن يخترقه؟ هل يتطلب الحب العمى أم الشفافية؟

في الطريق، كان صمت القبر ينبعث من كاسيت السيارة، حتى وصلا إلى المنزل دون أن ينبس أحدهما بكلمة. ارتمى على السرير بملابسه، وخلعت حذاءها ذي الكعب، وارتدت ملابس النوم، ثم غطست في السرير بجواره. قال لها، ورغم أنها لم تطالبه بوعد أن ينتهي يومهما بليلة حب، إلا أنه بادرها قائلًا:

"مزاجي ليس بخير.. بسبب ما فعله الصبي".

"أنا أيضا أشعر بصداع رهيب".

"غدًا إذن؟"

ابتسمت نصف ابتسامة، ثم استدارت لتنام. التقط الآيباد وخرج إلى الصالة ليشاهد مباراة نهائي الكأس الأوروبي للمرة الأولى بعد  الألف. لم تمر دقائق حتى سمعت صوت خرير الماء من دش الحمام. كانت تعلم تمامًا ما الذي يفعله؛ كان يستمني، مفرغًا غضبًا بلا حدود وشهوات بلا حدود. بكت في صمت حتى ذهبت في النوم.

حلمت بنفسها مقيدة بسلسلة طويلة في نهايتها حذاء ضخم ذو كعب طويل يدور بها في السماء. كانت تتسلق السلسلة وصولًا إليه، وما أن اقتربت منه حتى قطع الحذاء السلسلة. سقطت في الفراغ بينما الحذاء يختفي بين السحب ويبتلعه الشدق الجائع الذي انشق في الأعالي، تلاشى ذعرها بالتدريج، في خفة الهواء، عثر الجسد على توازنه، احتضنها الهواء، وفيه ظلت تسبح، تطير.

***

** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بقصته دون إذن منه